محمد يتيم
اللعبة التي دخلت فيها بعض الاطراف بمجلس المستشارين والمتمثلة في التأجيل اللامتناهي لمناقشة مشاريع القوانين الخاصة بالتقاعد تكشف بالملموس الى أي مدى يمكن أن يصل التخلي عن المسؤولية الملقاة على عاتق موسسة دستورية دورها الأساسي هو التشريع وإبداء الرأي في النصوص المقدمة اليها، وإبراء ذمتها بإدخال ما تراه مناسبا من تعديلات او التصويت ضده وإبراء ذمتها امام المواطنين وتحميل الحكومة وأغلبيتها للمسؤولية السياسية لما سيترتب على ذلك من مضار وحيف محتملي الوقوع او سيقعان فعلا خاصة حين يتعلق الامر بانقاذ نظام المعاشات المدنية المهدد بالإفلاس ومنظومة التقاعد عموما .
لجأت هذه الاطراف الى لعبة من نوع آخر هي لعبة الإضراب عن التشريع و تعطيل سير مؤسسة تشريعية وتخليها عن دورها، واستخدام صلاحيتها في التشريع في عملية ابتزاز وضغط سياسي، بعد أن خاضت المركزيات النقابية في ذلك من خلال ” إضرابات ” و” مسيرات ” دعيت لها فئات خارج التغطية الاجتماعية وانظمة التقاعد !! إضرابات لم تف بالغرض ولن تفي بِه، خاصة وأن الامر يتعلق بموضوع وطني كان من الاولى الابتعاد به عن المزايدات والمساومات، وأنه طرح ويطرح وسيطرح نفسه بحدة سواء في هذه الولاية الحكومية أو في غيرها.
تحدث هذه المحاولة لاختطاف العملية التشريعية وربطها برهانات ومسارات خارج المسار التشريعي ومؤسسة البرلمان بعد أن اثبتت المركزيات النقابية والحكومات السابقة التي بعض المركزيات النقابية المضربة اليوم تنتمي اليها أو هي قريبة منها أنها تهربت من دورها، ولعبت لعبة التسويف ورفض الانخراط في الاصلاح ، تارة بدعوى ان الاصلاح ينبغي ان يكون شموليا !! ، وتارة اخرى بالمطالبة بتمديد عمر اللجنة التقنية للقيام بمزيد من ” الدراسات ” ومزيد من ” السفريات “،
يحدث ذلك بعد سقوط آخر التعلات ومنها مزيد من المشاورات من خلال إحالة الملف على مكتب العمل الدولي الذي لم يضف رأيه شيئا جديدا الى الدراسات التي كانت قد قامت بها مديرية التأمينات، ولا مكتب الدراسات ” اكتواريا “،
يحدث ذلك بعد صدور تقريرين في الموضوع عن مؤسستين دستوريتين هما المجلس الاعلى للحسابات ثم المجلس الاقتصادي والاجتماعي، مؤسستين لا يمكن اتهامهما بالانحياز للحكومة، تقريرين خلصا الى نفس المعطيات من حيث التشخيص، والى أن الاصلاح مسألة حتمية ،والى استعجالية اصلاح نظام المعاشات المدنية، علما أن رأي المجلس الاقتصادي والاجتماعي قد تضمن مقترحات تحسينية كان من الممكن المركزيات النقابية هي والفرق السياسية في مجلس المستشارين اعتمادها او الزيادة عليها.
تمت احالة مشاريع القوانين بعد أن ماطلت النقابات ومانعت في تحمل مسؤوليتها في إصلاح منظومة التقاعد بدعوى الاصلاح الشمولي تارة، وبدعوى ربط مسألة التقاعد بالحوار الاجتماعي، مما دفع برئيس الحكومة في لحظة من اللحظات الى التصريح بأنه مستعد لتحمل التبعات السياسية للاصلاح وإعفاء النقابات من الحرج مع قواعدها، مما كان يمكن أن بكون مخرجا للنقابات،
وبدل ان تتقدم المركزيات النقابية او الفرق السياسية التي تلعب لعبتها، بمقترحات بديلة ملموسة، وليس الاكتفاء بشعارات عامة، وتتقدم بتعديلات حول المشاريع تبين عن قوتها الاقتراحية، وربما قد تشكل إحراجا للحكومة وتحشرها في الزاوية، هاهي ذي المركزيات النقابية وبعض الفرق السياسية التي تساندها في مجلس المستشارين تسلك سلوكا خطيرا وتؤسس لسابقة، حيث تطالب بإرجاع مشاريع القوانين لمائدة الحوار الاجتماعي، وهي بذلك تريد من مؤسسة برلمانية التخلي عن دورها الدستوري، بعد أن قدمت مؤسستان دستوريتان دورهما بإبداء رأيين استشارين في الموضوع ! وقامت مؤسسة دستورية ثالثة هي الحكومة بدورها في مسار التشريع أي إحالة مشاريع القوانين بعد إحالتها على المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، وبعد أن أحالها مجلس النواب على المجلس الاعلى للحسابات من أجل إبداء الرأي .
من الناحية السياسية كان يمكن وما زال ممكنا ان تضرب الحكومة صفحا عن الموضوع وتترك الكرة في ملعب المستشارين وتحمل النقابات والفرق السياسية المسؤولية التاريخية أمام تعطيل اصلاح جوهري، مع ما يمكن ان يترتب على ذلك من تعقيد مهمة الاصلاح وما سينجم عن ذلك من تكلفة اكبر مما يمكن ان تتحمله الشغيلة، حيث إن كل تأخير عن الاصلاح يزيد من تعقيد مهمة الاصلاح بسبب ما يؤدي اليه من استنزاف احتياطات نظام المعاشات المدنية والزيادة في حجم الديون الضمنية للنظام .
من الناحية السياسية يمكن للحكومة أن تضرب صفحا عن الاصلاح ما دام السنة سنة انتخابية، وأن تلقي بالكرة على ولاية حكومية اخرى، حيث إن من شأن تأجيل الاصلاح الى أجل مسمى أن يعفيها من وجع الرأس، ومن الآثار السلبية التي يمكن أن تترتب عن إمضاء هذا الاصلاح لولا انه ضروري على مرارته مثله مثل الدواء.
من الناحية السياسية كان يمكن للحكومة وما زال ممكنا أن تحمل النقابات والفرق السياسية مسؤولية تعطيل قرار توسيع التغطية الصحية بالنسبة للمستقلين اي توسيع قاعدة المنخرطين الذي يعتبر إحدى الآليات لبداية الانخراط في مسلسل للاصلاح الشامل وقد ظل هذا المطلب من المطالَب التي تركز عليها المركزيات النقابية، اي مسؤولية حرمان مىات الآلاف من المواطنين من الحق في التغطية الاجتماعية . كان من الممكن ان تحملها مسؤولية تفويت عدد من الاجراءات المواكبة حيث كان بإمكان النقابات ات تفاوض على انتزاع عدد من المكاسب للشغيلة بعضها ورد في تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي من قبيل استحداث درجة جديدة او تحسبن دخل الشغيلة من خلال مداخل متعددة متفاوض حولها!!
يوجد مجلس المستشارين اليوم من خلال هذه النازلة على المحك، ويعاد من جديد التساؤل القديم الجديد: هل سيتحول المجلس إلى أداة للتوازن وفرملة الإصلاح وإفراغ العملية الديمقراطية من محتواها ؟
إذن فرئيس مجلس المستشارين ومكتبه وندوة رؤسائه على المحك، محك المسؤولية عن تعطيل التشريع اذا لم يتدخلوا اولا والمبادرة إرجاع الامر الى سكته في هذه النازلة ثم معالجة الثغرات القانونية التي يمكن من خلال تعطيل العمليات التشريعية واختطافها من قبل البعض، وجعل مؤسسة دستورية تحت وصاية نمط من التفكير النقابي الذي أكل عليه الدهر وشرب.