بلال التليدي
ربما تكون هذه هي المرة الأولى التي يبادر فيها حزب سياسي بترسيخ سلوك التعهد السياسي بتحصين التعاقد مع حلفائه قبيل الاستحقاقات الانتخابية، هذا مع بروز مؤشرات عدة ترجح أن يكون هو المتصدر لنتائج الانتخابات التشريعية من السابع من أكتوبر المقبل.
رأينا بشكل ما، مع لحظة التناوب أو قبلها، بروز الكتلة الديمقراطية كإطار سياسي لقيادة الإصلاح ومواجهة الحزب السري، والذي وفى بتحالفاته بعد انتخابات 1997، وكانت لحظة بناء تجربة التناوب الإصلاحية الأولى، لكن بعد ذلك، بقيت الكتلة أشبه ما تكون بكيان ميت يتم استدعاؤه رمزيا للتعبير عن اصطفاف ما أو رفض اصطفاف آخر، لكن هذا الوفاء لم يستمر لما بعد تجربة التناوب، أي لم نر مكونات حكومة التناوب تتداعى مجتمعة، أو يتداعى الحزب الذي تصدر نتائج الانتخابات فيها (الاتحاد الاشتراكي سنة 1997 و2002) يدعو مكونات الكتلة ومن عضدها إلى تحصين تحالفاتهم للدخول بهذا التعهد لانتخابات 2002.
قبل الاستحقاقات الانتخابية لـ25 نونبر 2011، اتجهت السلوكات التحالفية في التجربة السياسية في المغرب في مسارين عدة:
– إعلان التحالفات لقطع الطريق على حزب العدالة والتنمية من خلال تجربة مجموعة الثمانية.
– استدعاء الكتلة الديمقراطية كشكل من أشكال التعبير عن الحياد وعدم الاصطفاف مع غموض كبير في تحديد وجهة التحالفات، وتسجيل خلاف كبير في تحالفات كل حزب على حدة (الاستقلال والاتحاد الاشتراكي، والتقدم والاشتراكية).
لكن، بعد الإعلان عن نتائج الانتخابات، وبعد فشل مجموعة الثمانية في تصدر نتائج الانتخابات، سارت التحالفات الواقعية بشكل مختلف تماما لما كانت عليه قبيل الاستحقاقات، وانتهى الأمر إلى تحالف العدالة والتنمية (الذي بقي معزولا من طرف مجموعة الثمانية ومجموعة الكتلة) مع بعض مكونات الكتلة ومكونات مجموعة الثمانية.
اليوم، الأمر مختلف، ثمة حزب تصدر العملية الانتخابية في استحقاق 25 نونبر 2011، وتتوافر له حظوظ كبيرة- لا تتوفر لغيره- للفوز بالانتخابات القادمة، لكن مع ذلك يختار أن يحصن تجربته الحكومية من خلال ترسيخ سلوك التعهد القبلي بالاستمرار في التجربة الحكومية، إذ عقد في هذا السياق لقاءين اثنين: الأول مع حزب التقدم والاشتراكية، والثاني مع الحركة الشعبية، وكانت مخرجات اللقاءين تعهد هذه الأحزاب الثلاثة بتحصين هذا التحالف بعد الانتخابات.
نعم، المسار لم يكتمل بعد، وربما يتجه أبعد من مجرد تحصين التحالف، إذ ربما يأخذ منحى سياسيا واضحا يروم العزل السياسي لحزب التحكم، من خلال الانفتاح على حزب الاستقلال وحزب الاتحاد الاشتراكي، أو على الأقل دفع بعض مكونات التحالف لإقناع حزب الاتحاد الاشتراكي للخروج من دائرة اصطفافه مع الأصالة والمعاصرة، وهو أمر ممكن بدأت بعض مؤشراته تظهر من خلال تصريحات من القيادة الجديدة لحزب الاتحاد الاشتراكي لا تسد الطريق أمام التحالف مع حزب العدالة والتنمية.
ليس القصد من هذا المقال التوقف عند الدلالات السياسية لهذا التحالف، وما إذا كان سيؤدي بالفعل إلى عزل حزب التحكم، لكن ما يهم بدرجة الأولى في هذا التحليل هو تسليط الضوء على المنطق الأخلاقي في التحالف.
كان من الممكن سياسيا أن يتحرر حزب العدالة والتنمية من أي تعهد قبلي، وأن يتجه إلى إنتاج لغة توسيع الخيارات حتى يضمن لنفسه أوسع قاعدة تحرك في اتجاه نسح التحالفات، فالتجربة الماضية- وبالتحديد تجربة النسخة الثانية من الحكومة- علمته أن دائرة الخيارات تضيق جدا عندما يتعلق الأمر بالتشكيل الفعلي للحكومة، لكن، مع هذه الخبرة، فإن هذا الحزب غلب البعد الأخلاقي على ما سواه، إذ فضل أن يشتغل على الطمأنة المسبقة لشركائه حتى قبل أن تعلن الانتخابات عن نتائجها.
قد يبدو تشغيل البعد الأخلاقي في سياسة التحالفات جنونا يضيق مساحة الخيارات، أو يلزم ببعض الخيارات غير المرجوحة فيها، لكن عمقه السياسي، يبين أنه يحقق أبعد من مجرد توسيع الخيارات والحسابات العددية، لأنه مرتبط أولا بإعطاء صورة عن وجود إرادة سياسية مشتركة لدى الفاعلين السياسيين المشاركين في الحكومة للاستمرار في التجربة الإصلاحية، ثم مرتبط ثانيا بالصورة التي تأخذها هذه الأحزاب عن الحزب الذي يقود الحكومة، إذ أن قبولها للانخراط في هذه الدينامية ينفي أي تهمة بوجود سلوك للهيمنة يطبع تصرف الحزب الذي يقود الحكومة، ثم مرتبط ثالثا بقصد سياسي يتمثل في النجاح في العزل السياسي الجماعي لحزب التحكم.
بالأمس القريب، كانت المعركة مع حزب التحكم تقاد من حزب واحد، فصار إلى جانبه – وتقريبا بنفس اللغة ونفس التشخيص والتقدير- حزب التقدم والاشتراكية، واليوم يبدو أن الدائرة تتسع لتصير أشبه ما تكون بجهة سياسية عريضة ترى أن حزب التحكم خطر على المشهد السياسي، وأن العودة للحياة السياسية الطبيعية -من غير حزب يولد بملعقة في فمه- هو أفضل خيار للتقدم في مسار الإصلاحات، ولتقوية الجبهة الداخلية لمواجهة التحديات التي تواجه القضايا الوطنية وفي مقدمتها قضية الوحدة الترابية.