بلال التليدي
ثمة أزمات وصدمات تحولها الشعوب والدول إلى لحظة يقظة مستمرة تجعلها دائما في حصانة من الوقوع مرة ثانية في موجبات وأسباب الضربات التي تلقتها.
حدث 16 ماي 2003 كان أليما بكل المقاييس، وكان دمويا، وكشف بما لا يدع مجالا للشك بأن هناك فراغا كبيرا يستثمر خارج الشرعية لبناء أوهام والتغرير بشباب يائس من أجل تحقيق أحلام طوباوية إجرامية.
لكن مع الألم، الذي أحس به جميع المغاربة بمختلف أطيافهم، كانت اللحظة بالنسبة إلى المغرب دولة وشعبا، لحظة تفكير استراتيجية عميقة، طالت النموذج الديني، والمقاربة الأمنية والنموذج التنموي أيضا.
جواب المغرب على المستوى الديني، كان في مستوى عال من الحكمة والوسطية والاعتدال، إذ استعمل المغرب مشرطا دقيقا للفصل بين المشكلة في جوهرها (التطرف) وبين التوظيفات السياسية لهذا الموضوع للتأثير على النسق السياسي المغربي وعلى حيويته القائمة على الاستيعاب السياسي، إذ توجهت المؤسسة الملكية، إلى استكمال بناء نظام إمارة المؤمنين، لتأمين الوظيفة الجامعة للمسجد وإبعاد السياسة عن ساحته، وتقوية ثوابت المملكة، وإعادة النظر في التربية الدينية.
نتيجة هذا الجواب، لم تكن فقط هي استقرار المجال الديني وسد المنافذ على التطرف، بل تحول المغرب إلى نقطة إشعاع في الخارج، إذ كثر الطلب عربيا وإفريقيا وأوربيا على أنموذجه الديني.
جواب المغرب على المستوى الأمني، كان في أعلى مستوياته، إذ لم يكتف بمواكبة الفعل الإجرامي، بل نوع أساليبه، معتمدا في البدء استراتيجية استباقية، ثم استراتيجية اختراقية هجومية جعلت الخبرة المغربية محل طلب من لدن العديد من الدول الأوربية التي وضعت في دائرة الاستهداف الإرهابي.
نتيجة هذه المقاربة، تواترت عمليات التفكيك، وتم تجنيب المغرب عددا من الضربات الإرهابية الموجعة، كان آخرها المخطط الإرهابي الذي كان يستهدف مدينة طنجة. بل نتيجة هذا الجواب هو تثمين إسبانيا وفرنسا وبلجيكا ودول أخرى أوربية وغير أوربية لجهود المغرب في مكافحة الإرهاب، والتنويه بالجهود الأمنية المغربية في التنسيق المعلوماتي.
أما على مستوى النموذج التنموي، فما بين 2003 و2016، حصل انقلاب كبير في مفاصل هذا التوجه، إذ لم يعد النموذج التنموي المغربي مرتهنا لعوامل الطبيعة (الفلاحة) والتبعية لحال الاقتصاد الأوربي الشريك (تحويلات المغاربة المقيمين بالخارج، وقطاع الخدمات والسياحة)، بل انطلق من تكريس واقع تميز المغرب وتفرده في المنطقة بخاصية الاستقرار والانخراط في مسلسل الدمقرطة، وهو ما جذب له استثمارات دولية كبيرة ومسترسلة، وفتح الباب واسعا أمام الأوراش الكبرى لإنعاش المقاولة الوطنية، واتجه نحو التصنيع والقطاعات ذات المردودية (السيارات والطائرات)، واتجه نحو تحسين مناخ الأعمال وتبسيط مساطره وتشجيع الاستثمار الوطني والأجنبي.
نتيجة هذا الجواب، أن المغرب نجا من واقع الفوضى واللاستقرار الذي تعيشه عدد من البلدان، ونجا أيضا من امتدادات الظاهرة الإرهابية التي تقتات في بيئة التوترات السياسية، وحسن كثيرا من واقع الخدمات الاجتماعية (الصحة، والسكن واستقرار السير التربوي والتعليمي)، وساهم بقدر غير قليل في التقليص من واقع الهشاشة الاجتماعية، وأعطى الظروف المثلى لاشتغال بقية عناصر المقاربة المندمجة.
نتيجة هذا الجواب أيضا، هو اطراد وتواتر التنويهات من مؤسسات دولية مالية وائتمانية بواقع الاقتصاد المغربي، وواقع التنمية بهذا البلد، وحديث عن اتجاه المغرب بخطى أكيدة ومتدرجة نحو الولوج لعالم الدول الصاعدة.
هل يعني ذلك أن خطر الإرهاب والتطرف أصبح اليوم وراء ظهور المغاربة؟ وأن المقاربة المغربية لمكافحة الإرهاب استوفت جميع عناصرها؟
بالتأكيد لا.
فالإرهاب اليوم صار ظاهرة معقدة، ويتسم في الغالب بطابع التكيف مع الاستراتيجيات المكافحة، بل ومحاولة اختراقها، كما أن جذور التطرف في الثقافة والفكر ومستوى المعاش والامتدادات الإقليمية، تجعله قادرا على إعادة إنتاج نفسه بصيغ متعددة.
رصيد المغرب اليوم الديني والأمني والتنموي، يدعوه إلى تقوية مقاربته في مكافحة الإرهاب، بتقوية نموذج الديمقراطي، وتعزيز فعالية الأحزاب والمجتمع المدني على التأطير، وضمان الجودة والجدية في المنتوج التربوي والثقافي والإعلامي للخروج من واقع الفراغ واللامبالاة الذي يعتبر ملاذا للاستقطاب والتجنيد الإرهابي، وتقوية حاضنات التنشيط الثقافي والرياضي والفني عبر خلق مزيد من فضاءات القرب وإضفاء الجدية والتعددية واللاتسييس على مخرجاتها.
بكلمة، لقد كسب المغرب جولات كثيرة مع الإرهاب، وما ينتظرنا اليوم جميعا، دولة وحكومة، ومؤسسات وأحزابا ومجتمع مدني، ومثقفين وكتاب ودعاة، هو خوض معركة التأطير الفكري لتحصين الشباب من ملاذات الاستقطاب والتجنيد الإرهابي.