كلمة الموقع
هناك مؤشرات مقلقة من قلق البعض من الاحتمال الراجح في أن يحقق حزب العدالة والتنمية نجاحا انتخابيا شبيها بالنجاح الذي حققه خلال الانتخابات الجماعية في الرابع من شتنبر 2015، هو قلق بحد ذاته أمر غير عادي في مرحلة من المفترض أن نكون قد انتقلنا خطوة في مسار الانتقال الديمقراطي، الذي عنوانه الأكبر التطبيع مع ممارسة انتخابية سليمة تكون الخريطة السياسية في البلاد تعبيرا عن أحجام الأحزاب السياسية ودرجة شعبيتها وعملها في الميدان أو إنجازها على مستوى التدبير الحكومي ! والقطع مع كل أشكال التدخل المباشر أو غير المباشر أو الرجوع إلى لعبة التوازنات وتبريرها بخشية هيمنة حزب ما على المشهد السياسي !!
هذا القلق والنرفزة يعبران عن نفسيهما من خلال ممارسات متعددة منها على سبيل المثال: منع أنشطة تواصلية مفتوحة لحزب العدالة والتنمية بتبريرات واهية من بينها اعتبارها حملات انتخابية سابقة لأوانها، ومنع عدد من الجمعيات الخيرية والإحسانية التي كان تنشط خلال الشهر الفضيل وتقدم مساعدات للفقراء مخافة أن تكون لها صلة من قريب أو من بعيد بالعدالة والتنمية أو مع متعاطفيه، ومنع أنشطة لشبيبته وشن حملات تحريضية ومضللة على وزارة الداخلية مفادها التساهل مع الحزب في عمليات إنزال خلال عمليات التسجيل في اللوائح الانتخابية !!
هي نرفزة واضحة أيضا في التعديلات التي ستمس العتبة الانتخابية وتنزيلها إلى 3% بدل 6% في الوقت الذي كان يفترض أن نتقدم خطوات من أجل تقليص مفاسد البلقنة للخريطة السياسية .
لا يخفى على المراقب ذاك الميل المتزايد كلما اقتربت الانتخابات لدى عدد من الهيئات والجهات والمؤسسات الرسمية أحيانا للخروج عن حيادها على الأقل، وتوجها ممنهجا لتبخيس عمل الحكومة وقراءة حصيلتها قراءة سلبية في المجال الاقتصادي !! عكس ما تذهب إليه عدد من المؤسسات الدولية.
كما لا يخفى أيضا سعي البعض لتعطيل جانب من عمل المؤسسة التشريعية حتى لا تحسب عدد من الإصلاحات الكبرى في حصيلة الحكومة، فضلا عن نوع من التماطل في تنزيل المقتضيات العملية ذات الصِّلة ببعضها الذي تجاوز عقبة العرقلة التشريعية، ناهيك عن حملات إعلامية منظمة انقلبت فيها حتى بعض الصحف الأسبوعية التي كانت على العموم تتميز بالرصانة والموضوعية لتنتقل إلى الضفة الأخرى.
نلمسها أيضا في تصاعد حملات إعلامية منظمة تلتقي على تبخيس عمل الحكومة ورسم صورة سوداوية عن الوضع الاقتصادي، ولم يسلم من هذه النزعة تنظيم مقاولات المغرب الذي تحقق لمقاوليه في عهد الحكومة ما لم يكونوا يحلمون به خاصة فيما يتعلق بالاسترجاع الضريبي وتسريع حصولهم على مستحقاتهم من الدولة لدرجة توفرهم على سيولتهم قللت اعتمادهم على الاستدانة من السوق الداخلي، وهو أمر بدل أن تُشكر عليه الحكومة، صار مذمة كما ورد في تقرير لإحدى المؤسسات الكبرى!!
ولقد كان مثيرا أن تحس صحيفة ينظر إليها أنها متحيزة أو أنها تغازل العدالة والتنمية و”تدافع ” عنه !! أن تحس هي الأخرى بتلك النرفزة، وتقترح على الحزب القيام ب”ريجيم ” ( حمية ) من اجل تجنب اكتساح الانتخابات !!
فعلى غير عادة السيد توفيق بوعشرين الذي لطالما آخذ على بن كيران وحزب العدالة والتنمية ممارسة التحجيم الذاتي عند المشاركة في الانتخابات في ولايات سابقة، والتنازل عن الصلاحيات وعدم الذهاب مدعوما بالتفويض الشعبي إلى نهايته، على غير عادته تكلم السيد توفيق بوعشرين بلغة مخالفة في افتتاحية سابقة بعنوان: “ليس ضروريا أن يحب بن كيران الهمة “، ناصحا العدالة والتنمية بعكس ما كان يآخذه عليه .
نصح توفيق بوعشرين بتجنب الاكتساح وتقديم رسائل وضمانات تفيد أنه سينتصر في الانتخابات بالنقاط وليس بالضربة القاضية، على بنكيران – يقول السيد بوعشرين – أن يبعث رسائل واضحة إلى كل من يعنيه الأمر بأنه رجل المرحلة، وأنه لا ينوي بأي شكل من الأشكال، مسايرة الموجة الشعبية العارمة التي قد تجعله يكتسح الانتخابات المقبلة، وأنه رجل توافق واتفاق وتدرج، وأنه يفكر في المستقبل وليس في الحاضر فقط، وأنه يريد أن يفوز في الانتخابات، وهذا حقه، لكنه سيفوز بالنقاط وليس بالضربة القاضية في الجولة الأولى”.
ويضيف بوعشرين:” لا بد من إيجاد صيغة للتفاهم مع الدولة دون المساس بالخيار الديمقراطي، ودون ترك الصراع مفتوحا إلى درجة السقوط في الانحرافات، وعواقب المنهجيات غير الديمقراطية التي كلفت البلاد الكثير… على الجميع أن يحبوا بلدهم، وأن يضحوا من أجل استقراره وعبوره سالما هذا المنعطف الحساس، حيث بعض الأطراف في الدولة لها حساسية من الحزب الأول في المغرب”.
يوصي بوعشرين البيجيدي تبعا لذلك باعتماد “ريجيم طوعي مؤقت” وفي نفس الوقت يتوجه للدولة قائلا: إنه ليس عيبا أن تتوقف الدولة عن حقن البام بإبر «الدوباج»، وينصحها بالكف عن قص جناحي حزب العدالة والتنمية وهندسة خريطة انتخابية بعيدة عن الواقع لان ذلك مضر بصورة البلاد، ويعتبر أنه ليس عيبا أن نتجه إلى الانتخابات في هدوء، وليس عيبا ترسيم التطبيع بين كل الفرقاء من أجل المغرب والمغاربة.
البعض الآخر الذي يعي أن الاكتساح غير وارد حسب المعطيات الموضوعية خاصة في ضوء التقطيع والنظام الانتخابي، أصبح يسوق لمخاطر حزب العدالة والتنمية في المغرب، ولست أدري ما ذنبه إن كانت الأحزاب الأخرى قد تخلت عن مهمتها ووظيفتها !!
والواقع أنه لا أسطورة الاكتساح الانتخابي ولا أسطورة وجود حزب مهيمن بإمكانهما الصمود عند الفحص والتحليل العلمي !! فلا النظام الانتخابي يسعف بذلك ويشهد له، ولا التقطيع الانتخابي يمكن من ذلك الاكتساح،
لا تصمد هذه الأسطورة أيضا لوجود نظام الغرفتين حيث إن التوازن لحد الساعة مختل لفائدة المعارضة، ولا شيء يمنع أن يكون الأمر كذلك في المستقبل.
ولا تصمد أطروحة الهيمنة أيضا في وجه الفحص الموضوعي، إذا استحضرنا طبيعة النظام الدستوري حيث ما تزال للملك مركزيته في النظام السياسي، ليس فقط من حيث وظيفته كرمز للدولة وساهر أمين على حقوق وحريات المواطنين بل أيضا في صلاحياته التنفيذية، حيث يرأس مجلس الوزراء وتعود له الكلمة الأخيرة في تعيين رئيس الحكومة ووزرائها، فضلا عن أن الكلمة الأخيرة تعود له في تعيين المسؤولين الكبار في عدد من المؤسسات والمقاولات الإستراتيجية فضلا عن صلاحياته الدستورية في حل البرلمان وإقالة الحكومة والدعوة إلى انتخابات سابقة لأوانها ..
وهي الصلاحيات التي تصل إلى حد إعلان حالة الطوارئ فضلا عن صفته باعتباره أميرا للمؤمنين التي تجعل هذا المجال من المجالات الخاصة وضامنة للأمن الروحي للمغاربة ووحدتهم الدينية والمذهبية، ناهيك عما أقره الدستور من مؤسسات دستورية واستشارية وصلاحيات للتعيين في عدد من الهيئات الدستورية والمجالس الدستورية والمؤسسات الوطنية وهيئات الحكامة، فضلا عما أقره من استقلالية للسلطات وصعوبة تصور هيمنة السلطة التنفيذية على غيرها من السلطات، وفي هذا كله وغيره من المقتضيات الدستورية ما فيه من ضمانات تمنع من أن تكون هناك هيمنة لحزب سياسي أو لنقل لاكتساح حزب سياسي للانتخابات !!
ما السر في هذا القلق والنرفزة التي تسبق الانتخابات التشريعية والتي عرفت منحى تصاعديا منذ إعلان نتائج انتخابات 4 شتنبر 2015؟؟
لماذا يسعى البعض ويريد للبلاد أن تتراجع القهقرى إلى الوراء بدل المضي قدما في البناء الديمقراطي ؟؟ وأين المشكل حتى لو صدقنا أن نتائج الاقتراع ستعطي الصدارة للعدالة والتنمية ب”الضربة القاضية” كما يقول بوعشرين؟.
إن ذلك أمر عادي في بلد طبعت وضعيتها مع الديمقراطية وحققت انتقالا نهائيا نحو الضفة الأخرى أي ضفة الأمن الديمقراطي، والعيب ليس في إرادة الهيمنة على المشهد السياسي من قبل حزب معين -إذا صدقنا ذلك والعكس هو الصحيح إذ ما فتئ الحزب يقدم الدليل تلو الآخر على اعتماد المقاربة التشاركية – ولكن العيب في من أنتجت سياساتهم إضعافا للأحزاب، وهو في الأحزاب التي لم تقم بدورها في تأطير المواطنين وحماية استقلالها الحزبي !!
الحقيقة هي أن هناك نظرية ما زالت سائدة عند البعض ممن يعتبرون وجود أحزاب سياسية منظمة ومستقلة وقوية وغير قابلة للاختراق وقادرة على أن تحسم الانتخابات لصالحها، وكأنه أمر يتهدد بمنافسة الملكية وشرعيتها، ويتهدد مركز الملكية،
يعتبر هؤلاء بأن ممارسة التحكم في الحياة السياسية مسألة ضرورية من أجل ضمان التوازن بين الأحزاب، ومنع هيمنة حزب سياسي، وأن الحاجة تبقى دوما قائمة لعمليات تسمين هذا الحزب أو ذاك كما يحدث اليوم مع “الجرار”، كما تبقى الحاجة دوما ملحة لتقليم أجنحة حزب يبدو أن مساره في نيل ثقة وتعاطف المواطنين مسار متصاعد (العدالة والتنمية) بدعوى تفادي مخاطر الهيمنة !!
إن هؤلاء يسيئون إلى الملكية من حيث لا يشعرون، ويسيئون إلى النموذج المغربي ومصداقية الجهود المبذولة من أجل الإصلاح ومكتسباته في مجال حقوق الإنسان، ويضعون مصداقيته الدولية تحت المحك وخاصة فيما يتعلق بمصداقيته في طرح مسالة الحكم الذاتي كخيار ديمقراطي قائم على إشراك السكان ومشاركتهم في تدبير شؤونهم! ناهيك عن أنهم يضعون مصداقية كل المسار الإصلاحي الذي بدأه المغرب بعد خطاب 9 مارس واستثنائية النموذج المغربي في المحك !!
الوضع الطبيعي إذن هو أن يتواصل مسار الاصلاح الديمقراطي، الذي لا يتحقق إلا مع التطبيع مع الممارسة الديمقراطية كاملة لا منقوصة، واختصار جهد كبير يصرف في ضبط الحياة السياسية والتحكم فيها من خلال عدة آليات منها التأثير في القرار الداخلي للأحزاب السياسية واختراق استقلالية قرارها، والسعي لتقليم أظافر أحزاب أخرى تخشى هيمنتها المزعومة، والتحكم في مفاصل الإعلام الرسمي و”المستقل”، بل أحيانا السعي للتأثير في خطاب بعض المؤسسات الوطنية والإعلامية وغيرها كي تتحول لأدوات لضبط إيقاعات توازن لا تنتهي، وتخوفات من مخاطر متوهمة!!
صحة البلاد والظروف والتحديات المحيطة بها لا تحتمل، زد على ذلك المطبات الدبلوماسية الخطيرة التي دخلها المغرب مع أمريكا والأمم المتحدة حول مستقبل نزاع الصحراء في منطقة مضطربة تنهار فيها الدول، كل ذلك لا يسمح ولا يجعل وضعنا يتحمل انتكاسات ديمقراطية.
نحن نختلف جذريا مع من يروج لأكذوبة الاكتساح ويخوف من أسطورة الهيمنة لسبب بسيط: هو أن الإطار السياسي للانتخابات موضوع منذ تصويت المغاربة على دستور 2011، هو موضوع منذ أن قرر جلالة الملك أن يتم الإعلان عن نتائج الانتخابات كما هي سنة 2011، وحين قرر تطبيقا لروح الدستور وإعمالا لتنزيل ديمقراطي لمضمونه تعيين رئيس الحكومة من الحزب الأول الفائز بالانتخابات، وحين قرر أن يتصرف تصرفا مخالفا لدول ” الخريف العربي” وأن يواصل المغرب استثنائيته ويواصل على مشوار الربيع المغربي !!! وانه لا شيء يبرر أي تراجع عن هذا المسار الذي جلب الاستقرار والاحترام للمغرب.
لا شيء يبرر ذلك لأن أي انتكاسة في الاتجاه المعاكس ستعود بعقارب الساعة إلى الوراء، نحن في حاجة كي نتقدم لا أن نتراجع!! نحن في حاجة الى حكومة تخرج من صناديق الاقتراع، في حاجة إلى انتخابات إذا وضع فيها الناخبون مصباحا ألا يتحول إلى جرار !!
ليست الملكية اليوم في حاجة الى من يؤمن لها التوازن مع خصم مفترض !! مضى زمن التنازع على السلطة والمجادلة في الملكية !! ليست الملكية موضوع منافسة ولا يمكن لحزب مهما كان حجمه الانتخابي أن ينافسها. هي غير قابلة للمنافسة ليس فقط في نظامنا الدستوري ولكن أيضا في نظامنا الثقافي! وادعاء حاجتها لطرف تحكمي كي يقيم التوازن إساءة لها وكل الرصيد الإصلاحي المتراكم منذ 2009
ماذا يخفي ترويج أسطورة الاكتساح وأسطورة الهيمنة !! قديما قال علي بن أبي طالب: إن من الحزم سوء الظن. نعم من الحزم طرح تساؤلات مشروعة والأهم من ذلك التصدي للتحكم بكل أشكاله وألوانه في هذه المرحلة الحساسة من تطور المغرب. ومن الأهم مواصلة التعبئة والتصدي للتحكم من أجل أن تكون محطة أكتوبر محطة في مسلسل البناء الديمقراطي كي ينجح المغرب أولا وقبل كل شيء، وبالتأكيد فإنه إن كان مناضلو العدالة والتنمية ومتعاطفوهم مطالبين باليقظة والتعبئة، فإنها ليست مهمة خاصة فقط بالعدالة والتنمية ومناضليه بل بكل الغيورين على المحافظة على الاستثناء والنموذج المغربيين..