ما الذي ينطوي عليه تبخيس السياسة و السياسيين؟

أمينة ماء العينين

دون عناء كبير، يمكن الوقوف على الحملات الممنهجة والارادية التي تروم تبخيس السياسة والانتقاص من شأن السياسيين، هو اتجاه يجد تعبيراته في الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، كما يخترق المجتمع المدني وأوساط الأكاديميين، بل ويجد له انعكاسا في تصريحات بعض السياسيين عن وعي أو عن غير وعي.

ازدراء السياسة خاصة منها تلك التي تمارس من داخل الحياة الحزبية،ليس أمرا جديدا، فقد سعى النظام السياسي في فترة تنازع الشرعيات والشعور بالتهديد أمام استقلالية النضال الحزبي، إلى استهداف الأحزاب والإساءة إلى صورتها لدى الرأي العام، ولأجل هذه الغاية تم توظيف كل الوسائل بما فيها الوعد والوعيد، التهديد والتدجين، الإخضاع القسري والإغراء بالسلطة والجاه. هذا الاختيار أثبت نجاعته في اختراق الأحزاب وإضعافها ونزع الاستقلالية عن قراراتها واختياراتها. هكذا، وعبر سيرورة مدروسة وهادئة تم تحويل الممارسة السياسية في الوعي الجمعي إلى ممارسة انتهازية وصولية لا يسعى المنخرطون فيها إلا إلى خدمة المصالح الخاصة واستغلال مواقع السلطة لمراكمة الثروة والحظوة، وهو ما أفقد السياسة والأحزاب جاذبيتها بل وأصبحت النخب تتباهى بعدم تحزبها وتشبثها بدائرة “الخبرة” و”الحياد السياسي” وهو السياق الذي أفرز تنامي الظاهرة التقنوقراطية واحتفاظ المنتمين إليها إلى اليوم بغير قليل من الاستعلاء في مواجهة الأطر الحزبية، نفسية أفرزها احتفاء النظام السياسي بالتقنوقراط وتصويرهم في صورة المنقذين حين يحتد التقاطب السياسي.

غير خاف في هذا السياق محاولة التبشير بما يسمى “حكومة وحدة وطنية” بعد انتخابات 7 أكتوبر، بل يتم طرح – خارج المضمون الصريح لدستور 2011- إمكانية إسناد رئاستها لشخصية “اقتصادية تقنوقراطية” في تلميح صريح إلى عجز السياسيين عن التدبير الفعال للشأن العام.

ما يجب الانتباه إليه هو أن الأحزاب السياسية في ظل اختلافها (وهو أمر عادي ومشروع) يجب أن يوحدها الدفاع عن المؤسسة الحزبية وأدوارها في العملية الديمقراطية رغم الأعطاب والاختلالات التي تعاني منها الحياة الحزبية. نحتاج قبل دعوة الناس للتصويت إلى إقناعهم بجدوى الأحزاب ومشروعية المنتخبين والمؤسسات التي تتشكل منهم (جماعات ترابية،برلمان،حكومة..).

إن تجييش جزء من الإعلام وتوجيه نقاشات جزء من مواقع التواصل الاجتماعي وتسخير جزء ممن صاروا يسمون بالمحللين لاستهداف السياسة وتبخيسها وتصوير السياسيين كفئة من الانتهازيين الذين لا يحملون رهانات ديمقراطية أو تنموية بقدر ما يسعون للاغتناء وخدمة مصالحهم ومصالح ذويهم، كل ذلك لا يمكن إلا أن يصب في مصلحة السلطوية والنزعات اللاديمقراطية التي كرست واقع التحكم والاغتناء بعيدا عن دائرة الرقابة والنقد، في الوقت الذي يتحمل فيه السياسيون كل أساليب الاستهداف المشروعة منها واللامشروعة.

من حق الجميع انتقاد السياسيين وممارسة الرقابة على سياساتهم وقراراتهم في إطار ربط المسؤولية بالمحاسبة، غير أنه سيكون خطأ كبيرا هذا التمادي في اغتيال السياسة في وعي الناس، وسيكون من الخطأ انخراط الإعلام والجمعيات والأكاديميين في حملات شعبوية تعميمية تسطيحية تمعن في  تقويض إحدى أهم أسس الديمقراطية وهي السياسة وقواعدها المتعارف عليها عالميا.

في نفس السياق، يتوجب على السياسيين وقيادات الأحزاب ومناضليها تحصين مؤسساتهم وتقويتها والتصدي لكل الآفات التي تعيشها، كما يتوجب عليهم منح صور جديدة لنخب قادرة على تمثيل الأحزاب السياسية بعيدا عن حسابات المقاعد التي تقود أميين وتجار الانتخابات إلى عضوية مؤسسات تفقد وهجها لدى المواطنين وتتحول عندهم إلى مدعاة للتهكم والتنذر. وبذلك تتقلص دائرة تأثير المؤسسات الوسيطة التي يتم تجاوزها لتجد الدولة نفسها في مواجهة احتجاجات غير مؤطرة وغير ممأسسة يصعب التكهن بمآلات حراكها في ظل ثورة الاتصال والتواصل.

إن كل إمعان في قتل السياسة ما هو إلا إمعان في قتل الديمقراطية، فعلى الديمقراطيين تكريس منطق النقد لدى الجمهور بما لا يؤدي إلى إحداث قطيعة نفسية باهظة التكلفة بينه وبين السياسة والأحزاب السياسية.

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.