كلمة الموقع
ما وقع أمس بمدينة الدار البيضاء من تجييش للشارع، والزج بمواطنين أبرياء من كل فج عميق في أتون صراع سياسي ليسوا بالضرورة معنيين به، أو حتى على وعي به، من طرف جهات تتقاسم الرقص على جراحات الوطن، وتزج به في جحيم لا أحد يمكنه التكهن بمآلاتها على الجميع، هو بالمختصر المفيد عبثٌ بالمشترك الجماعي للمغاربة، واستثمار لئيم للحظة حاسمة في تاريخ المغرب، أريد لها أن تحسم صراعا سياسيا خارج القواعد الديمقراطية وبعيدا عن صناديق الارادات الشعبية، وكأني بالذين يقفون وراء تلك الجريرة خلف حجاب، ويدسون مزيدا من الزيت على نارها خلسة، يريدون إبلاغنا أن هزيمتهم في الرابع من شتنبر لم يبلعوا بعد مرارتها وأنهم مستعدون لكل الحماقات من أجل عدم تكرارها، وأن قوس الأمل الذي فتح في هذا البلد ذات تاسع من مارس وما أعقبه من تباشير سارة، ليس إلا جملة اعتراضية ضمن متن موبوء بالرداءة، متخوم بالتحكم والسلطوية.
إنها سابقة في تاريخ المغرب من جهتين:أولاها: أنه لم يحدث قط في التاريخ أن تم استعمال الشارع في مثل هذه اللحظات التي تسبق الانتخابات، على ما ينطوي عليه الامر من مجازفة بالاستقرار ومغامرة بالسلم الاجتماعي، فالذين ركبوا هذه المغامرة عليهم أن يجيبوا بكل وضوح من أين يستمدون الثقة- هذا إن وجدت أصلا- كي لا يتحول استثمار الشارع الى دمار شامل يأكل الاخضر واليابس في هذا البلد الأمين، ويزج به في أتون المجهول، فمن كان يضمن عدم استدراج من سيجد نفسه متضررا من هكذا تظاهر، الى الرد بالمثل وامتشاق لغة المواجهة التي لن تبقي ولن تذر وستجرف معها الجميع الى الرد والرد المضاد.
ثانيها: لم يسبق في التاريخ السياسي المعاصر للمغرب أن تعرض حزب يقود الحكومة أوعلى الاقل يشارك فيها إلى مثل هذا الاستهداف الذي تعرض له حزب العدالة والتنمية، فالحالة الوحيدة التي تكاد تشبه نسبيا مايقع اليوم هو ما تعرضت له حكومة المرحوم عبد الله ابراهيم، والتي انتهت بوقف تلك التجربة وهي ما زالت غضة طرية لم تكمل بعد سنتيها الاوليين، ولكن سياق تلك التجربة مخالف تماما لسياق تجربة العدالة والتنمية، حيث إن التجربة الاولى كانت محكومة بهيمنة الصراع الذي وصل درجة الاستهداف الوجودي، واتسمت بأولوية سؤال المشروعية وتبرير الوجود، في حين انتفت هاتان الخاصيتان في التجربة الحالية، واختفت مطلقا لغة الصراع وحلت مكانها صيغ التوافق والتشارك والتعايش، وبذلك انتفت مبررات نقاش الشرعية، وحل محلها إجماع الطبقة السياسية حول المؤسسة الملكية منذ دستور 1996، وتعزز هذا الاجماع مع العهد الجديد الذي حرص على تعميقه واستدامته من خلال اصلاحات ثورية غير متوقعة من أشد الناس تفاؤلا، والتي عبر عنها دستور 2011. فما الذي يجعل هذه الحرب على العدالة والتنمية وهو في قيادة الحكومة مستعرة بهذا الشكل المريب؟ ألم يكن هذا الحزب إلى الأمس القريب يُنتقد على أساس أن أمينه العام ورئيس الحكومة قد تخلى عن صلاحياته الدستورية وفرط فيها؟ ثم ألم تتهم تجربة هذا الحزب في قيادة الحكومة على أنها استهدفت الطبقات الهشة والوسطى، وأن كل الاصلاحات التي بشرت بها وعملت على تنزيلها ليست إلا سوطا يجلد به هذا الشعب المغلوب على أمره، وأن كلفتها تقتطع من قوته وتعليمه وصحته، فلماذا إذا كان الأمر كذلك يستبقون محاسبة الشعب لهذه الحكومة ويلتفون على نتائج تلك المحاسبة إن كانوا واثقين من دفوعاتهم وواثقين من حكم الشعب لصالحهم؟ لماذا لا يتركون الشعب الذين يدَّعون التكلم باسمه والدفاع عنه يعبر عن موقفه مادامت هذه الحكومة لم تقدم له شيئا ولم يُحصِّل معها نفعا ولا غُنما؟ لماذا يخشى هؤلاء من صناديق الاقتراع وترهبهم بيناتها فيستبقون نتائجها؟
إن المتأمل للمشهد يدرك بسهولة أن هذه الفوبيا التي لا يستطيع هؤلاء إخفاءها، والتي توردهم موارد التهلكة، وتزج بهم في حسابات خاطئة وصلت أمس درجة المقامرة بالوطن، إنما تكشف أن مسار هذه التجربة ومفعولها قد أوجع القوم جدا، ولم يعودوا يتحملون وجود العدالة والتنمية في موقع إدارة البلد، وأنهم مستعدون أن يرتكبوا ما لا يخطر على بال، من أجل استبعاده عن دائرة القرار، لقد اعتاد النسق السياسي في هذا البلد ان ينتج نخبه وفق منطق تقليدي موغل في النفعية، فالاقتراب من موقع القرار، واستمداد الشرعية منه، لا يمكن أن يتم إلا وفق ذلك المنطق، فقواعد اللعب على هذا المستوى لا تبيح أن يوجد ضمن تلك الدائرة من لا يستفيد من فائض المصالح المترتبة عن الولوج لدائرة القرار، وتلك الاستفادة هي الضامن لعدم الاحتجاج على قواعد اللعب، او الثورة ضدها، وقد علمنا التاريخ أن الاقتراب من السلطة خارج هذا المنطق العام قد يكون سببا في الاحتراق، وتجربة العدالة والتنمية ولو اختلفنا في تقدير نجاحاتها وإخفاقاتها كل حسب زاوية رؤيته والمعطيات المتوفرة لديه، لا يمكن إلا أن نتفق أنها كانت استثنائية في ترسيخ منطق جديد في إدارة الشأن العام، منطق يرفض أن يتحول العمل السياسي وتدبير الشأن العام الى مجرد عملية ” لتدوير” المنافع والمصالح بين النخب الجديدة، وهو بذلك يدشن مقاومة من داخل النسق ذاته لآليات السلطوية التي تعمل على توريط الجميع في مستنقع المنافع وبالتالي إزالة كل المقاومات الممكنة للتحكم وآلياته، وهذا ما فطن له الشعب المغربي الذكي والعظيم وعبَّر عنه يوم الرابع من شتنبر، وهو بالتأكيد ما أزعج خصوم العدالة والتنمية وأربك كيدهم وجعلهم يرتكبون الاخطاء تلو الأخطاء، مما يعود عليهم كل مرة بنتائج عكسية.
ممكن ان ننتقد هذه التجربة الحكومية والحزب الذي يقودها بكل شيء، وأن لا نتفق معها في آي شيء، ولكن لا يستطيع أحد اليوم أن يتهم عضوا واحدا فيها بالاغتناء غير المشروع من المال العام ومراكمة ثروة غير طبيعية من خلال تدبير الشأن العام، صحيح أن التجارب السابقة لا تخلو من وجود بعض الاستثناءات المضيئة، لكن كلنا نعلم أن مصير تلك الاستثناءات كان هو التهميش والنسيان، إن لم نقل الجحود من أقرب المقربين، فالنسق لا يقبل المقاومات ولا يسمح باستنبات الممانعة، فله حساسية شديدة تجاه امكان حدوث عدم الانصياع وإلا فإنه سيفقد اهم خاصية له وهي السلطوية.
لقد عاش الشعب المغربي مع هذه الحكومة تجربة تشبهه في كل شيء، بدء من لغة السياسة التي تصالحت معهم وتصالحوا معها، مرورا بإعادة الاعتبار لفئات لم يصلها من فائض ثروة البلد شيء ولم تجد لها عبر التاريخ حلفاء اجتماعيين ولا سياسيين ليدافعوا عنها، وانتهاء بسلوك نخب جديدة زاهدة في فائض المنافع وفتات الريع الذي تهين به السلطوية نخب السياسة وتستدرجها عبره الى مستنقع لا تستطيع الانفكاك منه وبالتالي تفقدها استقلاليتها وممناعتها بالمرة. والذين يريدون هزم العدالة والتنمية ما عليهم إلا منافستها في تمثل هذه القيم، وغير هذا لن يزيد العدالة والتنمية إلا قوة وحضورا، فكفوا عن هذا العبث الذي لن يجدي نفعا، ولن يحصل مغنما، وانصتوا يرحمكم الله الى أصوات هذا الشعب الذي سئم من هكذا عبث.