محمد عصام
لقد تم تصريف جهد كبير من طرف بعض الفاعلين السياسيين واذرعهم الإعلامية لشيطنة حزب العدالة والتنمية الذي نبت من تربة هذا البلد الولود، وخرج من رحم هذا الشعب، واكتسب مناعة لحماية استقلالية قراره، وانتصر طيلة مساره وكسبه في التاريخ لخندق الشعب ولقضاياه الاساسية، واستحق بذلك جدارة ثقة هذا الشعب الذي خبِر أداءه وتتبع مسيرته، وراقب سلوك أعضائه وقيادييه، وعاين بالمعاشرة عن قرب وبالتتبع الحثيث المعاين، منسوب التجرد لديهم في التصدي لقضايا الشأن العام، ونزاهة الذمة ونظافة اليد في تدبير مصالح الناس والمرافق العمومية بمختلف مستوياتها، وكلما تأكدت هذه الخلاصة لدى الشعب والمواطن البسيط كلما اشتد القصف على الأركان التي بنيت عليها هذه القناعة لديه، وقوي الاستهداف المباشر والمتحايل معا، لأسباب هذه المصداقية وأثرها الحاسم في توجيه اختيارات المواطنين وتأثيرها الفاصل في توجهات الناخبين، وبدل أن تستنفر هذه الخلاصة حاسة النقد الذاتي، وتحفز ملكات الارتقاء بالذات، عمد جزء كبير من الفاعلين السياسيين إلى الاستثمار الخاسر في حرب الشيطنة، الذي لا يزيد أصحابه إلا تدحرجا في دركات الهزيمة، وإعادة انتاج أسبابها بكل الغباء المتخيل والمستحيل، إننا بصدد ظاهرة غير مسبوقة، يصر فيها المنهزم في التشبث بأهداب الهزيمة أيما تشبث، رغم وضوح مرارتها وقبح طلعتها، فهل يتعلق الأمر بانحسار للرؤية يلجم ملكة الابداع عن هؤلاء ويفقدهم حاسة النقد الذاتي المفيد لاستعادة المبادرة وترميم الذات؟ أم أننا فعلا أمام أزمة حقيقية في الوعي تنتج سلوكا مأزوما لا يشي بإحداث تحولات حقيقية في الفعل السياسي؟
لفترة طويلة ومنذ أن فاز حزب العدالة والتنمية بانتخابات 25 نونبر2011، وترأس أول حكومة ما بعد دستور فاتح يوليوز2011، قفز الى التداول العام “مفهوم” ” الكتائب الالكترونية” لحزب العدالة والتنمية، ونسجت حوله أساطير غارقة في أسريالية المرضية، وتلقفته الأذرع الاعلامية لفاعلين سياسيين يجمع بينهم العداء أو على الاقل المخاصمة لمشروع العدالة والتنمية، ويتجرعون سويا مرارة النزال الانتخابي ل 2011، وفي غياب مطعن مقبول في النتائج، التي لا يجادل أحد داخليا ولا خارجيا في نزاهتها و صدقيتها، عمد المهزومون لصناعة أوهام ابتغاء مرضاة عجزهم ومداراة لهزيمتهم، وتهريبا للنقاش الحقيقي حول الاسباب الحقيقية وراء الهزيمة، وخلق نوع من الضبابية في المشهد، بشكل مثير للشفقة، ومن بين الاوهام المؤسسة لهذا التضليل الإعلامي والزيف السياسي، اختلاق أكذوبة وجود كتائب إعلامية لحزب العدالة والتنمية، والقذف بهذه الاكذوبة الى أعلى درجات التداول الاعلامي والسياسي لصناعة وثوقية غير قابلة للتشكيك أو لمجرد النقاش وتقليب وجهات النظر، والامر في حقيقته لا يعدو أن يكون تنفيسا على حالة مرضية تخفي عجزا حقيقيا، تكشف بشاعته اتساع دائرة التفاعل في الوسائط الحديثة، وتطور منسوب ولوجية المغاربة لهذه الوسائط، وما يستتبع ذلك من تأثيرها الفعال والناجع في توجيه الرأي العام وخلق سلطة جديدة غير محكومة بأساليب الضبط التقليدية، ولا تأثر فيها أدوات التوجيه القديمة والتي لم تعد ذات فعالية تذكر، وعليه فإن توليد هذا المصطلح/ المفهوم والقذف به في مجال التنافس السياسي، يجسد حالة من الفرار من ساحة المواجهة الحقيقية التي تترجم نتائجها إلى أصوات للناخبين وفي الصناديق الشفافة للاقتراع.
ولمزيد من تقليب الرأي في هذا الموضوع ولتجلية الصورة بشكل أوضح، نورد مقارنة لعلها تفيد ذوي العقول الكسيحة المستقيلة من معركة مكابدة النقد الذاتي، أليس في توجه بعض الأحزاب الى نظام المناولة النضالية أكبر دليل على العجز وأوضح مؤشر على محدودية الاداء وقصور التنافسية السياسية، فالمناولة النضالية تبتدئ من استيراد القيادات “وتبليصها” في المكاتب السياسية والهيئات القيادية بلا مراجعات نقدية ولا انسجام فكري، وتستمر المناولة باستيراد المرشحين للمناصب الانتدابية عبر التهافت الجشع على الاعيان والكائنات الانتخابية من كل حدب وصوب وبلا توافقات مرجعية او انسجام في الاهداف والبرامج، وتنتهي المناولة في حدها الأدنى بتشغيل المياومين في الحملات الانتخابية وفي التصفيق والهتاف بحياة الزعيم وبشعارات الحزب، فأي كائن سياسي يلجأ إلى أي صيغة من هذه الصيغ، أكيد أن سلعته في التنافس السياسي مزجاة، وأن موعده مع الهزيمة آت لا ريب فيه، فإذا كان الأمر على هذا المستوى واضحا فهو على مستوى العالم الافتراضي يجب أن يكون في منتهى الوضوح، وأي تعويم للنقاش او محاولة للتهرب منه وتهريبه، باختلاق فزاعة وجود كتائب مجيشة مستنفرة تتلقى التعليمات وتنفذ الخطط، وأصابعها على الزناد تتلقف الإشارات من هنا أو هناك للاغتيال الرمزي للخصوم، لا يمكن أن يحجب عنا عمق الإشكال وعميق الازمة التي تعيشها هذه الكائنات الحزبية، والذي هو في حقيقته تجسيد لأزمة الممارسة السياسية في هذا البلد، والتي يشكل غياب ” المناضل الأنموذج ” عنوانه الابرز فيها، فالتحول العميق الذي طرأ على المجتمع عموما وتوجهه نحو الاستهلاك كنمط مجتمعي، يعلي من قيمة الفردانية كقيمة مجتمعية، بما تعنيه من بحث عن الذات الفردية وتمكينها من كل المتاحات المشروعة وغير المشروعة، هو الذي افرز لنا في المجال السياسي طبقة انتهازية واسعة تخترق جميع الأحزاب تقريبا، وتعتبر الحزب سلما للارتقاء الاجتماعي وبوابة لتحصيل المنافع والمكاسب، مما نتج عنه إفراغ للأحزاب السياسية من المناضلين الحقيقيين، الذين يكابدون حرقة الدفاع عن المشاريع الاجتماعية والترافع عن الطبقات الشعبية، والقبض على جمر المواطنة بصبر وفداء وتضحية، وعليه فإن ما يعتبره اليوم خصوم العدالة والتنمية، كتائب إعلامية أو انكشارية في مواقع التواصل، فهو بقدر ما يعكس أزمتهم الذاتية العميقة والمزمنة، فهو مؤشر كامل الأوصاف على حيوية حزب العدالة والتنمية وعمق انتمائه لهذا الشعب الأصيل، وللمكانة التي تحتلها فئة الشباب داخله، ومدى حركيتها وإيمانها بمشروع الحزب، مما ينتج فعالية لا تخطئها العين على كل المستويات، وليس فضاء التواصل الاجتماعي إلا جزء ضمن متن هذه الفعالية الممتدة والشاملة لكل شتى ساحات التدافع والتنافسية السياسية.
لم تقف المناورة عند هذا الحد، فمباشرة بعد الانتخابات التشريعية ل 2016، يبدو أن مفعول آليات الشيطنة التي استعملت في المرحلة السابقة لم تكن ناجعة بالشكل المطلوب، فتم ابتداع ” فتنة إعلامية” جديدة، تحت مسمى الخلايا النائمة للبيجيدي، واختلاق اساطير على قدرة هذا الحزب على اختراق الهيئات المنافسة، وبث العيون داخلها، ولعل من المضحكات في هذا الصدد اعتبار ما صرح به القيادي في حزب الجرار عبد اللطيف وهبي في حوار لجريد أخبار اليوم، دليلا على أنه عضو في خلية نائمة تنتظر فقط إشارة لكي تستفيق من نومها، وأنها في اتصال دائم مع مركز القيادة في العدالة والتنمية، فبعيدا عن نقاش مضمون كلام وهبي ولا سياقه، وبعيدا ايضا عن لعب دور المدافع او المحامي عنه، دعونا نقلب المعادلة، ولنفترض أن قياديا من العدالة والتنمية اقتنع في يوم ما ان لا جدوى من الاستمرار على نفس النهج الذي تسير عليه القيادة الحالية للحزب، وطالب بتغيير المسار، وانتقد كل حصيلة القيادة، كيف كانت هذه الاذرع الاعلامية ستتعامل وكيف ستستقبل الكائنات الحزبية تلك التصريحات؟! أكيد أن صاحب تلك التصريحات سيُرقى الى درجة البطل القومي الذي اكتشف خطورة القيادة الحالية للحزب على الوطن وعلى الطبقة السياسية، وستعتبر خرجاته ” أعز ما يطلب”، وسيتم ضخ مزيد من الزيت على نار الفرقة المتوهمة في عقول هؤلاء الفاشلين، وستحظى تصريحاته باجماع على القداسة، وكل ما سيصرح به لاحقا الى أن يتم استهلاك رصيده من الصلاحية قصف واستهداف العدالة والتنمية بعد حين .
إن النزال السياسي إذا تجرد من عمقه، باعتباره نزالا على أرضية المشاريع المجتمعية والبرامج، أكيد أنه سيتحول الى لوحة سريالية عصية على الفهم، وأن المستثمرين في حرب ” الشيطنة” سيزيدون من ضبابية وعدم جاذبية المشهد برمته، لكن المؤكد أكثر أنهم بهذا السلوك لن يهزموا العدالة والتنمية، وأنهم إنما يعمقون هزيمتهم ويعيدون انتاجها.