عندما كنا صغارا ولم يكن يتزاحم في وجداننا الولع بكل مقذوفات التكنولوجيا ووسائل التواصل غير المحدودة، كان الشارع والفضاء العام جنتنا التي لا نقبل عنها شريكا ولا بديلا، وكان صراخنا الذي لا يكاد ينقطع ونحن نلعب او نتحاج او حتى نتناقش، عنوانا على حياة مدننا ومداشرنا، ومؤشرا على اننا موجودون، فانت تصرخ اذن انت موجود.
ونحن نلعب، واللعب لغات وأجناس فلكل لعبه ولهوه، عادة ما يكون المنهزم منا، مضطرا الى صناعة نصر آخر في ميدان آخر، هو ميدان الصراخ والضجيج، سواء احتجاجا او لمجرد الصراخ تنفيسا عن الهزيمة، فهزيمة بالأهداف أقل قسوةً من هزيمة في ميدان ” اللسان” وهي بالتأكيد اشد قسوة إن كانت فيهما معا، وفي السياسة التي يراها البعض لعبا، ويمتهنها كثير على سبيل الضحك على الذقون، ويلجها غير قليل بأهداف بعيدة عن نبل غايتها وطبيعتها الاصيلة في خدمة الصالح العام، نجد كثيرا من اللاعبين تستهويهم قصة اللعب الطفولي في شقها المتعلق بالصراخ والضجيج.
هذه هي النتيجة الصادمة التي يمكن أن يخرج بها المتتبع لمسار ما بعد واقعة السابع من اكتوبر، فالذي يجمع كل اولئك الذين علا صوتهم اكثر من اللازم، وتأبطوا الدستور زورا لإنتاج ضجيج كثير حول مسارات تشكيل الحكومة، ورسم صورة قاتمة للمستقبل واقتراف حديث ملتبس وغير بريء عن وجود ازمة سياسية، فهؤلاء كلهم تجمعهم صدمة الهزيمة التي تجرعوها في نزال السابع من أكتوبر، ويوحدهم هَمُّ الانتقام من تلك الهزيمة بكل الوسائل الشرعية وغير الشرعية، ويتوسلون لذلك بافتعال نَقْع كثيف وجعجعة إعلامية مؤداة من أجل التطبيع مع بعض الخرجات البعيدة ليس فقط عن روح الوثيقة الاساس اي الدستور، ولكن عن منطوقها البَيِّن والواضح والذي لا يحتاج الى اقتراف حماقات من هذا النوع، هذه الملاحظة لا تخطئها العين بتاتا ولا يمكن حجبها مهما تكلف أصحابها من جهد أو تكبدوا من تضليل، فكل اولئك الذين صدمتهم نتائج الانتخابات الاخيرة، والذين كانوا يمنون النفس بحصد غلة غير تلك التي حسمتها ارادة الشعب وافرزتها صناديق الاقتراع الشفافة، كلهم يتفقون اليوم على خطة الالتفاف على النتائج والانتقام للهزيمة، انها ببساطة معركة لانتاج انقلاب ناعم على الديمقراطية بافتعال ضجيج وجعجعة لا فائدة منها ولا قيمة لها في حساب الديمقراطية والدستور وكل الاعراف المتبعة في مثل هذه اللحظات المصيرية في تاريخ الأمم والشعوب.
الامر الثاني الذي لا يمكن أن تخطئه العين في تحالفات هؤلاء “الانقلابيين”، الذين وإن نأت بهم مواقعهم التنظيمية وتباعدت بهم منطلقاتهم الايديولوجية، فهم سواء في عشق السلطوية والتزلف لها، لا اختلاف بين من كان ينعث الى الامس القريب بأنه إداري وهو لا ينكر ذلك ولا حرج لديه في ذلك، ومن تأبط الحداثة والديمقراطية يتاجر بهما في سوق الاسترقاق السياسي، ويمارس بهما لعبة التنويم والتضليل التي يجيدها، ولا فرق بين من ” قطربه السقف” فجأة وبلا مقدمات، واضحى بين عشية وضحاها رقما كبيرا في مشهد سياسي، مجرد وجوده هو فيه وبذلك الحجم يعتبر مؤشر أزمة بل دليل ازمة ” وجودية”، وبين من يجر خلفه تاريخا لا يستطيع حمله ولا الاضطلاع بتكاليفه، فجوهر النقاش اليوم الذي وجدنا أنفسنا في صلبه، ليس في اقتراف قراءات دستورية او حتى شبه دستورية، ولا في التموقع هنا أو هناك، ولا حتى في طبيعة الاشتراطات وخلفياتها، لكن النقاش الحقيقي هو حول الوفاء لروح اللحظة، والانسجام مع مقتضياتها، والتخندق اراديا وبإصرار واضح مع الديمقراطية وأهلها، وأن الاصطفاف الممكن اليوم هو: من مع الديمقراطية ومن هو ضدها؟ من مع الارادة الشعبية إلى أن تصل مداها ومن مع الالتفاف عليها؟ من ينتمي الى اللحظة السياسية وينتصر للدستور روحا ومنطوقا ومن يحن الى إحياء السلطوية وإعادة انتاج مقتضيات الفصل 19. هذا هو جوهر اللحظة والبقية تفاصيل، والذي يحجب الرؤية اليوم هو ما يفتعل من ضجيج مخدوم، تستنفر فيه وسائل التأثير وتحشد له أقلام الارتزاق هنا وهناك.
ورغم قتامة المشهد الذي قدمناه في السطور السابقة فإن الأمل معقود بعزم ويقين على ارادة المواطن الذي أصبح في قلب النقاش السياسي، وأصبح معنيا ومتابِعا لما يموج به المشهد، وله من القدرة ما يكفيه في تفحص الوجوه والمواقع والمواقف، فالذي لم ينتبه اليه مقترفوا ضجيج الانقلاب، هو أن المشاورات السياسية لم تعد حكرا على الساسة وبالدقة على الراسخين في المواقع المتقدمة دون غيرهم من القواعد وبقية الموطنين، ولم تعد ايضا عملية تقنية تنفذ وراء الأبواب الموصودة، كما لم تعد مفصولة عن مرجعيتها المتمثلة في نتائج صناديق الاقتراع، لقد اصبحت المشاورات مشاعا مستحقا لكل المواطنين يتفاعلون معه، ويتابعون تفاصيله، واصبحوا يمتلكون ادوات تحليل الخلفيات والمجريات، فصناعة أي وضع أو مشهد لا يراعي هذه التغيرات، هو ضرب من الوهم وحرث في الماء، لا افق له ولا مستقبل له. وأي سيناريو لا يحترم الواضحات والمعلومات من الدستور ومن بينات الارادة الشعبية لن يكتب له النجاح ولو ادعو وادعوا…