ابن كيران يشرح السياسة بالسياسة

محمد عصام

جاءت خرجة الاستاذ عبد الإله ابن كيران  نهاية الاسبوع الماضي، في افتتاح المجلس الجهوي للرباط سلا القنيطرة، حبلى بالتدفقات السياسية، موغلة في قراءة السياسة بالسياسة، وكان سياق الخرجة حاسما في جعلها تحظى باهتمام كبير من طرف المحيط  الاعلامي والسياسي، باعتبار أن الجميع كان يترقب ماذا سيقول ابن كيران، بعد فترة صمت تجد مبررا لها في استثنائية اللحظة وضرورة تحْلِيتها بما يلزم من التحفظ، ولحدوث مجموعة من التغيرات تقتضي تنوير الرأي العام بعد تناسل تحليلات، أقرب ما تكون لقراءة الفناجين في أحسن الاحوال، وفي كثير من الاحيان تكون منتحلة لصفة ” الدستورانية” لارتكاب أفضح  وأفظع المجازر في حق الدستور،  لكن الذي يجمع بينها تنكرها للسياسة كفعل نبيل يقتضي المصداقية في التعبير، والجرأة في الموقف، والبيان الوافي في التعليل، والوضوح الشفاف مع الانسجام في المنطلقات والمخرجات، وكذلك في المواقف والتموقعات، ففي سياق مثل هذا أصبح من الضروري وضع المواطن والمتابع عموما في قلب الحدث، وتمتيعه بما يلزم لتحصينه أمام السيل الجارف من الأقوال الشاردة مضمونا وسياقا. فما هي الرسائل التي بعثها ابن كيران في خرجته الأخيرة؟ وأين تكمن فرادة قراءته حتى ننعثها بأنها قراءة للسياسة بالسياسة؟

لقد بدا ابن كيران في خرجته الأخيرة أكثر وضوحا من أي وقت مضى، واتجه رأسا الى الإجابة عن الاسئلة المركزية في التداول العام حول حالة “البلوكاج” في مشاورات تشكيل الحكومة، وكما هي عادته دوما فإنه توسل لذلك بخطاب بعيد عن لغة الخشب، عنيدٍ في تقصي أسئلة الراهن مما يطرحه عموم المواطنين، شديدٍ في التوضيح والبيان الى الدرجة التي أسميناها عنادا وإلحاحا من جهته، يبدو معه تأكيده على أنه رئيس الحكومة ” وانتهى الكلام”، تعبيرا على موقف حازم وواضح، يقطع دابر الشك الذي استثمر فيه مقترفو ” الدستورانية” ومنتحلو صفة التعالم و” التكادم”، الذين استحلوا على أنفسهم أن يكونوا كاسحات ألغام، وفئران تجارب، لجهات مستثرة خلف المشهد، تحركهم أنى شاءت، بمنطق يتعالى أو قل يتجاسر على كل المسلمات السياسية أو الدستورية، فكان جواب ابن كيران جريئا في هذا الباب حاسما، مادام الدستور ببيناته يدعم موقفه، ومادامت السياسة بمنطق الديمقراطية تعضده، ومادام التعيين الملكي قد حسم بشكل نهائي في الأمر، فإن أي قراءة خارج متن ” ابن كيران رئيسا للحكومة” بأي دعوى من الدعاوي، وتحت أي مبرر من المبررات، ومن أي جهة كيفما كانت، ليست فقط  افتئاتا على الدستور، بل إنها هروب من السياسة، وتلكؤ يخرج أصحابه من منطق السياسة، الى مجال ” العصيان السياسي” الذي لا يمكن أن نجد له عنوانا مناسبا، أكثر من الانقلاب الكامل الأوصاف.

الرسالة الثانية التي تبدو أكثر وضوحا في التماس السياسة لقراء المشهد، هي دعوى الفرقاء المعنيين بتدبير اللحظة، الى الأوبة النصوح للسياسة، من أجل الشرح بأدواتها للناس دون غيرها، أين المشكل تحديدا؟ وهنا يبدو ابن كيران قد تخلص من كل مستلزمات التحفظ، في دعوته الاحرار للإعلان أمام الملأ ما الذي يجعلهم يشترطون انسحاب الاستقلال من التحالف المرتقب؟! فالدعوى التي يتم الترويج لها هنا وهناك، بوجود اختلاف في التصورات بينهما لم يعد بمنطق السياسة يقنع أحدا؟! ولا يمكن تمريره حتى على الاغرار، بله اقناع شعب من حجم الشعب المغربي به؟! أليس غريبا ودائما بمنطق السياسة التي تحترم عقول الناس أولا وأخيرا، القول إن الاحرار الذين راكموا ما يقارب الثلاثة عقود من الممارسة، أخيرا اكتشفوا أن حزب الاستقلال، قيدوم الاحزاب الوطنية يختلف معهم في التصورات؟! أين يوجد هذا الاختلاف وما حدوده؟! أهو اختلاف في المنطلقات أم اختلاف في المخرجات؟!  ثم أليس من المكابرة القفز على كل التجارب المشتركة التي جمعت الحزبين تحت سقف حكومات واحدة، على الاقل، من حكومة سي عبد الرحمن اليوسفي، وحكومة سي جطو، وحكومة سي عباس الفاسي؟! أوقع تحول جذري داخل الاستقلال أو الاحرار أوفي كليهما حتى نتحدث عن اختلاف طرأ في” رمشة عين”؟!

إن الاحرار بمقتضى السياسة التي تحترم ذكاء المواطن وتنسجم مع نفسها، مطالبون أن يوضحوا للتاريخ وللشعب، لماذا يرفضون أن يتقاسموا سقف الحكومة مع الاستقلال، وألا يتركوا بمنطق السياسة دائما لغيرهم أن يقوِّلوهم ما لم يقولوا!! فمن حق الناس عموما والفاعلين السياسيين وبجنبهم ومعهم رجال الإعلام، أن يفهموا أي منطق يسكن موقف الاحرار من الاستقلال، ولا أحد غير الأحرار أنفسهم يمكن أن يقوم بهذه الوظيفة، ولكن بشرط الوضوح ثم الوضوح ولا شيء غير الوضوح الذي ليس في نهاية المطاف إلا تلك الأوبة النصوح لحضن السياسة.

وفعلا ظهرت كثير من القراءات لموقف الأحرار من الاستقلال، بعد تولي أخنوش الرئاسة، أولاها تقول أن جهات ما تدفع في اتجاه معاقبة شباط الأمين العام لحزب الاستقلال بعد إفشاله لمؤامرة الانقلاب الذي تولى الياس العماري كِبرها، بعد دعوته للقاء الثامن من اكتوبر لصناعة وضع جديد منقلب على نتائج الانتخابات، قد يكون لهذه القراءة ما يبررها في غياب أي توضيح من جهة المعني الأول بها أي الاحرار، لكني أفضل عدم التنجيم في موقع القراءة السياسة التي لابد لبنائها من مؤشرات واضحة حتى لا نسقط في منطق قراءة الفنجان.

بجوار هذه القراءة المتاحة توجد قراءة أخرى تبدو لي أكثر موضوعية وإن لم تكن بالنسبة لي كافية لتبرير موقف الاحرار تجاه الاستقلال، القراءة تقول إن رفض الأحرار يندرج ضمن استباقهم الصراع  مع  الاستقلال على المواقع أو بالتحديد على نوعية خاصة من القطاعات، وزارة المالية في صدارتها، هذه القراءة وإن كانت تبدو أكثر واقعية، لكنها غير مقنعة بتاتا، فوجود طموحات لدى أي حزب ليس عيبا، ولكن استباق حسم هذا النقاش بخلق أزمة بهذا الشكل، فهو أمر غير طبيعي بتاتا، فتوزيع الحقائب، وقبلها الحسم في الهندسة الحكومية والبرنامج الحكومي، كلها مشمولات مرتبطة بالمرحلة الثانية في تشكيل الحكومة، وآلية التوافق هي وحدها من سيحسم مخرجاتها، ثم هل يستطيع الأحرار وبمنطق السياسة دائما، أن يخرجوا مباشرة ويفصحوا أن عدم قبولهم للاستقلال شريكا في الحكومة سببه الصراع على المواقع؟! أليس في الأمر معاكسة لتوجهات خطاب دكار؟!

إذن وفي غياب أي توضيح من جهة الاحرار، سنظل ومعنا عموم المراقبين مترددين في تصنيف موقفهم وفهم خلفياتهم، لهذا أظن أن عبد الاله ابن كيران حين دعاهم للإفصاح عن موقفهم بكل وضوح، إنما فعل ذلك إصرارا منه على أن يبقى النقاش حول تشكيل الحكومة محصورا في فضاء السياسة، فلا شيء يبرر الركون إلى الصمت ما دام الأمر يتعلق بقرار سياسي من المفترض أن يمتلك منتجوه ما يكفي من المبررات والدواعي الذاتية والموضوعية لإنتاجه، ومن حق المواطنين وعموم المراقبين العلم به ومناقشته، وأي ركون إلى الصمت أو التضبيب هو استقواء على السياسة بأشياء الله وحده يعلم مبتدأها ومنتهاها.

ولكي يبقى ابن كيران وفيا لمنطلقاته ومنسجما مع الروح التي تسكن خطاباته، لم يقف عند الرسالتين السابقتين، بل طرح بالوضوح المعهود فيه، أنه في حال اختيار جلالة الملك لإجراء انتخابات سابقة لأوانها فلا مانع لديه، وإن كان كارها لها ومكرها عليها، باعتبار أن لا داعي يبرر اللجوء لهذا الاختيار، مادامت انتخابات السابع من أكتوبر لا أحد طعن فيها، ثم إن أي عملية انتخابية فهي محفوفة بمخاطر، وبلادنا في غنى عنها.

أظن أن هذا الوضوح واللجوء للسياسة لقراءة السياسة هو ما يعطي لخطابات ابن كيران فرادتها، وهو ما تؤسس عليه قوتها وفعاليتها وتبني بها ومن خلالها نجاعتها، التي ليست في حاجة للتدليل عليها، بعد مسار كبير من التشكيك والتشويش والتبخيس، بل العكس هو الحاصل بعد كل اختبار للشعبية او الشرعية، ولهذا لم يفوت ابن كيران الفرصة لدعوة الفرقاء السياسيين إلى هزم حزبه ولكن بالسياسة ولا شيء غير السياسة.

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.