محمد يتيم
لم تتوقف محاولات الشيطنة والتخويف والسعي لإخراج حزب العدالة والتنمية من “الجماعة الوطنية”، وهي محاولات تتخذ في كل يوم شكلا جديدا.
هي محاولات تنم أولا عن عجز في اعتماد قواعد التنافس الديمقراطي التي تمر ضرورة عبر وجود تنظيمات حزبية وافكار وبرامج حزبية منافسة وذات جاذبية حقا وحقيقة في الميدان، ولا سبيل لذلك إلا بأحزاب مستقلة تنمو نموا ذاتيا وطبيعيا أو تموت موتا عاديا حسب قوانين “الطبيعة الاجتماعية”.
وهي محاولات تنم عن جهل وضعف إدراك بحجم التحولات الكبرى التي عرفها مجتمعنا، وتقادم الآليات التي تم اللجوء إليها في العقود الخمسة التي تلت الاستقلال، أي آليات الضبط وإقامة “التوازن” من خلال تدخلات مباشرة وغير مباشرة في الحياة السياسية والحزبية وفي صنع خرائطهما والتحكم في مصيرهما.وتنم ثالثا وللأسف، أن آخر من يتم السماع له / على ما يبدو -هم علماء الاجتماع والمفكرون النزهاء والمستقلون والحكماء الذين ينقلون المعطيات كما هي ويخلصون في النصح للمسؤولين في هذا البلد على مختلف مستوياتهم.
وللأسف الشديد فعلى الرغم من الآمال الكبيرة التي فتحها دستور 2011 الذي كان تجاوبا ذكيا مع مطالب وتطلعات المجتمع المغربي، لاحظنا عودة إلى تقليد كان مبررا ربما لدى البعض في التجارب التي عرفها المغرب خلال المراحل التي طغى فيها التنازع والمنازعة على السلطة والشرعية أي اللجوء إلى الدفع ب”كائنات” حزبية مفبركة، وأحزاب محدودة تاريخ الصلاحية بسبب أنها لا تمثل في الواقع امتدادا أو حساسية اجتماعية كما هو الشأن في الديمقراطيات العريقة.
في مثل هذه الحالة تصبح الأحزاب الحقيقية في عرف البعض مشكلة و”تهديدا”، ومن ثم لا تتوقف محاولات مستميتة لشيطنتها والإيقاع والوقيعة بينها وبين والدولة، كما يحدث اليوم مع حزبنا ومع بعض الأحزاب الوطنية وقياداتها، وهو الأمر الذي وصل إلى حد الوقيعة بين الأمين العام للحزب وبين أعلى سلطة في البلاد.من الغريب حقا أن يصل البعض إلى هذا المستوى، مما قد يدفع العقلاء في هذا البلد إلى طرح سؤال بديهي عما إذا كان من الممكن أن نأمل في إدماج حركات راديكالية ورافضة وإقناعها بالعمل في المؤسسات إذا كان إدماج غيرها من الأحزاب التي حسمت أمرها في الموضوع يواجه بمثل محاولات الإيقاع والتشكيك التي لا تتوقف.
هو سؤال يطرح نفسه بإلحاح علما انه إذا كان هناك، في حالة حزبنا، من يدرك قيمة الملكية ودورها، ويحترم شخص الملك ويحفظ مكانته، فهو خاصة الأمين العام للحزب ورئيس الحكومة المكلف بتشكيلها السيد عبد الإله بن كيران.
عبد الإله بن كيران الذي ما فتئ يؤكد في كل مناسبة على علاقة “المرؤوسية ” بينه وبين ملك البلاد ، ويؤكد توقيره لشخصه بتعبيراته الخاصة ومن خلال أمثلة جارية وبليغة من قبيل “وهل تعلو العين على الحاجب”؟، إلى الحد الذي أصبحت علاقة الاحترام الخاص واحترام حدود الاختصاص محط تشكيك من قبل بعض المغرضين، ومحل تعريض من قبل بعضهم الأخر من الذين يعتبرون ذلك “تملقا ” و ” انبطاحا ” ، أو تنازلا عن الصلاحيات ، في حين ذهب طرف آخر إلى أنه ” تقية ” و” توزيع للأدوار ” ، وان المشكلة تارة هي مشكلة بنيوية في الحزب ، وان المشكلة تارة أخرى هي في أمينه العام !!
كيف يمكن لعاقل أو غيور على مصلحة البلاد أن ينظر لحزب من قبيل العدالة والتنمية وصعوده على انه تهديد! إلا أن يكون تهديدا لمصالح غير مشروعة ومنظومة لم تعد صالحة في دولة تريد أن تنضم إلى نادي الدول الصاعدة، وتتوفر على مؤهلات. تجعلها نموذجا للديمقراطيات الصاعدة وقاطرة ونموذجا للإصلاح في ظل الاستقرار.
حزب العدالة والتنمية ليس حزبا قادما من كوكب آخر، هو ليس حزبا راديكاليا رافضا لأسس الدولة مهددا لأمنها واستقرارها، وحتى لو افترضنا ذلك جدلا، فان المنطق السليم يفرض التعامل معه بالحسنى حتى يتم إدماجه في الجماعة الوطنية.
حزب العدالة والتنمية يضم مغاربة إخوانا وأصهارا وأقارب لمغاربة آخرين، شربوا ماء واحدا وتنفسوا هواء واحدا، وأكلوا طعاما واحدا وكسكسا واحدا.
هو فرصة وليس تهديدا، هو باختصار حزب مغربي وطني ديمقراطي مالكي ملكي إصلاحي توافقي مما يدفع إلى طرح تساؤل عريض: إذا كان إدماج واندماج حزب بتلك المواصفات متعذرا في ” الجماعة الوطنية «، فهل لنا أن نأمل في خطاب محاورة ومصالحة مع المتطرفين والراديكاليين والحالمين بالتغيير الجذري، أم أن أولئك قد أراحوا واستراحوا، وان المشكلة ليست فيمن ينتقدون في مدرجات المتفرجين وإنما فيمن ينافسون في الميدان محترمين شروط اللعبة.
حزبنا يؤدي ضريبة استقلاليته، استقلالية في غير منازعة، وإيمان حق بمكانة ودور الملكية القائمة على إمارة المؤمنين دون نفاق أو تملق، ودون تنازل عن مطلب الإصلاح وما يرتبط به من مقتضيات نضالية وبعيدا عن أي مزايدة أو تهور.حزبنا يؤدي ضريبة الترهل والتراجع في المنظومة الحزبية وضريبة تدهورها السياسي والتنظيمي بسبب عوامل بعضها ذاتية وبعضها موضوعية، وبسبب تأثيرات وتدخلات خارجية لكن لوجود قابلية داخلية.
حزبنا معادلة دقيقة ووصفة متوازنة ينظر إليها المقاطعون العدميون بأنها تماهي مع “المخزن” وينظر إليها من يسير في ركاب السلطوية بأنها نزعة هيمنية تسعى لـ «الأخونة” و” الأسلمة ” … وكل في فلك يسبحون !!
والواقع أن التأمل في المسار الحديث للمغرب وفي تجربة حزبنا من الجهة الأخرى، سيكشف لمن كان منصفا وموضوعيا، أن المغرب اليوم قد توفرت له فرصة نادرة من انتقال ديمقراطي لا رجعة عنه، وأصبح مهيأ كي يحل معادلة مختلة عاش على إيقاعها ما يقرب من أربعة عقود.
لقد ارتبط مطلب الإصلاح والتغيير في أغلب الأحيان بالمنازعة على الحكم والتآمر أحيانا على الماسكين بزمام السلطة، وفي المقابل التبس الدفاع عن المشروعية إلا فيما ندر بالدفاع عن المصالح والقابلية للاختراق من قبل الفساد.
ووعيا من المؤسسين الأوائل للحزب بهذه المعادلة، وعلى رأسهم الدكتور الخطيب رحمة الله عليه، وبأهمية الحاجة إلى الجمع بين مطلب الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وبين الحفاظ على الشرعية الدستورية والتاريخية والدينية للدولة، فقد اختار أن يسمي نفسه بـ”الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية”: هي شعبية أي أن الحزب مع الشعب ومع مشاركته ومع امتلاك زمام أموره بيده، ورفع كل شكل من أشكال الوصاية عليه، لكنها دستورية والكلمة آنذاك كانت تعني الدفاع عن مؤسسة الملكية، الملكية الديمقراطية الدستورية.
ولقد واصل حزبنا على هذا الخط الذي وضعه الدكتور الخطيب رحمه الله، حيث إن تمسكه بالمؤسسات الدستورية وتوصيته إلى آخر أيام عمره بالملكية القائمة على أساس إمارة المؤمنين ما فتئ يلهم خطنا السياسي.
ولقد أخذ علينا الدكتور الخطيب منذ أول لقاء وفي آخر لقاء معه أياما قبل وفاته وعاهدناه أننا سنبقى أوفياء لهذا المنهج القائم على النضال من أجل الإصلاح السياسي والاجتماعي والتصدي لكل أشكال الفساد والاستبداد الذي يختفي ويتذرع بالدفاع عن المؤسسات من تهديد مزعوم، وسعى تاريخيا للوقيعة بين مكونات الحركة الوطنية الإصلاحية التي لا تنازع على الحكم ، كل ذلك مع الوفاء للمشروعية في أبعادها الدينية ( إمارة المؤمنين ) وفي أبعادها التاريخية ( الشرعية التاريخية ) وفي أبعادها الدستورية حيث كنّا مشاركين في صياغة الوثيقة الدستورية والتعبئة من أجل التصويت عليها، فعلنا ذلك ونفعله اقتناعا وإيمانا لن يغير منه إقبال أو أدبار.
لقد التزم الحزب بهذا الخط بكل شجاعة ومسؤولية خلال أحداث ما سمي بالربيع العربي وتداعياته على المغرب حين رفض بوعي الانسياق مع الموجة والخضوع لإغراء الاحتجاج غير المحسوب العواقب من خلال رفعه لشعار الإصلاح في نطاق الاستقرار، وواصل الحزب هذا الخط الذي يجعل المصلحة الوطنية فوق كل اعتبار خلال السنوات الخمس للولاية الحكومية المنصرمة.
وإن تجاوب المجتمع المغربي مع حزبنا ومنحه للثقة فيه في ثلاثة استحقاقات متتالية، إنما هو تجاوب مع هذا الخط ومع هذا التموقع الذي يعكس الاتجاه الغالب في الثقافة السياسية والاجتماعية للمغاربة.
وللأسف الشديد وعكس ما كان منتظرا فبدل أن يتم النظر إلى حزبنا بمنهجه ذاك باعتباره فرصة للمغرب، صار البعض يصوره وكأنه تهديد، وصاروا يوهمون أن من شأن نجاحاته أن تشكل إخلالا موهوما بتوازن يوهمون أنه مهدد، وكأن الملكية بشرعيتها الدينية والتاريخية والاجتماعية وصلاحياتها الدستورية ليست بحد ذاتها ضمانة كافية، وكأن الملكية لا قوة لها إلا باعتماد السلطوية وآلياتها وأدواتها.
والواقع أنها قوية بذاتها وبشرعيتها التاريخية وبانحيازها في اللحظات الحاسمة وترجيحها كفة الشعب ومصالحه العليا ولو ترتب على ذلك ما ترتب من تضحيات كما تعلمنا كل سنة ذكرى ” ثورة الملك والشعب “.
وصار البعض يروج لعودة السلطوية من مشمولات خطاباتها أن الإصلاحات الدستورية والسياسية لسنة 2011 التي أعلن عنها صاحب الجلالة خلال خطاب التاسع من مارس 2011 وجسدها الدستور الجديد وتمت ترجمتها من خلال الانتخابات التشريعية لنفس السنة، كانت إصلاحات فوق اللازم وفوق المقاس وأنه قوس آن الأوان أن يغلق، وأنه بدل أن يكون المغرب قاطرة رائدة في مشروع النهضة العربية الإسلامية قد يتحول إلى مجرد عربة في قطار النكوص العربي.
عقلاء الوطن وجب أن يتوقفوا ويرفعوا صوتهم: أنه ليس لنا من خيار سوى مواصلة خيار البناء الديمقراطي، وأن زمن التخويف والشيطنة للأحزاب السياسية المستقلة وزمن التدخل في الأحزاب السياسية، وأن زمن اعتبار انتعاش الأحزاب السياسية، يتم على حساب الدولة أو مؤسساتها أو يمس بقدر رموزها ومقوماتها، كل ذلك خطأ استراتيجي في التقدير قد يرجع بِنَا سنوات للوراء ويضيع علينا زمنا ثمينا وفرصا قد لا تتكرر.