العدالة والتنمية وحكومة العثماني

محمد عصام

لقد شكلت محطة نقاش البرنامج الحكومي الذي قدمه رئيس الحكومة الدكتور سعد الدين العثماني أمام أعضاء البرلمان ، لحظة سياسية بامتياز، ليس فقط لكونها تجسيدا فعليا وتنزيلا عمليا لمقتضيات المادة 88 من الدستور، ولا حتى كونها تعبيرا عن المضمون التعاقدي بين المؤسسات في اطار احترام الاختصاصات وتدبير الفصل بين السلط  بمنطق التعاون والتكامل، ولكن وهو هذا الأهم بالنسبة لنا في هذه الزاوية، هو إعادة الفرز  في المشهد السياسي، على قاعدة تتخطى وتتجاوز التموقعات التقليدية أغلبية / معارضة، الى فرز يعتمد قراءة عميقة للتموقعات من خلال انحيازها الى أصل الديمقراطية من حيث المبتدأ والمنتهى.

عمق هذه القراءة/ الفرز، يمتح هويته من دقة المرحلة وحجم الانتظارات التي يجب أن تحكم خطى الفاعل السياسي وتحدد نظرته وأفقه، فواجب الوقت اليوم ليس محددا فقط في التصويت لصالح او ضد البرنامج، بقدر ما يتخطى ذلك ويتجاوزها الى إمكان قراءة مفردات اللحظة بتأن وعمق، يستحضر المخاض الذي عاشته التجربة المغربية في توقيع لحظة الحراك وتدبير مستحقاته، وحجم الاستجابة في سلوك الفاعل السياسي لمتطلبات هذه الاستحقاقات، فالعمق في هذا التصور يجد مبدأه ومنتهاه في الاصطفاف الكامل واللامشروط مع الديمقراطية.

هذا هو العمق الذي عبرت عنه كلمة الفريق العدالة والتنمية التي ألقاها رئيس الفريق ادريس الازمي الادريسي، حيث أصرت الكلمة على تدقيق المحددات السياسية التي ستضبط سلوك الفريق في تدبير المرحلة المقبلة، اعتبارا لخصوصية وتفاعلات اللحظة، التي أبانت بالوضوح اللازم أن الصف الديمقراطي في هذا البلد يلزمه حشد مكثف في العدة والعتاد، وفي البصيرة وقدرة استبصار بالغة للأفق ووعي عميق بالعوائق والمثبطات، مع ما يلزم من ثبات خطو وصبر ومصابرة ومكابدة في تحصين المكتسبات والتصدي للارتدادات ونوازع النكوص المتربصة في ثنايا المشهد، والتي تستقوي بظرف إقليمي ودولي  تطبعه موجات ارتدادات عاتية.

لقد أصرت الكلمة على إعادة التدقيق في معطيات الأشهر الستة الماضية التي عاش فيها المغرب تدافعا كبيرا بين قوى تمتح هويتها من الممانعة وحماية استقلال القرار الحزبي وتماهٍ تامٍ مع الإرادة الشعبية، وخيار زراعة اليأس وتبخيس السياسة والاستقواء بمواقع النفوذ والاحتماء بركنها الشديد، فجاءت اللاءات الثلاث واضحة في رسم هذا الافق، فلا تنمية بدون احترام الإرادة الشعبية، ولا تنمية بدون ديمقراطية، ولا ديمقراطية بدون استقلالية القرار الحزبي، ولكن قبل كل هذا وذاك لا ديمقراطية بدون ديمقراطيين حقيقيين، ديمقراطيين غير مزيفين، ديمقراطيين خِلقة وخلقا، عقيدة وسلوكا.

لذلك كان الموقف كما عبرت عنه كلمة الازمي طبيعيا بالمساندة الواضحة والصريحة للحكومة، وذلك ضمن محددات الرشد والتبصر والنصح، هذه المحددات ليست ترفا إنشائيا أو هروبا من منطقة الوضوح واحتماء بالغموض وركونا للتردد، إنها تعبير عن هوية سياسية تتجاوز المحددات التقليدية في التموقعات السياسية التقليدية، أغلبية/ معارضة، و يسكنها هاجس الانسجام مع المنطلقات النظرية التي تؤطر السلوك السياسي للعدالة والتنمية، باعتباره سلوكا محكوما بالغايات والمقاصد، أكثر من ركونه لحسابات المواقع العابرة، والمكاسب الضيقة، وأم الغايات والمقاصد هو شرف الانتماء للديمقراطية، والتماهي مع الإرادة الشعبية وحماية استقلال القرار الحزبي.

 وليس هذا جديدا في سلوك العدالة والتنمية، ومن باب الذكرى التي تنفع المؤمنين بالديمقراطية، فإن حزب العدالة والتنمية قد ولَّد مفاهيم جديدة غير مسبوقة في المشهد السياسي من قبيل المساندة النقدية وبعدها المعارضة الناصحة على عهد حكومة التناوب مع الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي.

ثم ألا يتذكر البعض كيف كان في مرحلة الحكومة السابقة على عهد الزعيم الوطني الكبير عبد الإله ابن كيران، ينتقد سلوك هذا الأخير ويتهمه بأنه يلبس جبة المعارض في موقع المسؤول الحكومي، كما يتهم فريق العدالة والتنمية بممارسة هواية” كوي وبخ”. في محاولة يائسة وقاصرة على قراءة السلوك السياسي للعدالة والتنمية انطلاقا من المفردات التقليدية المعتادة في الممارسة السياسية في هذا البلد، في حين أن ربط هذا السلوك بالمنطلقات هو وحده الكفيل بفك شفرته، فالسياسة عند العدالة والتنمية ليست تمرينا بسيطا تحكمه التموقعات، لكنها جزء من الانتماء للوطن والارتهان لأقدار الوطن، والتماهي مع إرادات أبناء الوطن، والتموقع مع الوطن وأبناء الوطن.

بالمقابل لم تستطع المعارضة المفترضة أن ترتقي بسلوكها إلى مستوى اللحظة ومستوى الموقع الذي خوله الدستور لهذه المعارضة والإمكانات والمتاحات التي مكنها منها،  فقد بدت شاردة تائهة بلا بوصلة ولا أفق، فهل يليق بلحظة عرض البرنامج الحكومي ومناقشته، أن يتم القفز على جلال اللحظة وجمالها، والقذف في معرض الإتيان بالبدائل والاقتراحات، باتهامات شاردة من قبيل اتهام رئيس الحكومة بالكذب أو لمز وزير الدولة  في حقوق الانسان بدعوى التعدد، وكأن ساحات النقاش ومطارح الافكار قد أقفرت ولم يتبق لمرتاديها إلا مضايق المفازات وظلمات الشرود.

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.