بلال التليدي
ثمة مؤشرات دالة حصلت في شكل التعاطي السلطة السياسية مع ملف الحسيمة ترجح أن تكون بعض النخب المؤثرة في القرار السياسي تستفيد من هذا الاحتقان وتريد ربما أن تمد قليلا في عمره إلى أن يثمر نتائجه السياسية.
يتربع على رأس هذه المؤشرات المؤشر الانثروبولوجي المرتبط باستمرار السلطة في تجاهل ثقافة المنطقة وتكوينها النفسي وتراكمها التاريخي، فمع أنها تمتلك رصيدا هائلا يسمح لها بفهم طبيعة وتكوين الشخصية الريفية، إلا أنها تمعن في إنتاج مواقف مستفزة تستدعي من قبل الساكنة «عنادا انتحاريا» لا سبيل إلى مراجعته، من ذلك على سبيل المثال، ممارسة العنف وانتهاك حرمة البيوت واعتقال ما ينيف على المئة من شباب وقيادات الحراك، ثم إطلاق مبادرات بعد ذلك لطلب الهدوء والطمأنة بأن هناك إصرارا من أعلى سلطة في البلاد على تنزيل مشروع «الحسيمة منارة المتوسط» وفتح تحقيق في ملابسات الإخلال بمواعيد تحقق هذا المشروع. المعطيات الانثروبولوجية حول المنطقة تؤكد بأن الشخصية الريفية لا يمكن أن تنخرط في مسارات براغماتية بعيدا عن روح الوفاء للمعتقلين، في الثقافة والتكوين النفسي للشخصية الريفية «الرجولة والكرامة سابقة على تحقيق مؤشرات تنمية». وهو ما يطرح السؤال عن سبب عدم استثمار هذا الرصيد؟
ثاني هذه المؤشرات، وهو شكل التعاطي مع ارتفاع الطلب على التدخل الملكي، ففي الوقت الذي تكثف الطلب من مكونات سياسية ومدنية وحقوقية وإعلامية للتدخل الملكي لطي هذا الملف، على اعتبار إعلان ساكنة الريف فقدان ثقتهم في الوسطاء ورغبتهم في تدخل مباشر للملك، تحركت نفس النخب المؤثرة في السلطة لإثارة سؤال: وماذا لو تجاوز الحراك في الحسيمة التدخل الملكي ولم يتم التجاوب معه؟ وهكذا تم استغلال تصريحات قيادات في الحراك برفض قبول طلب العفو الملكي للإفراج عن المعتقلين للدفع بأطروحة الخوف من «إحراج الملك» و»مخاطر التدخل الملكي»، ولذلك، ورغم ارتفاع وتيرة الطلب على التدخل الملكي، لم يحصل أي تحول دال على مستوى مضمونه، فبقي مرتبطا بتحقيق مشروع «الحسيمة منارة المتوسط» مع رفع السقف قليلا بفتح تحقيق حول ملابسات تأخر الإنجاز ومحاسبة المسؤولين عن ذلك.
ثالث هذه المؤشرات يرتبط بتوجيه قراءة دلالات الحراك، ففي الوقت الذي تم فيه الربط بقوة بين الحراك وما رافقه من انهيار نخب الوساطة وبين عودة السلطوية بقوة إلى التحكم في المشهد السياسي والتي ظهرت معالمها بوضوح مع ست أشهر من البلوكاج ومع إعفاء رئيس الحكومة السابق عبد الإله بنكيران وتشكيل حكومة لا تعكس نتائج اقتراع السابع من أكتوبر، ففي الوقت الذي تم الربط فيه بين الحراك وبين حصول نكسة في المسار الديمقراطي، أخرجت بعض النخب المؤثرة في السلطة توجيها سياسيا مقابلا حاولت أن تلف فيه الحبل على عنق القوى الديمقراطية، وذلك من خلال الإيحاء بأن حكومة بنكيران السابقة هي التي تسببت في إنتاج الحراك بسبب عدم تنفيذها لمشروع منارة المتوسط، وقد بدا هذا المؤشر واضحا من خلال رفض حزب الأصالة والمعاصرة (الحزب الذي تأسس بعناية من السلطة) تشكيل لجنة نيابية لتقصي الحقائق حول أحداث التدخل الأمني بالحسيمة بدعوى أن الملف بيد القضاء وتقديمه لمقترح بديل يرمي لتشكيل لجنة تقصي الحقائق حول أسباب عدم تحقق مشروع الحسيمة منارة المتوسط، مع مبادرة انفرادية لم تلق تجاوبا سياسيا لعقد مناظرة الحسيمة في مدينة طنجة، ثم الخروج الإعلامي المثير لقيادة هذا الحزب في قناة عمومية ومطالبته بمحاكمة وزراء وإدخالهم للسجن بسبب عدم تنفيذهم لهذا المشروع.
والحقيقة أن معالم هذا التوجيه السياسي بدأت مع لفتة ملغزة لمستشار الملك فؤاد عالي الهمة، الذي بدل أن يكتفي بنفي أخبار راجت حول مضمون لقاء جمعه برئيس الحكومة السابق عبد الإله بنكيران وتكذيب توجيه السلطة طلبا إليه للمساعدة في حل ملف الحسيمة، تضمن رده عناصر زائدة على النفي والتكذيب تنبه إلى مسؤولية رئيس الحكومة في الحراك (الإشارة إلى أن الحراك بدأ في عهد حكومته) وبعثه رسالة مشفرة وقاسية مفادها انتهاء دوره السياسي.
رابع هذه المؤشرات، ويرتبط بتجدد الارتباط والتناقض في سلوك الدولة في تعاطيها مع الحراك، فبعد تسجيل التحول من اتهام الحراك بالانفصال إلى الاعتراف بعدالة المطالب ومشروعية الاحتجاج، إلى التأرجح المتكرر بين المقاربة الأمنية وإعادة طرح نفس المبادرة السياسية، إذ انعكس هذا التأرجح على موقف رئيس الحكومة الذي كان يطيل الصمت حين تستفرد المقاربة الأمنية بالتعاطي، ثم يظهر بشكل خافت حين تنتج المقاربة الأمنية أخطاء غير قابلة للجبر، ثم تعود المقاربة الأمنية لتسيطر على المشهد كما وقع يوم عيد الفطر، ويلوذ رئيس الحكومة بالصمت قبل أن يأخذ من جديد المبادرة ويعيد تكرار نقاطه الثلاث: تعليمات صارمة بإنجاز المشروع، تأكيد على شروط المحاكمة العادلة، وطلب الهدوء لتوفير مناخ الاشتغال والبحث في سبل الانفراج.
هذا التأرجح غير المفهوم في التعاطي، خاصة بعد العملية العنيفة التي تعرض لها المحتجون يوم عيد الفطر، تزكي شكوكا حول ما إذا كانت هناك رغبة في استمرار الاحتقان وتحويله إلى عائد سياسي يوسع هوامش السلطوية ويجهزعلى ما تبقى من مكتسبات ديمقراطية تحققت في فترة ما بعد دستور فاتح يوليو 2011.
ما يزكي هذا التخوف أن ثمة ثلاثة وزراء من حزب التقدم والاشتراكية (أي كل وزراء هذا الحزب في الحكومة)تم اعتبارهم معنيين بتأخر مشروع الحسيمة منارة المتوسط مع وجود وزراء آخرين محسوبين على حزب العدالة والتنمية، هذا في مقابل تثبيت والي جهة طنجة تطوان الحسمية في منصبه في حركة الولاة والعمال التي تم التأشير عليها في المجلس الوزاري الأخير نفسه مع أنه المعني الأول بتنزيل هذا المشروع.
في تحولات المشهد السياسي الذي عرفه المغرب زمن البلوكاج وجهت السلطة لحلفاء العدالة والتنمية ضربات عنيفة، فتلقى أمين عام التقدم والاشتراكية نبيل بن عبد الله تأنيبا قويا تضمنه بلاغ للديوان الملكي، ونال حزب الاستقلال النصيب الأوفر من هذه الضربات. اليوم، ثمة نخب مؤثرة تسعى ربما أن يكون جزءا من مخرجات محاسبة المسؤولين عن عدم تنفيذ مشروع منارة المتوسط توجيه ضربة للحليف المتبقي للعدالة والتنمية (حزب التقدم والاشتراكية) وربما إخراجه من الحكومة ولف الحبل في عنق حزب بنكيران، ولم لا التوجه بعد ذلك لانتخابات سابقة لأوانها.
ليس غريبا في غمرة هذه التحولات أن يخرج حزب الأصالة والمعاصرة بمقترح قانون يقضي برفع الحصانة عن الوزراء واعتقالهم وسجنهم تحت مسمى ربط المسؤولية بالمحاسبة!