بلال التليدي: المغرب: تعقيدات حراك الريف وخيارات الدولة

بلال التليدي

يعيش المغرب منذ حوالي سبعة أشهر على إيقاع ساخن بسبب حراك الريف الذي اندلع في مدينة الحسيمة ومناطقها المجاورة شمال المغرب، على خلفية مطالب اجتماعية واقتصادية وحقوقية سرعان ما تحولت إلى حالة رفض وتمرد سياسي على النخب ومختلف أشكال الوساطة بين الدولة والمجتمع، ويسود تباين بين أوساط المثقفين والسياسيين حول تشخيص أسباب الحراك. ويزيد من تعقيد هذا التباين التسييس الذي دخل في المعادلة وأربك حساباتها. ويسود اليوم قلق كبير حول مستقبل الحراك وأسلوب الدولة في التعاطي معه لاسيما بعدما أنتجت عددًا من المقاربات التي لم تُظهر فاعلية في حلحلة الموقف، بل أسهم بعضها في تعقيد الوضع، بل وتفاقمه بعد أن أربكت المقاربة الأمنية الملف، وأرجعت المغرب سنوات إلى الوراء ببروز معالم انتهاكات حقوقية جسيمة. 

وعلى الرغم من الحرص الذي أبدته الدولة مؤخرًا على النهوض بالتنمية في المنطقة، وإبداء قدر من التجاوب مع المطالب الاجتماعية إلا أنها تواجه تحديات كبيرة في تدبير هذا الملف بسبب التناقض الحاصل بين مطلب الحراك في أسبقية الإفراج عن المعتقلين وبين حرص دوائر القرار على أسبقية فرض “هيبة الدولة وسُلطة القانون” وسط توقعات بتدخل ملكي وشيك يحسم الموقف بمعالجة متوازنة.

في محددات الحراك 

ليس هناك تشخيص موحد لأسباب حراك الريف؛ إذ تتباين عناصر القراءة بشكل متفاوت، فيجنح البعض إلى قراءتها في زمنها القريب، فيما ينحو البعض الآخر إلى تأصيل جذورها في تاريخ أبعد يمتد إلى الماضي الاستعماري والتوتر الذي حكم علاقة السلطة مع المنطقة بعد الاستقلال. وبحصر مجموع القراءات المتباينة، نجدها تركز على المحددات الثلاثة الآتية:

1. المحدد التاريخي: وتذهب إلى أن الحراك في الريف يعكس في جوهره أزمة قديمة ممتدة في التاريخ، بين الدولة والمنطقة، انطلقت من مواقف عبد الكريم الخطابي من الدولة المغربية غداة تفاوضها لإعلان الاستقلال السياسي، وانتقاده الشديد لشكل تعاطيها مع منطقة الريف، وعنف الدولة الذي مورس على انتفاضة الريف، 1958-1959، التي رفعت جملة مطالب إصلاحية تتطلع في جملتها إلى رفع التهميش والإقصاء، فضلًا عن رفع مطالب ديمقراطية وتنموية جهوية. وتذهب هذه القراءة إلى أن تكرار الدولة لأساليب تعاطيها مع المنطقة وتهميشها وإقصائها لها، وتعثر المشاريع التنموية واستمرار عَسْكَرَتِها يعكس طابع الاستثناء الذي أخذته هذه المنطقة واستمرار خضوعها لمنطق الانتقام. 

وتعترض هذه القراءةَ انتقادات جدية ترتبط باختلاف أسلوب عاهل المملكة المغربية، محمد السادس، في التعامل مع المنطقة والتقدير الذي حظيت به في عهده، ومشروع “الحسيمة منارة المتوسط” الذي سهر على إطلاقه آخر سنة 2015، والزيارات المستمرة التي قام بها إلى المنطقة، هذا فضلًا عن اختياره لمدينة الحسيمة كمصطاف رسمي له كل سنة تقريبًا. 

2. المحدد الاجتماعي: والمرتبط بارتفاع منسوب الإحباط واليأس من استمرار الإقصاء والتهميش وارتفاع معدلات البطالة في المنطقة وتهاوي مؤشرات التنمية بها، وسلوك الإدارة الترابية في التعامل مع الاحتجاجات، فضلًا عن أخطاء جسيمة ارتكبتها السلطات التنفيذية في تدبير بعض الملفات الاجتماعية. ضمن هذا المحدد، تبرز ثلاثة أحداث أساسية، إما كانت سببًا مباشرًا في إذكاء الحراك، أو تم استحضارها في عملية تغذيته:

الأول: وهو حادث مقتل المحتجين الخمسة في البنك الشعبي خلال أحداث 20 فبراير/شباط 2011. ورغم أن هذا الحادث لا يفسر انطلاق الحراك واندلاعه، إلا أن رفع مطلب الكشف عن حقيقته، ضمن لائحة مطالب الحراك، يؤشر على أنه شكَّل جزءًا من مخزون الغضب الاجتماعي في المنطقة؛ إذ تم استدعاؤه مباشرة عقب مقتل محسن فكري.

الثاني: وهو شكل تعاطي الدولة مع معاناة الساكنة نتيجة الزلزال العنيف الذي ضرب مدينة الحسيمة سنة 2004، وأوقع حوالي ألف قتيل ومئات الجرحى وخسائر عمرانية فادحة؛ إذ أحسَّ سكان الحسيمة والمناطق المجاورة لها في أمزورن وبني عياش وغيرها، بعدم اكتراث السلطات لمعاناتهم وعدم تحملها مسؤولية تعويضهم عن خسائرهم، خاصة لما ظهرت مزاعم بضلوع بعض النخب السياسية الممثلة للمنطقة في اختلاس مساعدات وجهتها الدولة لهم.

الثالث: هو حادث مقتل محسن فكري -بائع الأسماك-، بتاريخ 28 أكتوبر/تشرين الأول 2016، بعد أن احتج على رمي الشرطة لأسماكه في حاوية الأزبال بحجة عدم قانونية بيع السمك الذي بحوزته؛ إذ انطلق الحراك الفعلي على إيقاع هذا الحدث وعدم انتهاء التحقيقات إلى نتائج ترضي تطلعات الساكنة في معاقبة المسؤولين الحقيقيين عنه. 

3. المحدد السياسي: والذي حاول فيه عدد من القراءات أن يربط الحراك إما بهيمنة نخب سياسية على المنطقة والقضاء على تعدديتها السياسية مما تسبب في ضعف النخب التي تقوم بدور الوساطة، وإما بتحولات ما بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2016، والإحباطات التي مثَّلتها مساهمة الدولة في صناعة خارطة سياسية لا تعكس إرادة الناخبين، وتراجع الأمل في استمرار المسار الديمقراطي؛ إذ عاد الحراك الاجتماعي -بمقتضى هذه القراءة- في الوقت الذي التفت فيه السلطوية على مسار ما بعد دستور فاتح يوليو/تموز 2011 واسترجعت كافة الصلاحيات التي فقدتها مع الحراك، وتحتج هذه القراءة بانهيار نخب الوساطة وظهور مؤشر التخاطب المباشر مع الملك والطلب الكثيف على تدخله، ثم اضطرار الدولة إلى الخروج للمواجهة الأمنية. فيما تذهب قراءة أخرى مدعومة من قبل دوائر السلطة إلى أن الحكومة تتحمل مسؤولية إنتاج الحراك بسبب عدم تسريعها إنجاز مشاريع في المنطقة كانت مبرمجة وفي مقدمتها مشروع “الحسيمة منارة المتوسط”. 

وقد حضرت كل هذه المحددات في خطاب قيادات الحراك، وإن بشكل متفاوت، إذ حضر البُعد الاجتماعي بشكل مكثف، وتم استحضار المحدد التاريخي، ورموز المقاومة في الريف، كمخزون غضب أمدَّ الحراك بطاقة تعبوية نوعية، فيما اختلفت خطابات قيادات الحراك في المحدد السياسي، بين مستحضر للتوتر المفصلي بين الدولة والمنطقة، وأن الدولة من خلال إدارتها الترابية تتحمل المسؤولية المباشرة عن وضعية الإقصاء والتهميش التي تعيشها المنطقة، وبين من يجعل نخبة من النخب السياسية مشكلة أساسية في إنتاج الحراك، وبين من يحمِّل الحكومة جزءًا مهمًّا من مسؤولية التهميش والإقصاء الذي عانت منه المنطقة، فيما نسب البعض الحراك إلى أيادٍ خارجية تشجع الانفصال أو تخدم أجندة إيرانية شيعية. 

رسائل الحراك الاجتماعي في الحسيمة 

شكَّل حراك الريف صدمة قوية للتجربة المغربية، وطرح أسئلة عنيدة على مناعة النموذج المغربي الذي كان يعد إلى عهد قريب استثناء في العالم العربي بسبب الوصفة الإصلاحية التي أنتجها في تفاعله مع رياح الربيع العربي والتوافق السياسي الذي حصل بين الدولة وبين قوى التغيير، وفي مقدمتها حزب العدالة والتنمية الذي تصدَّر نتائج الانتخابات، في 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2011، وعُهد إليه بمقتضى الدستور الجديد بتشكيل الحكومة. 

لقد كانت الرسالة الأساسية التي وجهها الحراك، أن النموذج المغربي لم يعد مُحَصَّنًا، وأن التراجع الديمقراطي الذي رمزت إليه فترة “البلوكاج” الحكومي (فترة تعثر تشكيل الحكومة عقب الانتخابات البرلمانية في 2016)، وعدم العدالة المجالية التي تحكم علاقة المركز بالأطراف، فضلًا عن التوزيع غير العادل لثمار النمو الاقتصادي، يمكن أن يعصف في أي وقت بكل الرصيد الذي بناه المغرب طيلة ست سنوات الأخيرة التي أعقبت دستور فاتح يوليو/تموز 2011؛ إذ أبرزت بعض مواصفات الحراك هذه الرسالة بشكل أكثر وضوحًا بالمقارنة مع “حراك 20 فبراير”؛ إذ لأول مرة، يتم اختراق المجال المحفوظ للدولة، وتنضم البوادي والقرى إلى مكونات الحراك، وتفقد النخب الحزبية والمدنية، خاصة منها الحاملة للصفة التمثيلية، قدرتَها على تهدئة الشارع أو لعب دور الوساطة، ويتعمق ربط المطلب الاجتماعي بالمطلب السياسي، وتزداد دائرة انفلات الاجتماعي عن الضبط السياسي، وتقوَّت بشكل غير مسبوق الطاقة التعبوية للحراك لتشمل المهاجرين من أبناء الريف المقيمين بالخارج، وتبرز للواجهة قيادة شبابية لا عهد لها بالتنظيم والتأطير السياسي، ويسود خطاب احتجاجي حاد يخرج عن حدود الشرعية، ويُنشِئ الحراك آليات تواصلية ونضالية وفنية جديدة ضَمِنت تأثيرًا كبيرًا على مختلف شرائح المجتمع، وأَفْقَدَ السلطة القدرة على التفاعل مع الحراك بالأدوات التقليدية أو الوسائل المعهودة في فكِّ زخم الحركات الاجتماعية العابرة. 

والذي أثار الملاحظة في تعاطي السلطات المغربية، أنه رغم وعيها بالهوية الاجتماعية للحراك ومطالبه التنموية، إلا أنها فقدت القدرة على إنتاج خط متماسك في التعامل معه، بسبب ترسخ الشعور بفقدان الثقة في مبادراتها، ومخزون الغضب الاجتماعي من سلوكها السياسي؛ إذ ظل قادة الحراك يرفضون التعامل مع الهيئات المنتخبة ومع ممثلي وزارة الداخلية ومسؤولي الحكومة ووزرائها، ويفضلون التخاطب المباشر مع الملك. 

السلطة السياسية: ارتباك التعاطي وأزمة الخيارات 

عرف تعاطي السلطات مع الحراك مرحلتين:

مرحلة التعاطي الجهوي، وهي المرحلة التي كانت ولاية (طنجة-تطوان-الحسيمة)، في شخص واليها محمد اليعقوبي، تُدير فيها الحوار بشكل مباشر مع قادة الحراك، والذي لم ينتج أيَّ شيء بسبب عدم الثقة في وعوده وعجزه عن تلبية مطالب الحراك.

مرحلة التعاطي المركزي مع الحراك، والذي بدأ بالفعل مع تحريك المقاربة الأمنية وعَسْكَرَة المنطقة وتكثيف التواجد الأمني بها. 

وقد تميز شكل التعاطي المركزي بمد وجزر وتأرجح بين منطقين:

منطق تخوين الحراك واتهامه بالانفصال وتلقي أموال من الخارج لتسويغ التدخل الأمني: وهو الذي انطلق على خلفية التقرير الذي أعده وزير الداخلية، عبد الواحد لفتيت، بتاريخ 14 مايو/أيار 2017، أعقبه تصريحات لبعض ممثلي الأغلبية الحكومية اتهمت الحراك بتذكية النزعات الانفصالية والمس بالوحدة الوطنية.

منطق الإقرار بعدالة مطالب الحراك وتأكيد عزم الحكومة التفاعل الإيجابي معها، وقد أشَّر على هذا التحول بلاغ الأغلبية الحكومية الصادر في فاتح يوليو/تموز 2017، وتأكيد رئيس الحكومة على ضرورة التفاعل الإيجابي مع مطالب المواطنين المعبَّر عنها في إقليم الحسيمة، وانطلاق دينامية تنفيذ وتتبع مشروع “الحسيمة منارة المتوسط”، الذي أطلقه الملك في 17 أكتوبر/تشرين الأول 2015، لفائدة المنطقة وانطلاق زيارات لعدد من الوزراء للقاء الساكنة، وتتبع المشاريع التنموية التي تعهدوا بها في المشروع الملكي. 

وقد أيقظ التداخل بين المنطقين عددًا من الأسئلة حول ارتباك السلوك السياسي للدولة، وسمح بطرح علامات استفهام حول إمكانية استثمار بعض مراكز النفوذ في تعميق الاحتقان في المنطقة، لاسيما بعد انطلاق اعتقالات واسعة مسَّت أغلب قادة الحراك مباشرة عقب الإعلان عن تفهم الدولة لمطالب الساكنة واستعدادها للتجاوب معها؛ إذ تعرض المحتجون لقمع عنيف يوم عيد الفطر بعد إقدامهم على تنظيم مظاهرة سلمية جابت مدينة الحسيمة والمناطق المجاورة لها، مما زاد في تعقيد الأزمة وطرح أبعادًا حقوقية مسَّت صورة المغرب في الخارج، لاسيما بعد إعلان عدد من المعتقلين عن تعرضهم للتعذيب. 

ونتيجة لذلك، حاولت الدولة التفاعل مع هذه الديناميات، فأنتجت للتعاطي مع الحراك مقاربة من ثلاثة مستويات:

المستوى التنموي: حيث اضطلعت الحكومة بتنفيذ مشروع “الحسيمة منارة المتوسط”.

المستوى الحقوقي: حيث اضطلع المجلس الوطني لحقوق الإنسان بدور التقصي في مزاعم حصول التعذيب، وتكفَّل القضاء بالبت في هذه المزاعم وتوفير المحاكمة العادلة للمعتقلين.

المستوى الأمني: إذ تكفلت وزارة الداخلية، عبر أجهزتها الأمنية، بفرض هيبة الدولة وتفريق المتظاهرين وتوسيع دائرة الاعتقالات في صفوف قيادات الحراك. 

غير أن تفاعل الحراك مع هذه الخيارات، ورفضه التهدئة حتى الإفراج عن المعتقلين، وإصراره على التظاهر السلمي، أدخل مقاربة الدولة في أزمة؛ مما دفعها إلى البحث عن خيارات أخرى، وجعل “التدخل الملكي” يدخل دائرة الجدل في أوساط السلطة وخارجها بين مراهن عليه لحل الإشكال، وبين مُحَذِّر من مخاطر جعل الملك في الواجهة مع الحراك. 

السلطة السياسية: من تدبير الأزمة إلى تصديرها 

ثمة ما يشبه الإجماع لدى أوساط المثقفين والسياسيين على أن ارتباك السلطات المغربية في التعاطي مع الحراك كشف وجود أزمة خيارات استراتيجية الدولة وقدرتها على التجاوب مع انفلات المجتمع من دائرة ضبطها السياسي. وقد وضعت بعض مواصفات الحراك، وبشكل خاص تزايد ظاهرة التخاطب المباشر مع الملك، وانهيار الوساطة الحزبية في المنطقة، التي مثَّلها حزب الأصالة والمعاصرة الذي اكتسح بمساعدة من السلطات منطقة الحسيمة ودوائرها المجاورة، الصيغة المغربية في ممارسة السياسة على المحك، لاسيما بعد بروز مؤشرات انتشار السلطوية وامتدادها، مما أدخل السلطة في ورطة حقيقية، دفعها إلى التفكير في خيارات لتصدير الأزمة بعد عجز ومحدودية خياراتها السابقة. 

وقد كانت أول شرارة لتصدير الأزمة هي التصريح الذي أدلى به فؤاد عالي الهمة، مستشار الملك محمد السادس، والذي لم يكتف فيه بنفي ما راج من أخبار بشأن مضمون زيارة له لعبد الإله بنكيران، رئيس الحكومة السابق، وتأويل ذلك برغبة السلطة السياسية في دور لبنكيران في تهدئة الريف، وإنما تعدى ذلك إلى بعث إشارة تحمله مسؤولية الحراك، كانت بمثابة بداية تصدير الأزمة إلى الحكومة وتحميلها مسؤولية إنتاج الحراك. وقد التقط حزب الأصالة والمعاصرة الإشارة وحوَّلها إلى مبادرة سياسية؛ إذ طرح مبادرة تشكيل لجنة تقصي الحقائق حول تعثر المشروع الملكي “الحسيمة منارة المتوسط”، تلاه خروج إعلامي لقيادته في برنامج على القناة الأولى (ضيف الأولى)، لم يكتف فيه فقط بطلب التحقيق، وإنما طالب بمحاكمة الوزراء وإدخالهم السجن، واكتملت عملية تصدير الأزمة بتقديم فريقه مشروع قانون برفع الحصانة عن الوزراء لتقديمهم للمحاكمة، لتأتي بعد ذلك برقية من وكالة المغرب العربي للأنباء (وكالة رسمية) تغطي مسيرة الرباط التضامنية مع حراك الريف، وتنسب مسؤولية الحراك للحكومة بسبب عدم تنفيذها المشاريع التنموية. 

وقد نتج عن هذا الزخم انعقاد المجلس الوزاري برئاسة الملك محمد السادس، وإصداره تعليمات بفتح تحقيق حول أسباب تعثر مشروع “الحسيمة منارة المتوسط”، وتصدير الأزمة من وزارة الداخلية التي كانت تتحمل مسؤولية التعاطي المباشر مع الملف إلى الحكومة ونخبها السياسية التي كانت مبعدة تمامًا عن إدارته. 

بيد أن تصدير الأزمة الذي كان يُقصَد من ورائه التهدئة وامتصاص الاحتقان، وفي الوقت ذاته، حماية المؤسسة الملكية من الاحتكاك المباشر مع الحراك، واجه إشكالات أضعفت حجته وفاعليته، منها:

عدم علم رئيس الحكومة السابق، عبد الإله بنكيران، بتوقيع المشروع وعدم اطِّلاعه على تفاصيله، وتكليف وزارة الداخلية بالإعداد والتنسيق مع الوزراء والمصالح المعنية بإنجاز المشروع، وتحضيره بشراكة مع وزارة المالية، للتوقيع بين يدي الملك. ومنها أن المشروع الذي تم توقيعه لا يزال السقف الزمني لإعداده بعيدًا 2015-2019، مما يجعل المحاسبة السياسية فاقدة لمضمونها، ما دام زمن الإنجاز ساريًا، هذا فضلًا عن العديد من الإشكالات الموضوعية المرتبطة بإشكال توفير الوعاء العقاري، وبمساطر نزع الملكية، ناهيك عن التوقف التنموي الذي عرفه المغرب بسبب منع وزارة الداخلية لإنجاز أي مشروع على الأرض قبيل المحطة الانتخابية (خمسة أشهر قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2016)، والتوقف السياسي الناتج عن استقالة الوزراء بسبب التنافي وطول فترة البلوكاج الحكومي، والتي جعلت عددًا من اختصاصات القطاعات الوزارية تتكدس في يد وزير واحد؛ مما أفقده القدرة على متابعة المشاريع الموقَّع عليها، والتي عرفت -بسبب ذلك- حالة شلل امتدت لأكثر من ستة أشهر. 

والراجح -تبعًا لهذه الإكراهات الموضوعية- أن نتائج التحقيق لن تأتي بشيء جديد، وأن محاولة تسييس بلاغ المجلس الوزاري، بدأت تفقد وَهَجَها بعد أن تكشفت هذه المعطيات، وتبيَّن أن صيغة تصدير الأزمة، لم تمتلك كافة عناصر الإقناع، مما جعل الدولة مرة ثانية في مأزق البحث عن خيارات للتهدئة، لاسيما بعد تجدد دعوات لتنظيم مظاهرات في الحسيمة تطالب بالإفراج الفوري عن المعتقلين، وتجعل ذلك شرطًا للدخول في أي مسار براغماتي للحوار حول مطالب تنموية. 

والأهم من ذلك، أنه يمكن أن ينتج عن فشل تصدير الأزمة وضع آليات تحضير المشاريع الملكية ضمن دائرة التساؤل، خاصة وأنها بدأت تطرح تساؤلات دستورية تتعلق بتعطيل وظائف لرئيس الحكومة تخص سياسات عمومية تعتبر من صميم اختصاصاته، وإسناد ذلك للجان متابعة مشكَّلة من موظفين ومسؤولين بوزارة المالية ووزارة الداخلية تقوم بالتنسيق المباشر مع الوزراء ومصالحهم دون سابق علم من رئيس الحكومة. 

ومما يزيد في تعقيد مقاربة المحاسبة أن بعض نتائجها لن يمر بدون المس ببعض أجنحة الدولة وآلياتها الأمنية، خاصة ما يتعلق بالتحقيق في مزاعم بوقوع تعذيب، فقد ظهرت شرارة التضارب بين مراكز الدولة بسبب خوفها من تحمل المسؤولية، وذلك بعد تسريب نتائج التقصي الذي قام به المجلس الوطني لحقوق الإنسان في تقريره حول مزاعم وقوع التعذيب وإصدار مديرية الأمن الوطني لبلاغ سريع تنفي فيه تورط أجهزتها الأمنية في هذه الانتهاكات الحقوقية، ثم تسريب شريط فيديو يظهر فيه قائد الحراك عاريًا منتهك الكرامة مما أثار انتقادات الجمعيات الحقوقية. 

سيناريوهات احتواء الأزمة 

مع اعتبار كل التحديات التي سبق ذكرها سالفًا، ثمة عدد من السيناريوهات التي يمكن للسلطة السياسية أن تعتمدها لاحتواء الحراك، وتنجح في طي ملف الاحتجاج في المنطقة، ومنها على الخصوص أربعة سيناريوهات:

سيناريو تفعيل أداء الحكومة: وذلك بالعمل على إخراج المشاريع التنموية إلى المنطقة في أقرب الآجال، وهذا ما تشير له التعليمات الملكية التي منعت الوزراء والمسؤولين المعنيين بمشروع “منارة المتوسط” من عطلهم الصيفية وتكليف رئيس الحكومة بتشكيل لجنة تتبع المشاريع. ويمكن أن نقرأ ضمن هذا السيناريو اتخاد الملك قرار التخفيف من الوجود الأمني في الحسيمة، وإخلاء ساحة محمد الخامس التي كانت مقرًّا لفعاليات الحراك من قوات الأمن، كما يمكن أن نقرأ من ضمن مشمولات هذا السيناريو الإفراج عن بعض المعتقلين لبعث رسالة طَمْأَنَة للساكنة بوجود إرادة سياسية لطي الملف شرط التهدئة والانخراط في الطرح التنموي الذي تتابعه الحكومة.

سيناريو المبادرة المدنية: وقد ظهر الرهان على هذا السيناريو في الحوار الخاص الذي استضافت فيه القناة الأولى والثانية رئيس الحكومة، سعد الدين العثماني، والذي تعهَّد فيه بعزم الحكومة على تقديم الدعم لأية مبادرة مدنية تسعى للتهدئة وتسوية الملف؛ إذ ما إن تم التعبير عن هذا الدعم، حتى خرجت بعض المبادرات التي تضم شخصيات مؤثِّرة غير حزبية تعتزم زيارة المنطقة والحوار مع ما تبقى من قيادات الحراك لإقناعهم بالتهدئة وتوفير أجواء الإفراج عن المعتقلين. ويمكن أن يدخل ضمن هذا السيناريو الرهان على شخصيات ذات رمزية تاريخية مثل ابنة الزعيم التاريخي، عبد الكريم الخطابي، عائشة الخطابي، كواسطة ذات مصداقية تسهِّل التوصل إلى تسوية للأزمة.

سيناريو الحوار مع قادة الحرك في السجن: مع عدم وجود مؤشرات ظاهرة على وقوع مثل هذا الحوار، إلا أن تجارب الدولة المغربية في الحوار مع المعتقلين، سواء في السبعينات مع اليسار الجديد، أو حديثًا مع معتقلي ما يسمى بالسلفية الجهادية، تؤشِّر على إمكانية وجود هذه المبادرة، لاسيما أن تأثير قادة الحراك الذين يقبعون حاليًّا في السجون محوري، وأن ما تبقى من قيادات الحراك الوسيطة لا يمكن أن تقدم على أية مبادرة تخالف مضمون قَسَم الحراك أو “تخون” قياداته في السجن. والتقدير أن تسريب رسالة منسوبة إلى “ناصر الزفزافي”، قائد الحراك، من السجن، والجدل الذي أثارته حول مصدرها وصحة نسبتها إلى قائد الحراك، ومضمونها وما إذا كان يتناسب مع خط الحراك لاسيما وأنها تطابقت مع مضمون البلاغ الوزاري في إخراج الملك من دائرة اللوم والعتاب، والرمي باللائمة على المسؤولين والوزراء، هذه الرسالة وما أثارته من جدل، وبغضِّ النظر عما تحمله من رسائل، وما رافقها من نفي واتهامات متبادلة بين محامي الزفزافي وبين المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج، فإنها تدل على وجود تفاوض سري داخل السجن مع قادة الحراك للتوصل إلى تسوية وطي الملف.

سيناريو التدخل الملكي: وقد كان هذا السيناريو مطروحًا قبل سيناريو تفعيل دور الحكومة، بحكم الطلب الكثيف عليه، وإمعان قادة الحراك في التخاطب المباشر مع الملك، غير أن عددًا من الأسباب حالت دونه أو عملت على تأخيره، منها على وجه الخصوص: الخوف من إحراج المؤسسة الملكية ووضعها في دائرة الاحتكاك والاشتباك المباشر مع الحراك، ومنها قضية هيبة الدولة والخوف من أن يكون “خضوعها” لمطالب الحراك مقدمة لاندلاع حراك في عدد من المناطق التي تعاني نفس وضعية الإقصاء والتهميش التي تعاني منها الحسيمة ولا تحظى بأي مشاريع ملكية مُهَيْكَلَة كما تحظى بها الحسيمة. 

والذي تبدو مؤشراته قوية أن التدخل الملكي يمكن أن تكون صورته في شكل تتويج لنجاح مسار إحدى المقاربات السالفة أو مجموعها، وذلك بإطلاق عفو شامل عن معتقلي الحراك بشرط توفير جو التهدئة وإيقاف المظاهرات. 

لكن، ثمة سيناريو أسوأ يمكن أن يحدث في حالة إصرار الحراك على أسبقية الإفراج عن المعتقلين على أية تهدئة، وعدم الارتكان لأي وعود أو ضمانات من أية جهة ورفض السلطة التجاوب مع هذا المطلب، وفي هذه الحالة سيكون الرد المقابل من قبل السلطة السياسية هو العودة القوية للمقاربة الأمنية وإمكان اندلاع الحراك من جديد وربما توسعه وامتداده لمناطق أخرى مجاورة. 

والتقدير أن السلطة السياسية ستتجه لدمج السيناريوهات الثلاثة الأولى للتمهيد للتدخل الملكي، مع تقديم مزيد من الخطوات المندرجة في اتجاه الطمأنة والانفراج، والإسراع في إخراج بعض المشاريع إلى الوجود، والرهان على النخب التجارية والمهنية في المنطقة لدفعها لإصدار بيانات تدعو للتهدئة خوفًا على انهيار الاقتصاد في المنطقة، وهو ما يمكن أن يؤتي أكله شريطة أن تتحرى السلطة السياسية الحذر الشديد من الزج مرة أخرى بعناصر المقاربة الأمنية التي يمكن أن تفجر الحراك في أية لحظة.

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.