محمد عصام
السابع من أكتوبر ليس يوما عاديا في التاريخ السياسي للمغرب، ولا يمكن بأي حال اعتبار النزال الانتخابي الذي شهده ذلك اليوم من السنة الماضية برسم الانتخابات التشريعية لمجلس النواب ل 2016، نزالا عاديا كأي استحقاق انتخابي مر وسيمر في تاريخ الممارسة السياسية في هذا البلد، فلا السياق العام الذي أحاط بذلك اليوم، ولا المخرجات التي أفرزتها وقائع ما بعد صدور النتائج وتبين الخيط الأبيض من الأسود، ولا حجم تصادم الإرادات الذي مهد لذلك النزال ولا الذي واكبه، وكذلك الذي أعقبه ومازال مستمرا إلى اليوم وإلى ما شاء الله، تفيد أننا كنا مع موعد رتيب في تاريخ المغرب.
السابع من أكتوبر كان عنوانا لصراع إرادتين واضحتين لا مراء فيهما، ولا تخطئهما العين، إرادة تنتمي للمستقبل وتنحاز إلى الشعب، وتصون إرادته وتذود عن مكتسباته في الحرية والدمقرطة والتشاركية، وإرادة منتكسة تحن إلى زمن ظن المغاربة أنهم أقاموا عليه صلاة الجنازة وأكرموا مثواه، منذ انبلاج دستور 2011، وما أغدقه من منسوب التفاؤل في المشهد برمته، وما تخلل مقتضياته من تباشير الانطلاق نحو رحابة الديمقراطية وطي صفحات الماضي، وإرادة نكوصية تريد أن تجعل من مكاسب ما بعد الدستور قوسا يجب الإسراع بإحكام غلقه، مستقوية في ذلك بما توفره لها مواقع النفوذ داخل الادارة، واستثمار السياق الخارجي المتجه عموما نحو المحافظة والارتداد في شقه المرتبط بالمحيط الاقليمي عن مسارات الربيع الديمقراطي، وذبول أزهاره في غير ما موقع من خريطة الحرائق الممتدة في المنطقة.
لقد شكل السابع من أكتوبر انتصارا لإرادة التغيير والإصرار على المستقبل، وأبان ذلك اليوم على قدرة فائقة للشعب المغربي على تمييز اللحظة وتبين كنهها الحقيقي، رغم كثافة الأدخنة التي حاول المعسكر الآخر بثها في الصورة، وحجم “التضبيب” والخداع الذي مورس بكل أشكاله، بل إن الشعب قاوم بجدارة تستحق من الفاعل السياسي أن ينحني لها تقديرا وإجلالا، كل أساليب الترهيب والابتزاز الذي مارسه الخندق المحمي بالإدارة والمنتشر في أذرعها السياسية المسماة زورا أحزابا، ووكالاتها الإعلامية المشتغلة بمنطق التعليمات أو الإغراءات أو كلاهما معا، وفي هذا الصدد آن الأوان لنطرح سؤالا كبيرا، على أولئك المقامرين الذين وظفوا كل الأساليب لقهر الإرادة الشعبية وتطويعها لمنطق الاندحار والارتداد، ترى كيف كان سيكون المغرب لو أن مسيرتكم المشؤومة المسماة شعبيا وإعلاميا ” مسيرة ولد زروال” نجحت وانطلت لعبتكم وخديعتكم على البررة من أبناء هذا الشعب العظيم؟ ترى ماذا كنتم تعدون لهذا البلد الأمين لو أنكم هزمتم بسحركم الملعون قدرة هذا الشعب على التقاط “المعنى” وعدم الانخداع بطيف بهتانكم؟
الأكيد أن كل المؤشرات تفيد أن الجهات التي دبرت بليل تلك المؤامرة، وأحكمت تفاصيلها كما تشي بذلك الخطوات التي نفذت بسرية كاملة وعلى مستوى التراب الوطني ككل، والفاصل الزمني بين الإعلان على المسيرة المؤامرة وتنفيذها، ثم اختيار الوقت بإحكام في سياق الحملة الانتخابية، كل هذه المؤشرات تفيد بلا جدال أن القابعين في قمرة قيادة هذه المهزلة، يملكون “سيناريو” معد سلفا لتدبير ما بعد المسيرة، لكن إرادة الله ثم عزيمة الشعب المغربي فوتت عليهم ذلك وخيبت مساعيهم.
لقد كان السابع من أكتوبر استفتاءا شعبيا برهانات سياسية واضحة، على إمكان التمديد ليس لفصيل سياسي فقط وأقصد هنا العدالة والتنمية ولا أيضا للتجربة الحكومية التي يقودها أمينه العام الاستاذ عبد الإله ابن كيران، ولكن التمديد للحظة سياسية معينة بكل مفرداتها، والإصرار على ديمومتها، باعتبارها أفقا مستحقا للمغاربة، وأن التعاقدات التي أبرمت عقب الحراك الاجتماعي، لم تستنفد بعد الجدوى منها، بل إن كثيرا من مقتضياتها ومستحقاتها مازال حلما تعترضه إرادات نكوصية تشتغل ليل نهار للالتفاف عليها أو على الأقل تفريغها من مضمونها الحقيقي، لقد كنا إزاء معركة سياسية مكتملة الأوصاف، ضخ فيها خندق النكوص كل ما يتوفر عليه من إمكانات وما استولى عليه من مواقع، لضمان فوز أداته الحزبية”البام”، وهو الأمر الذي أبطلته إرادات التغيير وأوقفت مفعوله وتصدت له بقوة وحزم.
لكن الإرادة النكوصية التي تلتقي في طبيعتها مع طبيعة الجمود والمحافظة اللذان يشكلان كسبا تاريخيا للدولة وإدارتها، ومعطى بنيويا فيهما، لم تقف مكتوفة الأيدي، أمام تشكل وضع جديد، سيُفقد بالتأكيد كثيرا من الفاعلين في هذا الخندق امتيازاتهم ومصالحهم وقدرتهم على التأثير، بل الضبط والتحكم في المشهد ومآلاته بما يخدم مصالحهم ويستديم وضعهم وامتيازاتهم، ولهذا تفجر مباشرة بعد الإعلان الذي لا مفر منه عن تصدر العدالة والتنمية لنتائج الانتخابات وهزيمة التحكم وأدواته، موضوعٌ المؤامرة على هذه النتائج وخرجت إلى العلن أخبار الاجتماع الفضيحة يوم 8 أكتوبر، الذي جمع عراب التحكم الأول إلياس العماري بزعماء بعض الأحزاب لخلق وقائع جديدة ضدا على الحقائق التي أنتجتها صناديق الاقتراع، وفعلا كشفت الوقائع التي تلت انكشاف مؤامرة 8 أكتوبر، أن الأمر جدٌ وليس بالهزل، وأن النكوصية عازمة على فرض واقع جديد، وأنها غير مستعدة لتقبل هزائم النزالات في ميدان الديمقراطية، وأن كل شيء مباح في هذا الطريق، وان اقتضى الأمر الانقلاب على الدستور نفسه، فالغاية عند القوم لا تبررها الوسيلة، والهدف لا تضنيه العقبات.
لقد شهد المغرب منعطفا تاريخيا غير مسبوق في المشهد السياسي، اصطلح عليه إعلاميا بمرحلة “البلوكاج” والتي لا تعني في تقديرنا طبقا للمعطيات والتحليل السابق، إلا تجسيدا عنيفا لصراع الإرادات المتكلم عنه فيما سبق، الجديد فيه هو كشفه بالواضح أن آليات اشتغال خندق النكوصية والتحكم متنوعة تنوع اختياراتها، مادامت تخدم الهدف الأساس الذي هو الانتقام من لحظة 2011 وما افرزته من مفردات، لكن الخطير في هذا الوضع ليس ما نجم عنه من نتائج آنية، بقدر ما يتراكم في وعي الناس من خلاصات ستؤطر بلا شك سلوكهم وتحدد اختياراتهم السياسية في المراحل المقبلة، ولعل أخطر شيء في هذا الباب أن تتكرس لدى هؤلاء قناعة اللاجدوى من العملية السياسية برمتها، وأن يعم الإحباط والضبابية المشهد، فنسب المشاركة في الانتخابات الجزئية في عدد من الدوائر التي أعيدت فيها الانتخابات، تدق بقوة “جدران الخزان”، وتستنفر نوازع التعقل لدى الفاعلين في المشهد، فالعبث بإرادات الشعب مهلكةٌ للجميع، أدركنا ذلك أولم ندركه، فالأيام كفيلة بتعليمنا إياه، ألم يقل شاعر الغيوان “لي ما مفهم دابا ليام توري لو” وقبل ذلك قيل “دوام الحال من المحال”