الشوباني يكتب-15-: هل نجح طوفان الأقصى في الإجهاز استراتيجيا على “الحل الصهيوني” ل “المسألة اليهودية” من المسافة الصفر؟

د الحبيب الشوباني


 

 

[في تاريخ أصول “الحل الصهيوني” ل “المسألة اليهودية” (3) :
الثالوث الفكري المؤسس للمشروع السياسي الصهيوني: مُصطَلح Birnbaum – كُرّاسة Pinsker -كِتاب Herzl]

1. لا يمكن الحديث عن تاريخ الفكر السياسي الصهيوني المعاصر دون التوقف عند ثلاث شخصيات أساسية بصَمَت هذا التاريخ الفكري الصهيوني ببصمات ذات طبيعة تأسيسية، جعلت منه ما هو عليه اليوم من تجسيد مادي ملموس في شكل “دولة يهودية تحتل أرض فلسطين” ، بعد أن لم تكن شيئا مذكورا قبل حوالي قرن من الآن. أول هؤلاء، هو الكاتب والمفكر اليهودي النمساوي ناتان بيرنبوم Nathan Birnbaum (1864-1937) ، الذي يعتبر من رواد الحركة الصهيونية لأنه من منظري “فكرة العرق اليهودي” غير القابل للاندماج مع الغير، ولأنه أيضا مخترع مصطلح “الصهيونية” الذي استعمل لأول مرة في مقالة له نشرت سنة 1882م. في هذه المقالة أدان Birnbaum بشدة دعوات اندماج اليهود في المجتمعات الأوروبية في إطار “حركة الاستنارة اليهودية الهاسكلاه Haskalah” ، وعبر فيها عن رفضه لسياسات تنفيذ مفهوم الاستيعاب l’assimilation الذي يبشر به رواد هذه الحركة الفكرية اليهودية، كما شجع على الالتزام بالفكرة الصهيونية وتجسيدها عمليا من خلال تشجيع الاستيطان في فلسطين التي يسميها في مقالاته “أرض إسرائيل” . انشغل Birnbaum بنشر أفكاره الصهيونية من خلال نشاطه الإعلامي الذي أسس لأجله مجلة صهيونية سنة 1885م سماها “التحرر الذاتي” ؛ وعندما ظهر هرتزل بمشروعه العملي لتحقيق الحلم الصهيوني، انخرط Birnbaum بفعالية في صفوف الحركة الصهيونية، وأصبح من أعمدتها الرئيسية التي أشرفت على التحضير للمؤتمر الصهيوني الأول المنعقد في سويسرا 1897م، بعد رفض حاخامات اليهود الألمان مقترح هرتزل بتنظيمه في مدينة ميونخ الألمانية.

2. عرف Birnbaum بتوجهاته الدينية الارثودوكسية المناهضة للأفكار الاشتراكية والليبرالية والعلمانية بشكل عام، وهو ما جعله يبتعد عن النهج البراغماتي العلماني الذي أضفاه هرتزل على مشروعه الصهيوني. لمواجهة تهميشه تدريجيا من مراكز صناعة القرار في مؤسسات الحركة الصهيونية، ساهم في تأسيس “حزب أغودات إسرائيل (بالعبرية) / حزب وحدة إسرائيل (بالعربية) ” عام 1912 في بولونيا، وأصبح زعيما له فيما بعد. من الأفكار التي عاش لأجلها Birnbaum سياسيا وتبناها حزبه بعد وفاته في هولاندا سنة 1937: (1) مقاومته للروح اللادينية للمشروع الصهيوني، (2) بناء المدارس الدينية وتعليم الديانة اليهودية، (3) المطالبة بتأسيس “دولة دينية” تلتزم بتعاليم الشريعة اليهودية، (4) معارضته لفكرة إصدار دستور مكتوب ل”دولة اليهود”، لأنه سيكون حتما دون سلطة “الوصايا العشر التوراتية”، (5) محاربة فكرة تجنيد النساء في الجيش أو في الخدمات المدنية؛ (6) كفاحه من أجل اعتماد اللغة اليديشية (لغة يهود أوروبا الشرقية) لغة وطنية للشعب اليهودي بعد إقامة “دولة اليهود”.

3- أما الرجل الذي تعتبره أدبيات الحركة الصهيونية بمثابة المنظِّر المؤسس للفكر السياسي الصهيوني قبل هرتزل، فهو الطبيب اليهودي الروسي “ليون بينسكر Léon Pinsker “(1821-1891). عاش Pinsker في طبقة اجتماعية ميسورة فكان من أشد المتحمسين لفكرة الاستيعاب والتحرر وغير ذلك من أفكار الاستنارة اليهودية، وعمل بدون كلل على تشجيع اليهود على الاندماج في المجتمع الروسي، وتملُّك الثقافة واللغة الروسيتين، وعدم الوقوع في فخ الانغلاق الاجتماعي داخل “ﯕيتو اللغة اليديشية” ؛ وبسبب حماسته لهذه الأفكار، شارك في إنشاء مجلة أسبوعية يهودية تصدر باللغة الروسية تتولى التبشير بها وحث اليهود الروس على اعتناقها. لكن Pinsker الذي كان يزاول الطب منذ سنة 1849م في مدينة “أوديسا Odessa”(مدينة توجد في أوكرانيا حاليا، على شاطئ البحر الأسود ) ، عاش أحداث “مذبحة أوديسا pogrom d’Odessa” سنة 1871م، والتي هلك فيها آلاف اليهود، ثم تلتها مذبحة عام 1881م التي أعقبت اغتيال القيصر الروسي ألكسندر الثاني، بعد اتهام اليهود بالتورط في مقتله. شكلت هذه الأحداث – بالإضافة إلى قضية الضابط Dreyfus في فرنسا – ضربة قاضية لمعتقدات Pinsker الفكرية والسياسية ذات الصلة بفكر التنوير اليهودي والاستيعاب كطريق سالكة لوضع حد للاضطهاد المزمن لليهود، فانزوى بعيدا واعتزل العمل السياسي. بعد انهيار حوالي عشرين سنة من جهود التبشير بالاندماج والتكامل مع الشعب الروسي، كان مما تخلى عنه Pinsker على وجه الخصوص، جهوده في “مكافحة معاداة السامية”. فقد اعتبر “معاداة السامية” عند المسيحيين من منظور طبي مُبتَكر، مرضا عقليا مزمنا سماه: “رُهاب اليهود Judéophobie” ، وهو “ذُهان وراثي psychose héréditaire” غير قابل للشفاء، لأنه ظل ينتقل كمرض ثقافي منذ ألفي عام، الأمر الذي جعل الشعب اليهودي هو “الشعب المختار للكراهية العالمية” ، وحكم عليه تاريخه بأن يظل متسولًا، وحقيرا، ومنبوذا، وغير جدير بالحياة الكريمة في وطن مستقل كباقي شعوب الأرض.

5. في سنة 1882م خرج Pinsker من عزلته الاضطرارية وتوجه في رحلة أولى قادته إلى أوروبا، حيث اجتمع فيها برموز الجاليات اليهودية، وهناك كتب بالألمانية “كراسته التاريخية” التي عنونها ب: “التحرر الذاتي: تحذير يهودي روسي لإخوانه Auto-emanzipation : Mahnruf an seine Stammesgenossen von einem russischen Juden ” ونشرها دون توقيع يكشف عن هويته. على الرغم من صغر حجم “كراسة التحرر الذاتي” ، إلا أنها تعتبر أهم وثيقة تأسيسية سياسية معاصرة للمشروع الصهيوني، لأن لغتها كانت مشبعة بخيبة الأمل من فكر الاستنارة اليهودية، وبوصف خطورة الوضع الذي عليه اليهود، وبحاجتهم للخلاص إلى أرض تسمح لهم بإعادة بناء وجودهم وحماية أنفسهم والتعامل مع أمم العالم بِنِدِّيَّة. وبلغة الطبيب المعالج للجسد المعتل، دعا Pinsker اليهود إلى الكف عن تناول مزيد من “مُسَكِّنات العظام” ، والتوقف عن اعتياد العيش على الإذلال الذي طوروه في الشتات، وأن عليهم أن يستعيدوا احترامهم لأنفسهم قبل أن ينتظموا سياسيا في أي إقليم من أقاليم الأرض، مؤكدا أن هذا هو السبيل الأوحد لنجاة اليهود من وضعهم الأخلاقي الكارثي. اللافت للانتباه أن كراسة Pinsker لم تكن مجرد كراسة نظرية، بل تطبيقية أيضا إلى درجة أن كتاب “دولة اليهود” لهرتزل يتطابق معها في كثير من التفاصيل، بما لا يمكن تفسيره إلا بوجود “سرقة علمية Plagiat” وقع فيها هرتزل متأثرا بفكر Pinsker ، أو بوجود “توارد خواطر” غير طبيعي للأفكار بين الرجلين، عندما كان كلاهما يصمم “حلا صهيونيا معاصرا للمسألة اليهودية” في جغرافية مترامية الأطراف، وعلى مسافة زمنية متباعدة نسبيا ( حوالي 16 سنة: صدرت كراسة Pinsker سنة 1882م في حين صدر كتاب هرتزل سنة 1896)؛ لكن الاحتمال الأول يظل هو الأرجح في تفسير هذه الملاحظة.

(يتبع في المقالة 16)

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.