رحموني يكتب: تفكير مختلف في المسألة الانتخابية : حاجة الإصلاح الديمقراطي لفاعلين خارج منطق النسق المركزي للدولة

خالد رحموني

1-التعقد المستمر للمشهد السياسى ــ وإن كان فى أحد أبعاده يتعلق بتوجهات وكفاءة الأطراف الموجودة فى الحكومة والمعارضة ــ فإنه يعبر أيضا عن صراع بين مشروعين للحكم وتدبير شؤون الدولة والانتقال الديمقراطي الجاري، أحدهما مرتبط بتشكيلات الدولة التسلطية القائمة من قبل الحراك الديمقراطي الشبابي والشعبي المطالب بالاصلاح السياسي تحت شعارات الكرامة والعدالة الاجتماعية والتنمية والدمقرطة، والثانى ذو صلة بقوى المجتمع الراغب فى أساليب أكثر ديمقراطية (بالمعنى السياسى والاجتماعى) فى تدبير شؤون الدولة والحكم، وهو ما لا يمكن تحقيقه بغير تحصيل أسبابه وتوفير شروطه بالطبع من داخل منطق المشاركة في القرار العمومي الموصول بصناديق الاقتراع .
 
2-تكشف الأحداث عن فشل بعض الأطراف السياسية الرئيسة داخل مشهد العمل العام في تقديم حلول تحظى بأي قدر من الشرعية والمقبولية للمشكلات الحالة، الاجتماعية والاقتصادية والقضائية والادارية والمرتبطة بملف العدالة الاجتماعية؛ وأما الحكومة فقد فوجئت بمقاومات عنيدة من قبل بعض الجهات والبيروقراطية العتيدة لمشروعها الإصلاحي الانتقالي، فتذرعت بذلك بعض النخب التدبيرية والتقنقراط لتبرير اتساع البون بين الواقع اليومي لقضية الاصلاح السياسي العميق وما وعد به في سالف المراحل من امكانيات التقدم في اتجاه الاصلاح التدريجي للشأن العام، رغم أن التفاجؤ المغالي غير مبرر، لأن سببه ليس كوارث طبيعية وإنما شد وجذب متوقع بين السلطة السياسية الوليدة بمختلف مكوناتها والجهاز البيروقراطى بتشعب تشكيلاته ومركباته، وأما المعارضة فقصر جلها مشروعه السياسى على النقد المجاني والشارد لحكام المرحلة الشرعيين، من غير التحصل على موطن راجح على مستوى ميزان القوى الشعبي، ومن غير تقديم مقترحات حلول وبدائل تتعلق بالسياسات أو كيفيات صناعة القرار أو نظم الحكم تقدم بها رؤية بديلة للتعامل مع التحديات التي تواجه بلدنا في هذه المرحلة العصيبة من تطوره السياسي .

3-بيد أن قصر الأمر على الحكام والمعارضة مخل، لأنه يستبعد اللاعب الرئيس في معادلة الاصلاح السياسي الجارية، وهو مؤسسات الدولة العتيقة والعميقة بمؤسساتها البيروقراطية والتقنقراطية ورموزها الراسخة والمنيعة، والتي تم إنشاؤها قبل أكثر من قرنين من الزمان لتدعيم أركان حكم الدولة المركزية الراسخة، ونشأ فى أروقتها الوعي بالانسية المغربية كما ألمح الى ذلك زعيم الوطنية المغربية علال الفاسي رحمة الله عليه، فكانت سابقة في وجودها على الجماعة السياسية الوطنية التي تشكلت في مرحلة النضال والكفاح التحرري لنيل استقلال الارادة الوطنية، مؤسسة لها، قائدة ــ بالنيابة عن الجماهير، بقطع النظر عن إرادتهم ــ لعملية التحديث المؤسساتي لبنيات الدولة في نهاية القرن التاسع عشر وخلال مطلع القرن العشرين سواء على المستوى الاقتصادى والاجتماعى والدينى.

 4-تلك الدولة ــ كما هو الحال في الكثير من دول العالم الثالث ــ كانت تحمل في أجهزتها مشروعا سياسيا، فكان من الطبيعي أن تفرز نخبا تعبر عن ذلك المشروع بأجنحته المختلفة، فاحتل أبناؤها مقاعد الصدارة في الحكومات والمعارضة جميعا، بدءا من حكام دولة الحسن الاول حتى دولة ما بعد الاستقلال الوطني المحجوز، ومرورا بكل رموز الوطنية المغربية، وبشكل عام، كان مشروع الدولة هو الذى حكم مغرب ما بعد الاستقلال خلال القرنين الأخيرين على الأٌقل، وظل لاعبا رئيسا بعد الحراك الى يوم الناس هذا بتفاوت الايقاع ونمط التدبير الظاهر لقوى ونخب الحكم الجديدة .

5-وفى مقابل الدولة كان المجتمع، وكانت مؤسساته الرئيسة، كالنقابات والطرق الصوفية ونظام الحسبة والمؤسسة الوقفية والعلماء والصلحاء وغيرها من المؤسسات المتداخلة الهادفة لتحقيق غايات الجماعة في شئونها المتعددة والمتنوعة، قد تراجع دورها مع نشأة الدولة الحديثة، لتحل الدولة المركزية الحديثة محلها، وانتهى تدريجيا وجودها الذاتي المعتمد على فكر وأعراف وصلات اجتماعية تقليدية، وتمت دولنتها والهيمنة عليها ومصادرة منافذها بحيث صارت أجزاء من جهاز الحكم  التحكمي المهيمن لا انعكاسا للإرادة المجتمعية الصاعدة والمنبثقة من الناس والجمهور.

 6-وهكذا، فإن هذا المجتمع ــ لما تراجع مشروع الدولة التسلطية جزئيا بفعل الحراك الديمقراطي ــ لم يستطع التقدم للأمام واحتلال بعض المواقع، إذ لم تكن المنصات التي يمكن الارتكاز عليها قائمة، ولذلك فقد ترك تراجع الدولة المركزية لبعض الوقت فراغا اعتباريا، تعود الآن جزئيا لملئه (كما يبدو في الحديث عن عودة بعض المؤسسات المركزية للاشتغال بنفس المنطق المتعالي والنمط المتغول من داخل المشهد السياسى، والتصالح مع بعض رموز النظام السياسي التسلطي، وغير ذلك)، لا يمنعها من العودة الكاملة إلا أن عصاها انكسرت وشوكتها انحرفت عن حديتها، والخوف منها تبدد، والغضب تجاهها يستند لمظالم حقيقية، تتصل بالحريات والحرمات والأقوات، الأمر الذى يجعل الفتور في المطالبة بها مستبعدا.

7-فالأزمة السياسية الحالية البادية في أحد أبعادها هي صراع بين بنية تسلطية لم تعد تمتلك أدوات وشرعية القمع التي اعتمد عليها حكمها في سالف عهدها بالتدبير المنفرد للقرار العمومي من جهة، ومجتمع يريد التعبير عن نفسه وتغيير العلاقة بينه وبين الدولة من غير أن يمتلك أدوات ذلك من جهة أخرى معية طليعته التي أنجبتها المرحلة ممثلة في العدالة والتنمية، والمخرج من تلك الأزمة سيكون إما ردة عنيفة للخلف بتمكين الدولة من التسلط مجددا وامتلاك المبادرة في التحكم، أو حركة للأمام بتمكين المجتمع وحفزه على التطلع بإصرار لحياة كريمة تتحقق فيها الدمقرطة الحقة والعدالة الاجتماعية والتوزيع العادل والمتوازن لخيرات النمو .

  8-وتمكين المجتمع يحتاج لإعادة إيجاد المؤسسات المجتمعية الوسيطة والعميقة التي تعبر عنه، وتضع مصيره في يده لا في يد البنية التسلطية المهيمنة والمهينة للكرامة، وتمكنه من نظامه السياسي الديمقراطي ليكون خادما له – للمجتمع- لا العكس متحكما في رقاب الناس بأدوات الكبت السياسي والارغام القاهر للناس، وإيجاد القيادات الطبيعية والرموز العضوية التي تتفق أولوياتها ومواقفها مع مطالب المجتمع وتستجيب لديناميته العميقة، وتمتلك في الوقت ذاته الكفاءة والاقتدار اللازمين و التي تمكنها من إدارة  دفة القرار العمومي في نسق الدولة ومؤسساتها، وهو ما يمكن أن يتحقق بشكل رئيس من خلال مؤسستين: أولاهما الجماعات الترابية وتدبير المحليات، وثانيهما قوى المجتمع المدني من التنظيمات الطوعية  وعلى رأسها الجمعيات المستقلة والنقابات .
ففي هاتين المؤسستين يكون الانشغال ــ وجوبا واضطرارا ــ بقضايا الناس وحاجاتهم اليومية الصميمة، سواء المهنية أو الخدمية، على نحو يفرض تجاوز الاستقطاب المعيق للحركة والفكر، وتكون فرص النجاح في الانتخابات الجماعية لغير المنتمين للتنظيمات التقليدية، وغير ذوي القدرات المالية العالية ولا لذوي الروابط المناطقية والعضوية، أفضل منها في الانتخابات السياسية التشريعية، ويحتفظ الفائز بالانتماء العضوي لجماعته (سواء الوظيفية أو الجغرافية) مع تداخله المباشر في العمليات الإدارية في تنظيم الدولة المركزية، على نحو يكسبه خبرات تعينه على الترقي في المراتب السياسية بمشروع المجتمع لا مشروع الدولة.

 9-إن مثل هذه الأوعية المجتمعية من الحركة الاجتماعية القاعدية هي المفرزة الطبيعية للقيادة السياسية الفاعلة، والقادرة على تمكين المجتمع من الشرعية.
يبدو ذلك واضحا ــ على سبيل المثال ــ فى النرويج، حيث يأتى أكثر من 60% من البرلمانيين من المحليات، إضافة لذوى الخلفيات النقابية، فيعبرون عن انحيازاتهم تلك بالدفع في اتجاه المزيد من تمكين المجتمع.
وفى البرازيل استفاد الرئيس السابق لولا دي سيلفا من تجربة طويلة في العمل النضالي في النقابات والاتحادات العمالية، مكنته من علاج مشكلات اقتصادية تتعلق بفجوات الدخل ومستوياته في سنين معدودة.
وفى تركيا كانت للخبرات التي أكتسبها رئيس الوزراء رجب طيب أردوجان كعمدة لإسطنبول أهمية مركزية في تمكينه في فهم البيروقراطية  الدولية ومن ثم نجاحه في حلحلة النظام الأتاتوركي الاستبدادي العتيد والعنيد.
وفى إيران لا يزال أحمدي نجاد يستند على قاعدة تأييد من البسطاء بعد خبرة مماثلة اكتسبها في المحليات.

  10-إن مشروع تمكين المجتمع العميق، الذى هو جوهر الديمقراطية، وجوهر مطالب الثورة الربيعية، لا يمكن أن يتحرك للأمام بمجرد دفع مشروع الدولة للخلف وجعله يتوارى ويتخفى أو بتسليط الضربات الموجعة المباشرة له، إذ هذه ستعود حتما، طال الزمان أو قصر، كليا أو جزئيا، ما احتل الفراغ مكانها، وإنما يحتاج مشروع تمكين المجتمع لقوى دفع منيعة ولمنصات صلبة خلفية يتحرك منها للأمام، من أهمها الجماعات المحلية ومؤسسات المجتمع المدني الوسيطة، التي تحتاج لإصلاحات تشريعية وسياسية لا تحظى بالقدر الكافي من الاهتمام إن نحن طالعنا المخطط التشريعي الذي بسطته الحكومة في ما مضى من زمن سياسي .

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.