‎ الرحموني يكتب: الوفاء للديمقراطية بالمغرب يقتضي العودة لمنطق الشراكة الحقيقية في القرار السياسي

2013-09-17

خالد رحموني
حين داهمتنا التحولات الثورية الفارقة -السلمية في دول والعنيفة في نماذج أخرى – التي شهدها عالمنا العربي -منذ  ما يقرب من العامين- وجدنا أنفسنا كشعب ودولة وقوى ونخب وفاعلين -مضطرين- أمام خيارين اثنين لتصريف ما حملته هذه التحولات من أعاصير وأمطار وردات ، احدهما خيار الاستجابة ولو الجزئية  عبر سلسلة من المقررات والإجراءات التي تمخضت عن وصفة الإصلاح وأفضت إلى ما رأيناه من تحسينات وتبديلات في المشهد الأساسي للوضع السياسي العام في البلد ، والآخر خيار الدوران مع احتجاجات الشارع ومطالبه، حيث اتسم التعامل الرسمي مع المسيرات -في الغالب- بمنطق الاستيعاب والمداراة-مع تسجيل بعض العنف الموضعي المحدود لكن غير المنهجي -، واعتماد صيغة الامن الناعم وحافظ على مسافة ما تُجنب الطرفين الوقوع في أي صدام دموي محتمل في إبانه .

إذا دققنا في المشهد السياسي، سنكتشف بأننا نجحنا كدولة وقوى مجتمعية وسياسية متعددة المشارب والمرجعيات  والمواقف والمواقع -نسبياً- في استخدام القناتين : قناة الكياسة والسياسة التي تكيفت مع المستجدات وقدمت جزءا من استحقاقاتها، وقناة الشارع الذي اتسمت احتجاجاته بالتعدد والتنوع والتصعيد تارة، وبالبرودة تارة أخرى، كما اتسمت مقاربات مجمل تلك الأطراف معه بالاستيعاب ومحاولة الاختراق والشدة أحيانا والاستعمال والمحاصرة المراقبة أحايين كثيرة،
لكن السؤال الآن هو: هل استنفدت هاتان القناتان مشروعيتهما وصلاحيتهما، وهل يمكن ان نستمر -بعد كل هذه الشهور المنقضية – في تصريف احتجاجات الناس ومطالبهم عبر هاتين القناتين، ثم هل نضمن أن تكونا مأمونتين على المدى البعيد؟.

لا أريد أن أناقش المسألة على صعيد تجربة التصريف السياسي التي يبدو أن مخرجاتها أصبحت واضحة، سواء من جهة الانتخابات وإفرازاتها، او من جهة الحكومة وانجازاتها،أو من حيث محدودية قوى المعارضة المؤسساتية وارتباكها وفقدانها بوصلة النضال الديمقراطي الشعبي، لكن استأذن في تسجيل بعض الملاحظات على هامش ما شهدناه في تجربة كل تلك الحراكات الشبابية والشعبية والأصيلة الممثلة في عنوان 20فبراير وخبرة المسيرات التي يراهن البعض على استمرار إدارتها بالطريقة ذاتها، إن لم أقل بتشويه مقاصدها وتحريف مآلاتها لتصب في النهاية في خانة الحفاظ على ثباتية الوضع وجموده السياسي بمقياس المشروع الإصلاحي والانتقال الديمقراطي :

الملاحظة الأولى، هي أن الإصرار على البقاء في الشارع، والمضي في المطالبات والاحتجاجات يعنيان -بالضرورة- أن جزءا من المجتمع المغربي ما زال يعتقد بأن مسيرة الإصلاح لم تكتمل، وبأن ما قدم لا يلبي طموحاتهم، وبالتالي فان امتداد هذه الحركة المطلبية الاحتجاجية سواء اتخذت الطابع السياسي او الاجتماعي او الاقتصادي، سوف يستنزف وقت الدولة وجهدها، سياسياً وامنياً، وإذا قدر لنا ان نقارن بين خسائرنا في حال استمرار الاحتجاجات، وبين مكاسبنا في حال “طي” صفحتها، فان الفارق سيحسمه فقط مدى قدرتنا على دفع استحقاقات الإصلاح بدون مماطلة من قبل الماسكين بجوهر القرار الاستراتيجي داخل الدولة ، وإلا فان الخسارة ستكون باهظة لأسباب يعرفها الجميع، ويحيل على بعض من تجلياتها السياق الإقليمي –تفاعلات الانقلاب العسكري في مصر رعاها الله من كل سوء-الممثل في ركوب قوى وتحالف المعسكر المضاد للانتقال والإصلاح الديمقراطيين صهوة مغامرة الالتفاف على الإصلاح العميق للمجتمع والدمقرطة الحقة للدولة ، بما يعنيه من عودة جديدة لقوى الاستبداد والاستفراد والاستعباد والاستبلاد للتحكم من جديد وبسط هيمنتها على مفاصل الدولة والمجتمع .

الملاحظة الثانية: هي أن الرهان على ضبط إيقاع الحراكات ذات الافق السياسي والمنزع الاجتماعي وحتى المناطقي والجهوي والعمل على التحكم في مزاجها العام، والإصرار على سلامة توظيفها لامتصاص المطالب الحقيقية للمجتمع واستعمال منطق المناورة والمساومة وحتى المفاوضة،إن كل ذلك لم يعد في محله، اذ انه لا أحد يستطيع ان يضرب سياجاً أو يقيم حجابا على وعي الناس بتزييفه، أو ان يمنع امتداد هذه الحالة، عمودياً وافقيا لطول الوقت، كما انه لا يمكننا ان نتنبأ -مسبقا- بحركة الشارع ولا ان نتكيف سياسيا وامنيا مع فرضيات تصاعدها، وبالتالي فان قناة الشارع التي نجحت الدولة وبعض من النخبة السياسية -لبعض الحين- في لجمها وارجاء انفجارها دراماتيكيا وتصريف غضب البعض من الحانقين على البؤس العام المستشري في أوصال الوطن ، من خلال تلك القناة لم تعد مأمونة ولا مفضية الى نتائج سالكة ، خاصة اذا ما تذكرنا أنها تتغذى على مستجدات ومقررات ليس باستطاعتنا ان نطرح بدائل لها، لا على مستوى النوازل الاقتصادية-مفردة الازمة وتداعياتها- .. ولا السياسية ايضاً-محاولات نخبة القلة بالالتفاف والادمان على منطق المناورة والمداورة للاجهاز على خيارات الشعب في المرحلة وانجاز الامل الباقي في الاصلاح المؤسساتي الديمقراطي التراكمي – .

الملاحظة الثالثة: هي ان استخدام الشارع كقناة للتصريف يمكن ان يكون مقبولاً ومطلوبا لاغراض مجددة، وفي اوقات محددة ايضا، لكن امتدادها -زمنيا وجغرافيا واجتماعيا ايضا- سيطرح علينا سؤال الأفق والامتداد: وماذا بعد؟ ولنا ان نتصور هنا أن هذه النزعة الاعتيادية التي ارتبطت بالاحتجاجات المستوطنة في عديد من بلدان الربيع الديمقراطي ليست ثابتة، وان الملل الذي يراود القائمين عليها سيدفعهم الى البحث عن ادوات للتغيير والتنفيس والحفاظ على وهج الاشتعال في الموقف النضالي والحضور الجماهيري ، كما سيدفعهم الطرف الآخر الى البحث عن ادوات اخرى تخرجهم عن مقصدية الحراك بأن تلهيهم عن أهدافه  الحقيقية والعميقة في دعم الاصلاح السياسي وتحفيز دينامية التغيير الديمقراطي،أو بحرفه عن استهداف مراكز القوى الاستبدادية والبؤر الفاسدة الحقيقية لتدخلها في معارك وهمية وأهداف غائمة وزائفة وتضليلية، وسنكون لحظتها -بالتالي – أمام معادلات جديدة لا اعتقد انها ستكون في مصلحة احد من القوى التي لها مصلحة في التغيير ،بل ان ذلك سيصب في خانة الاستبداد والفوضى والاستعباد والاستئساد المراهن على أن يقايض قضية الاصلاح بالاستقرار الشكلي بمعناه الامني ، لنرجع الى مربع الصفر ، وهذا ما يراهنون عليه أبدا ودوما –القوى المضادة للاصلاح والتغيير السلمي التدرجي – .

اما الملاحظة الاخيرة؛ فهي ذات شقين : احدهما انه لا يمكن لنا –دولة وقوى مجتمعية وأحزاب حقيقية ونخب …- ان نستمر في وظيفة الإطفاء وإدارة الأزمات، ذلك اننا امام مرحلة فارقة وصعبة لا يصلح فيها التأجيل او الترحيل أو الالتفاف والمناورة، ومن هنا ربما تبرز حاجتنا الى اعتماد قناة سياسية مؤسساتية واضحة لتصريف فيضان التحولات العميقة المتفاعلة في كياننا والمتداعية في محيطنا القريب والتي داهمتنا، بدل الركون –مجددا ،وما في كل مرة تسلم الجرة – الى مأمونية قناة الشارع.

اما الشق الآخر فيتعلق بضرورة النظر الى مستجدات الوضع السياسي المتفاعل والمتسارع في الاقليم وبالتحديد ذات الصلة بقضية الاصلاح الديمقراطي، مهما كانت قراءاتنا لها، من زاوية الدفع نحو مرحلة انتقالية جدية تلبي مطالب الاصلاح في اقرار العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروة والانهاء مع اقتصاد الريع وتفكيك بنيات الفساد والاستبداد وحكم القلة المتنفذة ،
فزاوية الرهان جد محصورة وضيقة ولا تبقي خيارات مفتوحة : اما العمل على توفير ما يلزم من مناخات لتأجيل كل ما سلف من سيناريوهات الانفجار من جديد واما العدم والهرولة الى الامام.

 فمصلحة بلدنا تكمن في الوفاء للديمقراطية والالتزام بمنطق التوافق الحقيقي والشراكة المسؤولة المؤسساتية في القرار السياسي، وامتلاك جوهر السلطة واقران المسؤولية بالمحاسبة وربط القرار بصندوق الاقتراع …
يبقى الرهان الاوحد والفريد هو البحث عن مخارج سياسية للازمة التي تلوح في الافق وتصلح لتصريف ضروراتنا الاصلاحية، بعيدا عن الدوران في ثنائية الشارع والوصفة الرسمية المعتمدة والالتفافية والمجربة لعديد من التجارب، بما يرضي الجميع طبعاً.

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.