الشقيري يكتب: في شروط الاستقرار

13-09-18
 أحمد الشقيري الديني*
هناك من يريد أن يستغل الزيادة الأخيرة في المحروقات التي فرضها الارتفاع المهول لهذه المادة في السوق العالمية إلى مزايدة سياسية، وذلك بتعبئة الشارع ضد حكومة منتخبة اضطرتها الإكراهات الاقتصادية الصعبة العالمية لاتخاذ إجراءات صعبة وفق ما يسمى ب”نظام المقايسة”، وهو نظام معمول به في العديد من الدول، كما أن المغرب عمل به إلى حدود سنة 2000، وأصبح من الضروري وضع سقف لدعم بعض أنواع المحروقات حتى لا يلتهم صندوق المقاصة مخصصات تنشيط الاقتصاد وقطاعات اجتماعية أخرى مثل الصحة والتعليم والسكن الاجتماعي.
الذين فشلوا في تفجير الحكومة من الداخل، يسعون اليوم لنقل المعركة معها إلى الشارع، وهو رهان فاشل لأن المغاربة واعون بالجهة التي تحترمهم وتسعى جاهدة للالتصاق بهمومهم، ورفع الحيف عن الفئات المسحوقة منهم، وتقف في وجوه من اتخذوا السياسة مهنة ومطية للغنى الفاحش على حساب مصالح الشعب.

الذين يراهنون على الشارع اليوم، لا يدركون نعمة الاستقرار الذي ينعم به المغاربة، أو لا يهمهم ذلك ما داموا هم الخاسرين من الاستقرار، لا يدركون نعمة الاستقرار وهم يرون الفوضى المدمّرة التي تعرفها المنطقة، فليبيا الغنية تخسر يوميا 600 مليون يورو بسبب إضراب العمّال في شركات ومعامل تكرير النفط عالي الجودة، والجزائر تعيش أزمة سياسية خانقة يتمّ تصريفها عبر صراعات خفية بين أجنحة الجنرالات (وهم الحكام الفعليون) والمدنيين بقيادة الرئيس بوتفليقة، وتونس ما زالت تتأرجح بين خيارات عدة لحل أزمتها السياسية، ومصر أكبر دولة عربية فقدت البوصلة بعد الانقلاب العسكري، ودخلت في دوامة العنف والعنف المضاد، وهي تخسر ملايين الدولارات يوميا بسبب الخروج عن الشرعية وعودة رموز العهد البائد إلى واجهة الأحداث، أما سوريا والعراق فآلة الحرب الأهلية والاقتتال الطائفي يكاد يأتي على الأخضر واليابس ولا حل يبدو في الأفق.

الذين يراهنون على الشارع اليوم لا يدركون أنهم يحصدون فشلهم في تدبير مرحلة ما بعد الاستقلال، لا يدركون أن المغاربة يتميّزون بذكاء خاص يجعلهم يميزون بين الصادق والكاذب، ولم تعد تستهويهم دغدغة العواطف ولا الخطاب المنافق.
 الذين يراهنون على الشارع يجهلون شروط الاستقرار في هذا البلد، ولا بأس أن نذكرهم بأهمها:

ـ أولا حفاظ المغاربة على شكل الدولة الإسلامي منذ 12 قرنا رغم تعاقب الدول على حكم هذا البلد، ولم تحصل أي قطيعة مع هذا الشكل بعد الاستعمار الحديث كما حصل في معظم الدول الأخرى، بل حافظ المغاربة على نظام “إمارة المومنين”، وتمّت مأسسته في عهد الملكين الحسن الثاني ومحمد السادس.

ـ ثانيا تحديث الدولة المغربية من خلال إرساء نظام الملكية الدستورية والتعددية الحزبية وتبني النظام الديمقراطي بمؤسساته المتعارف عليها دوليا، ورفض نظام الحزب الوحيد أو حكم العسكر أو حكم العشيرة أو القبيلة، وهي النظم المعمول بها في العديد من الدول العربية اليوم التي لم تتحمّل رجّة الربيع الديمقراطي،فسقطت عروش ودمّرت مجتمعات وتفككت دول، وأخرى مهددة لا يقيها العاصفة إلا الثراء الناجم عن مصادر طبيعية، في حين وجد هذا الربيع في بلدنا أجهزة الاستقبال مشتغلة أو قابلة للاشتغال، فكان تأثيره محدودا وإيجابيا.

ثالثا إجماع المغاربة أحزابا وجماعات وإثنيات على الإسلام باعتباره مرجعية دينية وثقافية، والملكية باعتبارها مرجعية للاحتكام، واللسان العربي والأمازيغي باعتبارهما أداة للتواصل والتثاقف والانفتاح على الآخر.
رابعا التسامح والانفتاح على الآخر المختلف دينيا ولغويا وحضاريا، والتفاعل معه باعتبار المغرب بلد التواصل بين القارّات والحضارات، فمن خلال موقعه الجغرافي وعمقه التاريخي وبنيته السوسيوثقافية استطاع المغرب أن يحافظ على وحدته في تنوعه، وفي جيناته امتزجت حضارة الشرق بالغرب عبر مسيرة طويلة من تعاقب الدول والحضارات على حكمه وعمرانه.

خامسا اعتماد المذهب المالكي في الفقه، وهو أوسع المذاهب في تقدير المصالح والمقاصد، وأكثرها مرونة وسعة، وأعظمها جمعا بين النص والتعليل، بشهادة أئمّة كبار من خارج المذهب، على رأسهم شيخ الإسلام ابن تيمية الذي صنف رسالة طويلة في الإشادة بمذهب مالك، رغم أنه حنبلي المذهب.
فهذه خمسة مرتكزات عليها مدار استقرار هذا البلد بفضل الله ورحمته، وعليها مدار تفرده واستثنائه، وهي كما ترى متينة ضاربة في عمق التاريخ لا تتزحزح، ولو كان استقراره مرهونا بحزب أو صندوق أو نقابة أو مؤسسة لضاع.
*عضو المجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.