حامي الدين يكتب عن: صناعة المستقبل

13.09.25
عبد العلي حامي الدين*
العارفون بتاريخ الثورات يفسرون التحولات التراجعية الجارية في بلدان ما يطلق عليه بالربيع العربي بأنها ارتدادات وانكسارات طبيعية في مسلسل التغييرات العميقة التي ستقبل عليها المنطقة..معنى ذلك أننا نتابع حلقة من حلقات المسلسل ولسنا بصدد النهاية..
 
الربيع العربي لم يقل كلمته النهائية بعد، والشعوب التي انتفضت ضد الفساد والاستبداد لن تسمح بالعودة إلى مربع الصفر، وسرعان ما ستسترجع المبادرة حينما ستكتشف بأنها خدعت من طرف جزء من نخبها السياسية وسرق منها حلم التغيير الذي تؤمن به..
 
القيم السياسية الجديدة التي أصبحت راسخة في وعي الجماهير لا يمكن طمسها بالمحاولات الجارية لعسكرة الوعي الجمعي وترسيخ مقولة “ليس في الإمكان أبدع مما كان”..
 
الوعي بمسار التاريخ ينبغي أن يدفع الديمقراطيين من جميع الاتجاهات إلى تحمل مسؤولياتهم التاريخية وتقديم التنازلات المطلوبة لبناء التوافقات الكبرى المؤسسة للإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تحتاجها بلداننا، لكن قبل ذلك لابد من فهم أسباب فشل الحوارات السابقة..
 
فوراءنا أكثر من عقدين من “الحوار القومي الإسلامي” أو “الحوار العلماني الإسلامي”، وهناك تراث هائل من الندوات والمناظرات والأدبيات، بل نتوفر على بعض الوثائق المشتركة مثل “وثائق 18 أكتوبر بتونس”، التي تؤصل لمفاهيم التعددية والدولة المدنية والتداول السلمي على السلطة وغير ذلك من المبادئ الديمقراطية المتعارف عليها كونيا، والتي ساهمت في صياغتها التيارات الفكرية الأساسية في تونس..
 
لكن مع ذلك، لم ينجح الفرقاء الأساسيون في بناء وعي مشترك خلال هذه المرحلة، بل فضل بعضهم التحالف مع الجيش للإجهاز على الطرف الآخر..
 
من المهم، أن نفهم بأن المهمة التاريخية الملقاة على عاتق الجميع اليوم هي ترسيخ قواعد التداول الديمقراطي على الحكم، وإرجاع السلطة إلى منطق الإرادة الشعبية، وتوفير شروط التنافس الحر بين البرامج والأفكار، وهذا لا يمكن أن يتحقق بدون النجاح في تدبير المراحل الانتقالية..
 
في مصر، قضت إحدى محاكم القاهرة بحل جماعة الإخوان المسلمين وحظر كافة أنشطتها!! وهي الجماعة التي كان ينتمي إليها الرئيس مرسي قبل الانقلاب عليه..
 
الذين اتخذوا مثل هذا القرار لا يستفيدون من دروس التاريخ..
 
ففي سنة 1954 حصل توتر شديد في علاقة الجماعة بجمال عبد الناصر، انتهى بحل الجماعة وإعلانها تنظيما محظورا، وتم الزج بقياداتها في السجن وجرى إعدام العديدين منهم، من أبرزهم سيد قطب وعبد القادر عودة رحمهم الله جميعا..
 
جرى هذا القرار في عهد جمال عبد الناصر الذي كان زعيما قوميا يتمتع بشعبية كبيرة تتجاوز حدود أرض الكنانة، ومع ذلك استمرت الجماعة عمليا ونجحت في تجاوز محنتها وضاعفت من أنصارها وارتفعت شعبيتها إلى درجة كبيرة..
 
طبعا، هناك انتقادات كثيرة على الإخوان المسلمين وعلى منهجهم في العمل وأسلوبهم في التنظيم، وهو ما لم تنجح التنظيمات الأخرى في استثماره بشكل جيد وتراهن على هزم الجماعة بآليات غير ديمقراطية وغير شريفة..
 
القضاء النهائي على الحركات الإسلامية غير ممكن لسبب بسيط وهي أنها حركات اجتماعية وسياسية عقائدية، وتحمل آمال جماهير عريضة من الشعوب العربية، ولها التزامات وتعاقدات بين أنصارها لا يمكن تحطيمها بسهولة..
 
نعم، لا ينبغي تأجيل النقد المطلوب للإسلاميين وهم يمارسون السلطة، فمن الضروري مساعدة الحركات الإسلامية على نفسها لتجاوز بعض المعوقات الذاتية باعتبارها حركات اجتماعية لها مواقف وقراءات متجاوزة تحتاج إلى مراجعات ضرورية..
 
مسؤولية النخب السياسية من مختلف التيارات الفكرية والسياسية اليوم هو: تجاوز منطق الصراعات والتطاحنات السياسية الموروثة من مرحلة الاستبداد والعمل على ترسيخ تقاليد جديدة في الحوار الضروري لبناء الدولة الديمقراطية الحديثة على قواعد جديدة، وتكثيف النقاش حول القيم المؤسسة للمرحلة القادمة وتجاوز صعوبات مرحلة حساسة وحاسمة..
فالمستقبل إما أن نقوم بصناعته بأيدينا أو سيصنع لنا من طرف الآخرين..
** عضو الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية وأستاذ جامعي بكلية الحقوق

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.