عادل الخصاصي يكتب: خصوصيات مالية 2014

13.12.25
يشكل إعداد ومناقشة مشروع قانون المالية السنوي لحظة تاريخية وسياسية وقانونية تُوضع على المحك خلالها فعالية مجموعة من المؤسسات الدستورية، حيث تُختبر أثناءها قدرة الحكومة على الصياغة التشريعية لوثيقة مالية وتقنية تسمح بترجمة برنامجها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ويقاس فيها الدور الرقابي للبرلمان على عمل الحكومة، كما تبرز فيها موازين القوى المجتمعية بالنظر إلى أن هذا القانون يعكس الصراعات الدائرة بين الطبقات الاجتماعية لحظة إعداده ومناقشته والتصويت عليه.  
والواقع أن مناقشة مشروع قانون المالية لسنة 2014 يجري في سياق داخلي وخارجي يدعو إلى تسجيل مجموعة من الملاحظات التي لابد من إثارتها من الناحية القانونية ومحاولة إبراز تداعياتها الإقتصادية والإجتماعية على الفعل السياسي في الوقت الراهن. فماهي خصوصيات مناقشة مشروع القانون المالي السنوي 2014؟
إن إستعراض أهم هذه الخصوصيات التي ميزت مشروع هذا القانون سيتم من خلال إبراز العناصر التالية:
 
1- لقد تم إحترام الآجال القانونية لإعداد وعرض المشروع المذكور على البرلمان وفقا للمقتضيات الواردة في الفصل 75 من الوثيقة الدستورية الحالية، وكذا مقتضيات القانون التنظيمي للمالية، علما أن الجهد المبذول في هذا الإطار قد تم إستثماره ضمن ما أصطلح على تسميته من لدن بعض المهتمين السياسيين ب “الوقت الميت” نتيجة للأزمة التي خلفها خروج أحد مكونات التشكيلة الحكومية السابقة وارتضائه التحول إلى فيلق المعارضة. وعلى فرض أن هذا الإنجاز التشريعي هو منسوب للإدارة المالية مجسدة في وزارة الإقتصاد والمالية، إلا أن الإدارة مادامت موضوعة رهن تصرف الحكومة، فهذا العمل يسجل أيضاً للنسخة الثانية لحكومة عبد الإله بن كيران، لاسيما وأن الرسالة التأطيرية لرئيس الحكومة قد وجهت في الزمن القانوني المطلوب لإجراء المشاورات مع جل القطاعات الوزارية ضمن مقاربة تشاركية لإعداد الميزانيات الفرعية لهذه القطاعات دون أن تؤثر فيها الأزمة السياسية المذكورة والتي أدخلت المغرب حالة من الإنتظارية الغير المسبوقة في تدبير الزمن السياسي للفعل الحكومي.
 
2- إرتبط إعداد مشروع قانون المالية لسنة 2014 بسياق خارجي صعب، حيث استمرار الركود الاقتصادي العالمي وبلوغ أسعار المواد الأولية مستويات قياسية، ونقص الطلب الداخلي لدول الإتحاد الأوربي الشريك التجاري الأول للمغرب، بالإضافة إلى إستمرار الإنعكاسات المترتبة على الأزمة المالية العالمية على عدد من الدول، حيث نلمس ضعف الناتج الداخلي العالمي ب 3,2% ومعدل للنمو بالنسبة لدول النامية لا يتجاوز5,9%، وضعف حجم التجارة الدولية حسب تقارير منظمة التجارة العالمية، وارتفاع نسبة المديونية لتتجاوز الحدود المعقولة في منطقة الأورو ب 65 % من الناتج الداخلي الخام واستمرار ارتفاع نسب العجز “الميزاني”، وهو ما يقلص الحظوظ المرتبطة بتزايد فرص الإستثمار الأجنبي بالمغرب وتحول أثر التجارة الخارجية لفائدة الدول الأكثر تنافسية وجاذبية، وذلك بالرغم من تعزيز انفتاح المغرب التجاري مع الإتحاد الأوربي بفضل الوضع المتقدم.
 
3- إن صياغة فرضيات مشروع هذا القانون، الذي يعتبر الأداة الأساسية لترجمة البرنامج الحكومي طيلة سنة كاملة، جاء بشكل يستجيب لواقعية المعطيات الاقتصادية الدولية والوطنية ويسعى لتجاوز العجز التوأم بكل من الميزانية العامة والميزان التجاري، ضمن منظور يروم تحقيق التوازانات المالية والتجارية المفقودة ويتغيا من جهة أخرى رفع إكراهات الظرفية المالية المطبوعة بشح الموارد المالية نتيجة لإنخفاض العائدات الضريبية، وتصاعد عتبة المطالب الاجتماعية وكذا تزايد نسبة نفقات التسيير على الرغم من تراجع التكاليف الخاصة بالدعم مرفوقا بإرتفاع حجم الكتلة الأجرية، وذلك من خلال تدابير ضريبية جديدة ركزت على إصلاح الضريبة على القيمة المضافة والإبتعاد عن الإجراءات الضريبية الموازية، واعتماد منهجية تدرجية في رفع الإعفاء الضريبي عن القطاع الفلاحي، أخذا بعين الاعتبار توصيات المناظرة الوطنية الأخيرة للجبايات وكذا توصيات المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي في ما يخص تبسيط الضريبة على القيمة المضافة.
 
4- إن مناقشة مشروع الوثيقة المالية برسم السنة المقبلة تمت وفقا لمقتضيات قانونية تعكس وثيرتين مختلفتين من التطور المعياري: فمن جهة نجد الدستور الجديد الذي كرس مسؤولية كل من البرلمان والحكومة عن التوازنات المالية، ومن جهة أخرى نعيش في ظل دستور مالي لا يساير إيقاع التطور الدستوري المحقق، حيث يعود بنا القانون التنظيمي للمالية الساري النفاذ إلى منطق دستوري وسياسي متقادم. فلا شيء يبرر غياب هذا القانون التنظيمي عن مناقشة ثلاثة قوانين للمالية إلى حدود الساعة، وهو الذي انتهى تهييؤه ويفترض أن يحسن إقراره مقروئية الميزانية العامة للدولة ويضفي مسحة خاصة على المقتضى الدستوري الرامي إلى تقييم السياسات العمومية، مما يجعله بحق مدخلا رئيسيا من مداخل إصلاح الدولة وتعزيز الحكامة الميزانياتية والشفافية في تدبير المالية العمومية من خلال البرمجة المتعددة السنوات الرامية إلى اعتماد مقاربة جديدة في تدبير الميزانية ترتكز على النتائج بدل قيامها على تدبير الوسائل، وذلك  بعدما بذلت مجهودات مهمة في ما يخص تبسيط المراقبة القبلية على تنفيذ الميزانية وإعتماد المراقبة التراتبية على النفقات.

 
5- تكاد تتفق الدراسات والتقارير المختلفة حول تشخيص الوضعية الاقتصادية والمالية بالمغرب إلى التأكيد على وجود تمظهرين حقيقيين للأزمة الاقتصادية والمالية في المشهد الاقتصادي الوطني مناطهما العجزين البنيويين في الميزان التجاري وفي الرصيد العام لميزانية الدولة. وعلى فرض جدلية العلاقة بين أسباب هذين العجزين وانعكاساتهما المختلفة إلا أن تعدد الأسباب في هذا الشأن لا يغني عن كون النتيجة واحدة، وهي تتطلب من دون شك جرأة سياسية وشجاعة تدبيرية في تقديم الحلول المناسبة للخروج من تداعيات الأزمة الأكيدة. هذا الوضع الذي آلت إليه الحالة الاقتصادية والمالية للبلد ليس وليد اليوم بل هو نتاج تراكمات في التسيير بدت معالمه منذ تقرير البنك الدولي سنة 1995 ولم تأبه الطبقة السياسية آنذاك بالبحث عن الحلول الممكنة لتجاوز “السكتة القلبية”، وإنما اكتفت بتفسير التشخيصات الممكنة وكأننا أمام تقليعة من التقليعات السياسية التي سيخفت الحديث عنها بمجرد جفاف مداد الصحافة أو نضوب إثارة الموضوع من لدن وسائل الإعلام.

فمما لاشك فيه أن تفعيل الإصلاح الحقيقي كان ينبغي أن يباشر منذ الوهلة الأولى لتلقي مثل هذه المعطيات والمؤشرات الصادمة، من خلال إجراءات جريئة كإصلاح صندوق المقاصة الذي يشكل بيت الداء الاقتصادي والمالي للمغرب، وكان الأولى أن تعكف الحكومات السابقة على إيجاد البدائل الممكنة للرفع من تنافسية الاقتصاد الوطني والبحث عن نموذج جديد للتنمية المستدامة يروم القطع مع الاقتصاد الريعي ويسعى إلى البحث عن بدائل جديدة للإنتاج لاسيما وأن العنصر البشري المؤهل في المغرب يشكل الحلقة القوية ضمن الثروة الوطنية. فهل جزاء الإصلاح الذي شرعت الحكومة الحالية في مباشرته من خلال مجموعة من التدابير الضريبية كالشروع في التضريب الفلاحي المتدرج والتسريع بإصلاح منظومة الضريبة على القيمة المضافة وإصلاح مأذونيات خدمات النقل العمومي الجماعي وإحداث منحة لتأهيل مقاولات خدمات هذا النقل أن يلاقي كل المعارضة التي يشهدها اليوم؟

6- إذا كانت الغرفة الأولى قد عكست تفاعلا ناضجا مع مضامين المشروع ليس من خلال ضمان أغلبية أعضائها المريحة التصويت الإيجابي لصالحه فحسب، وإنما أيضاً من خلال نضج المناقشات سواء على مستوى اللجنة المختصة أو ضمن الجلسة العامة، والتي وإن كانت لا تنفذ إلى عمق الجوانب المالية والمحاسباتية الدقيقة للمشروع إلا أنها أبرزت تجانسا في المواقف السياسية المعبر عنها من لدن فرق الأغلبية والمعارضة في صياغة التعديلات والتصويت عليها. في حين كشفت مكونات الغرفة الثانية عن محدودية في التعاطي مع هذه الوثيقة الحاسمة في تدبير تفاصيل الحياة العامة للدولة، فما فائدة صياغة عدد لا يستهان به من التعديلات لإدراجها في هذا المشروع إذا كان التصويت الرافض للمشروع جملة وتفصيلا هو المآل المحتوم من لدن المعارضة؟ ثم ما هو المكسب السياسي الذي يرجى بلوغه من التصويت الإيجابي على الجزء المتعلق بنفقات التسيير إذا كانت أغلبية المجلس قد جعلت الرفض هو القرار المتخذ في حق الجزء الخاص بالموارد؟ أليس ضربا من ضروب العبث القانوني أن يتم إسقاط مشروع الميزانية من لدن الغرفة الثانية ومكوناتها تعلم علم اليقين أن هذا النسف معطى سياسي لا طائل منه لأن الكلمة الفصل في إقرار هذا المشروع يبقى من إختصاص مجلس النواب؟
 
7- إن هذا التمرين الديموقراطي الذي خاضته الحكومة إبان مناقشة مشروع قانون المالية يجعل سحر المعارضة ينقلب عليها، لأن المطبة القانونية التي حاولت المعارضة جر الحكومة إليها محسوم فيها ضمن ثلاث سيناريوهات لمآلية التصويت على هذا المشروع في الغرفة الأولى:
حيث يذهب السيناريو الأول إلى إحالة المشروع كما صوت عليه مجلس النواب في صيغته الأولى أي كما أحيل على مجلس المستشارين، ما دام هذا المشروع قد رفض جملة وتفصيلا من لدن هذا المجلس. هذا السيناريو يبقى مستبعدا لأنه لا يستقيم مع منطق الفصل 84 من الدستور الذي يقر صراحة أن كل مجلس يتداول في النص الذي صوت عليه المجلس الآخر في الصيغة التي أحيل بها إليه دون أن يميز بين الحالة التي يقع فيها التصويت بالإيجاب أو بالرفض.
أما السيناريو الثاني فيرتبط بإحالة النص كما عدله وصوت عليه ورفضه مجلس المستشارين مع التصويت عليه بالرفض من لدن مجلس النواب. هذه النتيجة مستبعدة واقعيا وسياسيا لأن المشروع المذكور حظي بثقة النواب في التصويت الأول قبل الإحالة على مجلس المستشارين.

يبقى السيناريو الراجح هو الذي سيعرض في إطاره مشروع قانون المالية من جديد على مجلس النواب مع التعديلات التي قدمت عليه في الغرفة الثانية ضمن القراءة الثانية للمشروع، حيث تنحصر المناقشة في المواد التي لم يتوصل بشأنها مجلسا البرلمان إلى اتفاق ولا تقدم التعديلات إلا بشأن هذه المواد، وذلك طبقا لمقتضيات المادة 159 من النظام الداخلي لمجلس النواب والمادة 34 من القانون التنظيمي لقانون المالية. وفي كلا الحالات تبقى الحكومة سيدة موقفها في إقرار مشروع القانون المالي، حيث تتمكن بفضل الآلية المنصوص الفصل من 75 من الدستور والمادة 35 من القانون التنظيمي للمالية من فتح الإعتمادات اللازمة لسير المرافق العمومية على أساس ما هو مقترح في الميزانية المعروضة على الموافقة، وذلك إذا لم يتم في نهاية السنة المالية التصويت على قانون المالية.  
 
8- إن تجارب القانون المالي المقارن قد تدفعنا على الأقل بالنسبة للفترة الراهنة إلى القول بأنه ليس في الإبداع أفضل مما كان بخصوص إعداد الميزانية العامة للمغرب لسنة 2014، إذا كشفنا على أن المسحة التضريبية والتقشفية قد غلبت على مجموعة من الدول في هذا الصدد. فبالنسبة لفرنسا ظل هاجس البحث عن السبل الكفيلة بإقتصاد 13 مليار أورو سنة 2014 ثم 15 مليار أورو سنة 2015 مسيطرا على إعداد ميزانية سنة 2014 لضمان عجز ميزاني يرجع الأمور إلى نصاب المعايير الدولية وهي 3 % في أفق سنة 2015. وتعيش المكسيك بدورها أيضا على إيقاع ثورة ضريبية تستهدف توسيع القاعدة والوعاء الضريبيين من أجل رفع نسبة الموارد العمومية بالمقارنة مع الناتج الداخلي الخام إلى 1،4% سنة 2014 و 3 % في أفق سنة 2018، حيث سيتم فرض الضريبة على القيمة المضافة بالنسبة لبعض المواد الغذائية و كذا الأدوية حتى يقع ملاءمة النظام الضريبي المكسيكي مع المعدل المعمول به بالنسبة لدول منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية في ما يخص الضريبة على القيمة المضافة وهو بلوغ نسبة 16 %، كما سيتم اتخاذ تدابير ضريبية أكثر جرأة ستُرفع بموجبها نسبة الضريبة على الدخل من 30 % إلى 32 % بالنسبة للمواطنين الذين يحققون أرباحا سنوية تفوق 500 ألف بيسوس (حوالي 319 ألف درهم)، وهو إجراء يروم تحقيق العدالة الجبائية في بلد يعني فيه حوالي نصف الساكنة من الفقر.

غير أنه تبقى دائما مجالات وبدائل أخرى للإبداع الميزانياتي المغربي على مستوى قانون المالية لسنة 2014 في ما يخص تحقيق التوازنات المالية منها إسترداد الباقي إستخلاصه الذي يتجاوز 65 مليار درهم والتصدي لظاهرة تهريب الأموال والتعجيل بأجرأة توصيات المناظرة الوطنية للجبايات والإصلاح الشامل لصندوق المقاصة والذي من شأنه أن يخفف عجز الميزانية العامة للدولة وكذا إعادة النظر في النموذج الإقتصادي التنموي للمغرب بأن يركز على القطاعات الأكثر تنافسية ومردودية كالقطاع الصناعي والخدماتي الكفيلين برأب الصدع الذي يعانيه الميزان التجاري. فمتى ستطلع الشمس على هذه المقترحات و البدائل لتعزيز الحصيلة الإيجابية للحكومة الحالية؟
*أستاذ باحث في القانون العام بجامعة محمد الخامس- أكدال- الرباط
 

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.