رحموني يكتب: حقيقة الصراع بين تحالف الفساد وقوى الإصلاح

04.02.03
بقلم/ خالد رحموني
 
حين يصير الفساد مؤسسة.. ويدافع عن وجوده في معركة البقاء..
عندما يتمكن الفساد من مفاصل المجتمع ويتحكم بمؤسسات الدولة ومقدرات الوطن، فإنه يؤذن بخراب البنيان والإنسان والعمران.
ويكون هنا قد أصبح فسادا متجذرا يمتلك أرضا صلبة يقف عليها ويتسلح بأنياب ومخالب وأظافر لا يتوانى عن استخدامها للدفاع عن نفسه، ووجود الفساد بهذه القوة والعمق والشراسة يشير بوضوح إلى أنه أصبح فسادا مؤسسيا وله صيغة تراتبية مهيمنة وأنظمة هيكلية متجذرة تتضمن زعماء وقادة يتربعون على قمة هرمه ويليهم فئات عليا، ثم فئات متوسطة، وهكذا إلى أن نصل إلى رتبة فاسد صغير، وكل ذلك يسبح في بلازما ثقافة فساد عمومي عميقة جذورها اجتماعيا وتربويا .

ومع هذا الاستشراء المحموم لغول الفساد النهم بكل مركباته ومؤسساته ورموزه، وما نجم عنه من أحوال اجتماعية ومصالح اقتصادية، ذات آثار كارثية على حياة المواطن ومواقع نفوذ رمزية واعتبارية، فقد وصل الضيق الشعبي والحنق المجتمعي إلى مرحلة دفعته إلى أن يتحصن بقلاع محصنة من المصالح ومنيعة مؤسساتيا ومسيجة بثقافة تبرره وتعيد إنتاجه في الوعي العام للناس، وهو الآن – المجتمع وقواه الحية- يستشعر مسؤوليته الوجودية في ضرورة التصدي لهذا الغول الجشع واجتراح مبادرات نابعة من قلب المجتمع، مع عدم الانتظار الخامل لتحرك مؤسسات الدولة الرسمية حتى تقوم بمهمة التطهر الذاتي والمواجهة الفاصلة معه، لأن مواجهته تتطلب عدة وتمرسا وإصرارا وظهيرا شعبيا، بالإضافة إلى ذلك لعدم امتلاك الدولة نفسها لأدوات التطهير المؤسساتي والمالي والإداري من جهة، وبالنظر ثانيا لتغلغل الفساد في مفاصلها الأساسية وتحكمه بها وشرط قراراتها وتحالفاتها ونخبها من جهة أخرى.

هذا الواقع أدى إلى استشعار مؤسسة الفساد والتحالف المسند له والحامي لثقافته ولاستمراره، استشعارها للخطر الداهم وبالتالي المسارعة للعمل في الأرض على مواجهة هذا الغضب الشعبي الصاعد المحمول على رغبة وإرادة تجاوزت منطق الخوف الذي انهار مع اجتياح رياح الربيع الديمقراطي، وما حملته من استعدادات كامنة للمواجهة والتصدي وأداء الثمن وتحمل كلفة المجابهة الشاملة مع الاستبداد والفساد، ذلك الاستعداد الطارئ على مستوى الإرادة السياسية لمجابهته والتقليل من مخاطره، والذي تتحمل مسؤوليته نخبة جديدة حملها الربيع الديمقراطي إلى سدة تدبير القرار العمومي وتسيير الشأن العام.

فمن الطبيعي –إزاء هذا الوضع الجديد- أن لا تقف مؤسسة الفساد المسندة لقوى الاستبداد والملازمة لها والحامية لنفوذها، لن تقف مكتوفة الأيدي مكبلة القوى، ومن الطبيعي أن تتصدى باستماتة للدفاع عن مصالحها وحماية رموزها وتحصين رؤوس أعضائها من القطاف ومن أي خطر محدق.
 يظهر هذا من خلال النظر إلى الإستراتيجيات والآليات والتكتيكات التي استخدمتها مؤسسة الفساد نفسها لتأمين استمرارها في الحضور والسطو على المقدرات الوطنية، حيث بدأت تتبلور بشكل أكثر وضوحا مع تطور مراحل المعركة من أجل الإصلاح.
 حيث يمكن ملاحظة أسلوب الفساد في إدارة معركة الدفاع عن النفس، وتأبيد السيطرة وضمان الاستقرار لسطوة تحالفه، من خلال ما يلي من الآليات:

1.  تعزيز مواقع تحالف الفاسدين والمستبدين القيادية في مؤسسات المجتمع ومفاصل الدولة، وذلك من خلال حرصهم على صون مواقعهم وحضورهم في تلك المؤسسات، مع العمل بالتحصل على أكبر قدر ممكن من المسؤوليات والمواقع التي ألفوها للاغتناء وتدبير مصالحهم الغريزية، وهذا ما يفسر انتفاضتهم ضد إرادة التخليق وفتح تلك المواقع لفعاليات سياسية أخرى بديلة من غير سلالاتهم، وهو ما لم يستسيغوه بحيث شنوا هجوما شرسا ولا يزالون ضد أي إمكانية لانفتاح الإدارة والدولة على قيم الشفافية والنزاهة ودمقرطة الولوج للمسؤوليات لأن في ذلك محاصرة لهم وتفكيكا لأعشاشهم.
باعتبار أن تلك المواقع والحصون المسيجة للمسؤوليات الإدارية والسياسية والسيادية كانت  تمكنهم من إدارة أفضل للمعركة ضد الإصلاح وتساعدهم بقوة على حماية مؤسسة الفساد، ولعل دخول بعض الأسماء للسباق ضد دينامية الإصلاح مع تقديم صكوك الولاء للرعاة الأساسيين للفساد والسلطوية والاستبداد الذي عشش لفترة طويلة امتدت لعقود، يأتي في إطار هذا الجهد المحموم للبقاء في دائرة اتخاذ القرار ومناطق النفوذ للحصول على مواقع إستراتيجية أفضل لإدارة المعركة.

2. استخدام بعض آليات الإعلام غير المستقل عن مراكز النفوذ والأعمال والذي له أجندة ريعية وربحية، لتضليل الرأي العام وخلط الأوراق وذر الرماد في العيون، وذلك من خلال تضخيم بعض القضايا الصغيرة التي تفوح منها رائحة الفساد وتركيز الأنظار حولها بما يكفل صرف الانتباه عما هو أكبر خطرا وأعظم شأنا.

3. ولأن المعركة لا بد أن يقع فيها ضحايا فإن مؤسسة الفساد تلجأ إلى تقديم الضحايا بطريقة انتقائية، وذلك حسب مقتضيات الحالة ومتطلبات المرحلة، وتتم هذه العملية الانتقائية وفقا لمراكز القوى ومتغيراتها وما تفرزه تبدلاتها من حلقات ضعيفة أو أصبحت ضعيفة بحكم انتهاء الأدوار التي أتت لتنفيذها في مرحلة زمنية ما.

4.  المشاركة الظاهرية في جهود محاربة الفساد، فترى الكثيرين من أركان مؤسسة الفساد نفسها يستقلون عربة الإصلاح ويطالبون بمحاربة الفساد ليلا نهارا، وذلك على طريقة القاتل الذي يساعد الشرطة في البحث عن جثة القتيل، فهو من ناحية يظل في مسرح الجريمة لشعوره بالقلق ورغبته في متابعة الأحداث عن قرب، ومن ناحية أخرى فإنه سيستغل أي فرصة لتضليل الشرطة في البحث وتوجيه أنظارهم بعيدا عن الاتجاه الصحيح.

5.  تكوين خطوط دفاعية تبدأ بصفوف من الفاسدين ذوي الأحجام الصغيرة يتم وضعهم في مقدمة الصفوف بهدف تلقي الصدمات من خلالهم، ولا مانع إن سقط بعضهم فداءً لمؤسسة الفساد “المقدسة” وحماية لرؤوسها الكبيرة.

6.  العمل على إغراق أي قضية فساد بالكثير من التفاصيل المتشابكة، بحيث يتم إنهاك قوى وطاقات الجهات المتعاملة مع القضية وجعلها تدور في حلقة مفرغة تجد نفسها غير قادرة على تجاوزها، بعد أن تدخل في متاهة أطنان الأوراق والوثائق التي يجب أن يتم فحصها وجيوش الشهود الذين يجب الاستماع إلى أقوالهم.

7.  افتعال وخلق حالة عامة من الفوضى المجتمعية من خلال إثارة المعارك الجانبية وتعزيز أي تناقضات مجتمعية طارئة وجعلها تطفو على السطح لتستحوذ على اهتمام الشارع وبما يحقق تراجع قضية التصدي للفساد على سلم الأولويات.

إن التصدي الجاد لشبكات الفساد العمومي ومؤسساته وتحالفاته، من خلال شن حرب شاملة ضد مراكز قواه وتحصيناته المنيعة وتوفير شروط المواجهة المتكافئة –لا الدونكيشوطية أو الاستعراضية أو المجازية معه- كل ذلك يتطلب الانتباه إلى هذه الوسائل التي تلجأ اليها مؤسسة الفساد للدفاع عن نفسها.
 والعمل باتجاه إفشال هذه الوسائل في تحقيق غاياتها، تستلزم:
 أولا: الوعي بها وبتجذرها ورسوخها والتمرس على أدواتها في المقاومة والتحصن..
ثانيا: أن ندرك حقيقة أساسية تتمثل في أن مؤسسات الدولة في مجملها – وعلى مدى سنوات عديدة- فقدت أي قدرة ذاتية على التطهر من درن الفساد، وذلك لتمكنه من مفاصلها الأساسية وتحكمه المطلق في إدارتها،
 ولا بد من العمل على إدامة زخم الضغط الشعبي باتجاه تحقيق مقاومة ناجعة لعناصر الفساد وتحالفاته ودفعه مجبرا للتخلي عن مراكزه ومناطق نفوذه تمهيدا لتحقيق إنجازات ملموسة في إطار المحاربة الشاملة مع مراكز الفساد وبؤره وقلاعه المنيعة.
*عضو الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.