رضى بنخلدون يكتب : الحصيلة الحكومية… مقدمات في التقييم

15-02-14

مع حلول سنة 2014 سيبدأ الحديث عن تقييم التجربة الحكومية والحصيلة المرحلية، ما لها وما عليها. وإذا كان الحكم عن الأداء الحكومي وتقييم الحصيلة، لا يمكن أن يكون علميا وموضوعيا إلا بعد نهاية الولاية، فإن تقييم الحصيلة المرحلية يساعد على استجلاء مواضع القوة ومكامن الضعف لمعالجتها فيما تبقى من الولاية.

لا أريد من خلال هذا المقال، رغم ذلك، أن أدخل في عملية التقييم بمفهومه العلمي،  والذي سيتم مبدئيا عندما يقدم السيد رئيس الحكومة الحصيلة المرحلية أمام نواب الأمة، ولكنني أود التنبيه إلى أننا لسنا أمام تقييم “عادي” لمرحلة “عادية”، ولا يمكن أن تكون مصطلحات التقييم تتمحور “فقط” حول تطور معدل النمو ونسبة العجز والتوازنات الماكرو اقتصادية وتنزيل البرنامج الحكومي في مجالات التشغيل والصحة والسكن والتعليم وتحسين البنية التحتية ومؤشرات التنمية البشرية وغيرها. هذه كلها أمور أساسية في التقييم، ولا شك، ولكنني أعتقد أن التجربة الحكومية جاءت بعد الربيع العربي وفي ظروف معينة، ويقودها حزب محسوب على ما يصطلح عليه بالإسلام السياسي، نحتاج في تقييمها إلى مقدمات ضرورية. هذه المقدمات قد لا يتم التداول بشأنها في البرلمان أو عبر الصحافة عندما سيأتي رئيس الحكومة بالحصيلة المرحلية أو النهائية في نهاية الولاية.

إن المقدمة لموضوع ما، تكون في بعض الأحيان هي لب الموضوع، أو قد تفسر كل ما يأتي بعدها من تفاصيل، فلا التفاصيل تكفي بدون مقدمة ولا المقدمة تغني عن تقديم المعطيات و التفاصيل.

نكتفي في هذه المقدمة ونحن نناقش الحصيلة الحكومية، أن نتناول الموضوع من أربع زوايا:

– أولا.. التاريخ الذي لم يقع

لقد رسمت بعض الجهات الداخلية والخارجية صورة نمطية عن الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية، وكانت تلك الصورة المغلوطة سببا في التضييق على هذه الاتجاهات الفكرية منذ سنين، ومنعها من الوصول إلى مراكز القرار. كانت تلك الصورة ترسم الحركات الإسلامية وكأنها اتجاهات فكرية رافضة للإبداع وحرية التعبير ولها تصورات رجعية حول المرأة والسياحة، وأنها تشكل خطرا على الاستقرار وعلى العلاقات مع الغرب وعلى جلب الاستثمارات الأجنبية.

إنها الصورة النمطية التي تم الترويج لها إعلاميا سواء داخليا أو خارجيا، فهل حدث شيء من ذلك ببلادنا؟ وقد يقول قائل أن تلك التخوفات مشروعة لأن المستقبل قد يحمل شيء من تلك التخوفات لو تمكن الإسلاميون بشكل أكبر في دواليب الدولة، ونجيب متى كان الحكم عن النوايا محددا لتحديد المواقف، بل هل رأينا شيء من تلك الصورة النمطية في التجربة التركية مثلا، والتي تعتبرها كثير من الحركات الإسلامية المعتدلة نموذجا لها؟

إن العكس تماما هو الذي حدث بالنسبة لتجربة تسيير العدالة والتنمية خلال هذه الفترة: إقبال متزايد للسياح على بلادنا، ارتفاع قيمة الاستثمار الأجنبي، ثقة متزايدة في مغرب ما بعد الربيع العربي، استقرار اجتماعي رغم الاحتجاجات القطاعية الطبيعية، جرعة أكبر في الحرية في وسائل الإعلام، فباستثناء موضوع الصحفي أنوزلا والذي له سياقات خاصة، لم يتم التضييق على أي منبر صحفي أو إذاعة أو قناة إعلامية.

على مستوى الحقوق النسائية، وزيرة التضامن والمرأة والأسرة والتنمية الاجتماعية المنتمية للعدالة والتنمية تقدم مشروع قانون لمحاربة العنف ضد النساء، بعد أن ظل هذا المشروع يراوح مكانه عند الحكومات السابقة، كما انتقل عدد الوزيرات بالحكومة من وزيرة واحدة إلى ستة وزيرات في أول تعديل حكومي، فضلا عن الدعم متزايد للإبداع الفني (عقد فريق العدالة والتنمية بمجلس النواب ليوم دراسي لمدارسة مقترح قانون حول الفنان في سابقة أولى من نوعها بالبرلمان).

 لا نريد أن نقوم بسرد كل “المؤشرات” على هذى المستوى، و لكنها إشارات سريعة تظهر أن الحكومة ساهمت أولا في تكسير صورة نمطية كان من شأنها أن تعيق أي مشروع إصلاحي بل قد تهدد التحالف الحكومي بالانهيار، فهم الجميع على المستوى الشعبي وعلى مستوى النخبة أن العدالة والتنمية حزب عصري، منفتح وديمقراطي “فعلا” و ليس تكتيكا، إنه مكسب أولي قد لا ينتبه إليه البعض.

ثانيا… الإصلاح في ظل الاضطراب

نجح المغرب في معادلة الإصلاح في ظل الاستقرار، وهو الشعار الذي أبدعه حزب العدالة والتنمية وتبناه الجميع فيما بعد. لكن الاستقرار ليس مرادفا للاضطراب والذي قد حصل فعلا. منذ تشكيل الحكومة في صيغتها الأولى، والتشويش عليها لم يتوقف، ولا نقصد هنا المعارضة التي تقوم بواجبها الدستوري، بل لوبيات وجهات غير مرئية تخطط في الظلام لمعاكسة المشاريع الحكومية، وهي الجهات التي سماها السيد رئيس الحكومة “التماسيح والعفاريت” وهو المصطلح الذي سيدخل التاريخ السياسي لبلادنا، كما دخل مصطلح الحزب السري أو غيره من المصطلحات.

لا يمكن أن نتحدث عن تقييم الحصيلة الحكومية دون ربط ذلك بموضوع “الاضطراب” الذي أحدثه الأمين العام الجديد لحزب الاستقلال. إذ لا يمكن أن ننسى “الخطوط الحمراء” التي كان يتحدث عنها السيد شباط وهو في الأغلبية بمناسبة الحديث عن إصلاح صندوق المقاصة، أو عن الانتخابات الجماعية السابقة لأوانها. عشرة أشهر يمكن اعتبارها زمن سياسي ضائع و الذي يتحمل فيه السيد شباط مسؤولية معتبرة .

لقد صدق السيد رئيس الحكومة عندما شبه الوضعية لتي تعيشها الحكومة بعامل في الصباغة يريد صباغة حائط، وفي نفس الوقت يقوم أشخاص بزعزعة مستمرة للسرير الذي يقف عليه، ويطلب من هذا الصباغ أن تكون صباغته جيدة وجميلة.

كلنا يذكر إصلاح ورش الإعلام الذي فتحه الوزير الشاب مصطفى الخلفي، والحرب التي شنت عليه من قبل إداريين لا يزالون يستمرون في مهامهم إلى يومنا هذا.

وكلنا يتذكر الانتقادات التي وجهت لوزير التجهيز والنقل عندما نشر لائحة المستفيدين من المأذونيات، للشروع في محاربة اقتصاد الريع ، وهل ننسى المقاطعة “المفاجئة” لجمعيات فاعلة في المجتمع المدني للحوار الوطني حول المجتمع المدني، رغم أن الحوار لم يكن قد بدأ بعد أو بالتعبير الدارج “ما درنا فالطاجين ما يتحرق”.

وهل ننسى المعركة التي خاضها وزير العدل مع مجموعة من الهيآت المنتمية لقطاع العدل رغم المقاربة التشاركية الكبيرة التي قام بها الوزير. وكلنا يتذكر اتهام الوزير اعمارة عند بداية مهامه من قبل صحفي بأن وزير التجارة والصناعة يبدد أموالا عمومية بدولة إفريقية، مما اضطر الوزير لمتابعة الصحفي قضائيا، حيث أنصف القضاء الوزير في الأخير. لسنا إذا أمام معارضة مشروعة للبرامج للحكومية، بل كنا أمام تشويش وخلق حالة من الاضطراب لعرقلة العمل الحكومي، ثم نأتي عند الحكومة في الأخير ونسألها عن الحصيلة.

ثالثا… الحصيلة في ظل الخريف العربي

المغرب يتأثر سلبا وإيجابا حول ما يدور حوله. لا يمكن إنكار أن فضل حركة 20 فبراير على بلادنا كبير. ورغم ما يمكن أن نقوله عن هذه الحركة في إطار التقييم، فيجب الاعتراف أن الدينامية التي أحدثتها الحركة في تناغم مع الربيع العربي هي التي أدت إلى حل الحكومة والبرلمان والتصويت على دستور جديد وانتخابات سابقة لأوانها. لقد شكل خطاب 9 مارس لجلالة الملك تحولا نوعيا في المسار السياسي ببلادنا أكد ما يصطلح عليه بالاستثناء المغربي. إلا أن العالم العربي لم يفرح طويلا بثوراته، ففي تونس، رغم البراغماتية الكبيرة لحزب النهضة واستقالة حمادي اجبالي، فقد اضطرت حكومة علي لعريض إلى الاستقالة وتعيين وزير أول تقنوقراطي، ولم يتنفس التونسيون الصعداء إلا بعد المصادقة على الدستور.

 أما في مصر فقد أقدم الجيش على  الانقلاب على الرئيس المنتخب وحل حزب الحرية والعدالة واعتبر جماعة الإخوان المسلمين إرهابية مع اعتقال رموز حركة 25 يناير، وعودة الفلول إلى مواقعها.

أما في سوريا، فلم يتمكن الشعب السوري من نيل حقوقه رغم تضحياته الكبيرة، إذ كان في مواجهة آلة عسكرية وبوليسية جهنمية مدعومة إقليميا مع تخاذل للقوى الغربية.. باختصار إنه الخريف العربي.

في تلك الظروف وتلك السياقات، نفهم تصريحات الأمين العام لحزب الاستقلال بأن العدالة والتنمية يسيرها المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين !! وحديثه عن مصرنة المغرب وعن “الخوانجية” مما يعني تهييء النفوس لتقبل ما قد يأتي من انقلاب على الشرعية هنا كذلك، ومحاولة يائسة لتوتير العلاقة مع المؤسسة الملكية.

في تلك الظروف لم يكن سؤال الحصيلة هو المطروح و لكن سؤال الاستمرار في الحكومة و استمرار الإصلاحات، خصوصا بعد انسحاب حزب الاستقلال حيث أصبحنا أمام حكومة أقلية. يجب أن نعي ما معنى ضياع عشرة أشهر في محاولة للحفاظ على الأغلبية، و الرد على” الضربات” العدوة والصديقة. وبالتالي ليس من العدل محاسبة الحكومة دون أخذ بعين الاعتبار السياقات التي ذكرنا.

رابعا… الحصيلة في مجال تغيير العقليات والمسلمات

ليست الحصيلة أرقاما جافة فقط، ولكنها  كذلك نظرة استتشرافية للمستقبل بمعنى هل نسير في الطريق الصحيح أم لا. انطلاقا من ذلك، نعتقد أن أول ما يمكن أن يسجل لصالح الحكومة خلال هذه المرحلة القصيرة هو القضاء على العادات السلبية والتقاليد السيئة التي استقرت ببلادنا منذ عقود تحت رعاية وعناية حكومات متعاقبة. لقد تم أولا القطع مع الريع بكل أشكاله : الريع الإعلامي (دفاتر التحملات) ، ريع المأذونيات ( النقل، المقالع…)، ريع الجمعيات (نشر لوائح الجمعيات المستفيدة من الدعم العمومي و تنظيم المجال عبر الحوار الوطني حول المجتمع المدني) التوظيف المباشر ( لا توظيف بدون مبارة)، الحق في الإضراب لا يعني الإضرار بمصالح المواطنين، وتم ثبيت مبدأ الأجر مقابل العمل، محاربة ظاهرة احتلال المؤسسات العمومية، إلا أن الأهم من ذلك هو امتلاك السيد رئيس الحكومة الشجاعة لاتخاذ الإجراءات الضرورية لإنقاذ البلاد من المجهول الذي كنا نسير إليه.

وإذا كانت مهمة حكومة التناوب التوافقي هي إنقاذ البلاد من “السكتة القلبية” حسب تعبير الملك الراحل، فإن حكومة العدالة والتنمية التي ورثت إرثا ثقيلا، تقوم اليوم بإنقاذ البلاد من السكتة الدماغية وهي أخطر من السكتة القلبية. لقد وصلت وضعية صندوق المقاصة إلى وضعية كارثية، ولو “تفضلت” الحكومات السابقة بإصلاح هذا الصندوق لما وصلنا إلى الكارثة الحالية، فكانت للحكومة الحالية الشجاعة لفتح هذا الورش رغم حساسيته الاجتماعية المعروفة، ونفس الأمر يتعلق بأنظمة صناديق التقاعد حيث ظلت الحكومات السابقة “تتأمل” في نتائج الدراسات الاكتوارية حول الموضوع ثم تؤجل الموضوع حتى يحافظ كل حزب على شعبيته وعدم إدراك أن سفينة البلاد كلها كانت مهددة بالغرق. إن امتلاك الشجاعة لفتح الأوراش الحقيقية ومقاومة اللوبيات النافذة هو المدخل الحقيقي للإصلاح، هكذا سجلنا شجاعة وزير الصحة في تخفيض أسعار الأدوية رغم مقاومة لوبيات الأدوية القوية، وإصلاح المنظومة القانونية لهذا القطاع، ورأينا شجاعة الوزير الوفا بنشر لوائح المحتلين للسكن للوظيفي التابع لوزارة التربية الوطنية، لا بأس بعد ذلك أن يتم تهديد الوردي بالاعتداء عليه داخل البرلمان أو أن يرمى وزير السكنى بالحجر أو أن يهدد بالقتل النائب أبوزيد المنافح عن اللغة العربية ومقاومة التطبيع.

نعم لدينا ملاحظات في الجانب السلبي، فلسنا من الذين يعتبرون أن الحصيلة كلها إيجابية، فلدينا ملاحظات في مجال التنزيل الديموقراطي للدستور وطبيعة خطاب الحكومة وتواصلها مع الفاعل النقابي والاجتماعي، وكيفية التعاطي مع بعض المطالب الاجتماعية والاحتجاجات الفئوية، ويمكن تسجيل ملاحظات حول وتيرة الإنجاز خصوصا في المجال التشريعي وغير ذلك من الملاحظات، لكن ليس من العدل أن نحاكم الحكومة دون أخذ بعين الاعتبار السياقات التي ذكرنا.

الحصيلة الحقيقية للحكومة هي الشجاعة في اقتحام مواطن الفساد و فتح الأوراش الكبرى في ظل وضع داخلي صعب  وإقليمي متغير وأزمة اقتصادية عالمية وخصوصا عند شريكنا الأوروبي. بعد ذلك، وبعد هذه المقدمات، يمكن أن نتحدث بلغة الأرقام  وعن الحصيلة التقنية، لكن ليس قبل استيعاب هذه المقدمات…

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.