رحموني يكتب: لن توقفوا زحف الربيع مهما قطفتم من زهوره التي أينعت

14.03.26

بقلم: خالد رحموني*

الخبر هو إصدار أحكام  إعدام بالجملة على منتسبين للثورة المصرية من التيار الديمقراطي الإسلامي الوطنين ومن الإخوان المسلمين بمصر.. هو تصعيد جديد عنيف وغير مسبوق مغامر ومقامر، كما هي طبيعة الانقلابيين الدموية، وقد جاء في سياق حرب الكراهية القائمة والدائرة رحاها في صعيد مصر الثورة.

لقد سبق لابن خلدون أن قرر حقيقة راسخة مضمونها، أن فساد القضاء يؤذن بخراب العمران وانهيار الدولة، نعم أعلم كما الكثيرين أن دولة الاستبداد ونخبة الاستعباد والاستبلاد المسكونة بالعقلية المتغلبة العسكرتارية لن تبقي ولن تدر، وانتهكت الحريات والحرمات حتى ما عاد ثمة قضاء نزيه ولا مستقل بعامة، والمناسبة تحيلني للحديث على فجيعة مصر الحالية وتورط قضاء العسكر لإصدار أحكام بالإعدام على كثير من الأحرار والثوار في محاولة لتكريس الخوف والترهيب وكجولة إضافية للمجزرة الرهيبة التي تمت في رابعة عنوان الحرية والإنعتاق في العصر..

كل السياق وقساوة الأحكام، وطبيعتها الإرهابية التي تكشف على المزيد من قتامة الوضع، وفي العمق تكشف على مأزق الانقلابيين وتحالفهم البئيس المهزوم.. 

فإننا إزاء قرار سياسي وأمني بالغ الإثارة والعنف والوضاعة والترهيب وإرادة سفك مزيد من الدماء بالتحضير لإبادة ثانية، إن تلك الأحكام الجائرة تطرح الكثير من الأسئلة على كل الديمقراطيين وأحرار العالم. 

أسئلة تتركز أساسا وابتداءً حول السبب العميق الذي دفع إليه، والثاوي في خلفيته، وبعد ذلك ولاحقا بما إذا كان سيجد سبيله للنفاذ المعجل أو الإرجاء أو التخفيف، أو استعمال تلك الأحكام في التفاوض مع الإخوان ومع المنتظم الدولي والإقليمي لمحاصرة دعاوي فك الانقلاب، كل ذلك لا يهم الآن.

وبصدق، ومن جراء وقع الصدمة، لا أدري مقدار جدية الخبر المستند إلى منطوق أحكام جرت على لسان منسوبين للقضاء المصري العسكري الطبيعة، الأحكام التي تداولتها وسائل الإعلام حول صدور قرار عن بعض المحاكم المصرية بإعدام (526) مواطنا من قادة ومناضلي جماعة الإخوان المسلمين، على خلفية الأحداث الجارية في مصر، يطرح السؤال مجددا: هل فعلاً تعد قرارات قضائية مستقلة من محكمة مختصة حقيقية، في مواجهة جرم أم هي عنوان لمحاكمة عسكرية سياسية في أبعادها.

أشعر أن القرار ضرب من الخيال والهبل والجنوح والجنون، ولم أستطع أن أجري عملية استقراء حول صدور مثل هذا القرار في تاريخ البشرية، لأني أعلم أنه سبق وأن صدر قرارات مماثلة قضت بإعدام مجموعات من المعارضين في عديد من الدول-من بينها المغرب في سنوات الجمر والرصاص- في مرحلة الصراع على السلطة وفي سياق استبدادي قاتم وفاقع..

وأعلم أيضا أنه سبق أن صدرت أحكام مماثلة في مواجهة الإخوان في مصر عام (1954)، وفي عام (1966) إعدام الشهيد سيد قطب رحمة الله عليه، وربما كانت كل موجة إعدام ربما تصل إلى حدود العشرة أشخاص في أكثرها عنفا وإثارة، ولكن لا أعلم إصدار أحكام بالجملة على (526) شخصاً، كانوا قبل فترة وجيزة نواباً في البرلمان، وأعضاء في الوزارة وبعضهم كان رئيساً لمجلس الشعب.  

أجد نفسي عاجزاً عن وصف هذا القرار، وأجد نفسي عاجزاً عن إطلاق العنان لمخيلتي في أبعاد هذا القرار، وفي أبعاد التعامل الشعبي معه ومع تداعياته على المستوى القطري والعربي والدولي بعامة، وعلى مستوى الأحزاب والقوى السياسية بكل اتجاهاتها وأفكارها، وبغض النظر عن حجم الخلاف بينها وبين الإسلاميين على وجه العموم. 

أجد نفسي عاجزاً مرة أخرى أمام بشاعة الصدمة ودموية اللحظة، شعور لا يماثله إلا ذاك الذي لا زال يسكنني حول الإبادة التي تعرض لها أحرار وثوار مصر في ميداني رابعة والنهضة، وبشاعة الدم المسفوك هنالك على أعتاب مرحلة الردة الديمقراطية وتوليد حكم نيرون الجديد وفرعون العنيد. 

عاجز عن بسط الخلاصات في وجود أشخاص يتربعون على قمة هرم القضاء والعدالة، ويمكن أن يطاوعهم ضميرهم وتخط أقلامهم مثل هذه الأحكام المعمدة بالدم والدموع والعرق، لأني أشعر بالصدمة لو أن شخصاً أطلق النار على حشرة أو حيوان، فكيف لو جمع (526) من الأحرار في صف واحد وبدأ بإطلاق نار الحقد الأسود الكريه عليها واحداً واحداً.

لا زلت أشك في قرارة نفسي فيما يسمى بمذابح النازيين، وأشك في الأخبار التي تقول عن إعدامات جماعية بهذه الأعداد، فوقفت أمام صراع نفسي طويل حول إمكانية العيش والتعايش في هذا السجن الكبير.

عندما استجاب بعض من نخب إعلام الكراهية والحقد ودق طبول الإبادة والاستئصال، لمقولات مسكونة بكيل الاتهامات على الهواء مباشرة وبلا رادع أخلاقي وبنسج المبالغات في الوصف الدموي لحال مصر، وتنميق المبالغات وإكراه الناس على قلب الوقائع وتزييف وعي الناس بالحقائق، والمبالغات في إطلاق الأحكام على هذا النحو المنفلت..

عند ذاك لم يخطر ببالهم أنهم بهذه الاستجابة يمعنون في إشعال نار حرب داخلية ضروس في أوساط المجتمعات العربية جميعا، ليس لها نهاية وليس لها أفق، ولن تتوقف الأمور عند هذا الحد، وإنما يعملون على حفر خنادق من نار تستعصي على الوصف، وتستعصي على الخيال.

لكن لفتة إلى المضمون والسياق تنجلي بعض المعاني والمؤشرات وجب الالتفات إلى بعضها..

أولها أن كثيرا من قوى التحالف المضاد للثورة ومركباته جميعها تستعجل الزمن لوأد بواكيرها وخنق طاقاتها ورموزها قبل أن تينع وتثمر، وهم بذلك يريدون دفع قطاع من التشكيلات والقوى الثورية الحالية وفي طليعتها الإسلاميين في مصر في أقل تقدير إلى نهج سبيل الكفاح غير السلمي وتوريطهم واستدراجهم لدائرة العنف اللعين من خلال الضغط عليهم قهرا وإجبارا، ولكي ينضم إليهم الآخرون لاحقا..

ليكون بالإمكان الانتصار في معركة المصير والوجود بالنسبة إلى الانقلابيين، وربما بث الروح من جديد في قوانين الإرهاب والطوارئ من خلال استخدامها، بالشكل الذي يجعل البلاد رهينة الكبت الطغياني لفراعنة المرحلة الذين لا يمنحون فرصة الحركة لأحد، وليس ذلك سوى مؤشرا إضافيا على حالة الرعب التي تجتاح المنطقة بكليتها، ويُراد لها أن تتأكد وتتعمق كحقيقة عصية على المقاومة، من خلال وأد زمن الثورة وتدشين زمن الردة والانقلاب، أظن أن ذلك هو العمق والهدف المركزي في الجرأة على إصدار تلك الأحكام بهذا العنف والدموية..

في هذه الحالة، وإذا نجحت خطة الانقلابيين في توريط قطاعات من الثوار والمنتفضين سلميا إلى دائرة الثأر والدفاع عن النفس والعنف المضاد، فإن الحراك الجماهيري السلمي الذي أحرج الانقلابيين وأفشل مجمل خططهم سيتوقف ميدانيا وسيتحول إلى حرب أهلية في الخنادق لا تبقي ولا تذر، تماما كما انتقلت الثورة السورية إلى الكفاح المسلح والذي جلب معه مناذير حرب أهلية مستمرة لسنوات في خضم وضع دولي موارب ومتقلب وغير مستوي وفي ظل مواقف خجولة لدول عربية فقدت استقلالها إزاء القوى الدولية وباتت تتفرج على الوضع المأساوي في سوريا بلا أدنى حركة فاعلة أو انجاز يذكر لصالح قضية التحرر الوطني..

لكن يقينا أنه من غير المستبعد أن بعض النخبة القائدة من الأمنيين والعسكريين –المدعومين من بعض أنظمة الخليج العربي، وبصمت المنتظم الدولي-قد جنحوا لهاته الطريقة الدموية في الحسم، تماما كما فعلوا في رابعة والنهضة، وأجروا تحليلا يفضي إلى أن الاستثمار في الترهيب والتخويف والإبادة والاستئصال وتوريط بعض القطاعات في تحريف الحراك الجماهيري الشعبي المناهض للانقلاب عن طبيعته السلمية، قلت أن ذلك التحوير والتحريف لمسار الفعاليات المناهضة للانقلاب  ستؤدي إلى وقف الاحتجاج السلمي الذي يحرجهم أمام العالم، ويربكه داخليا، وفي ذات الوقت الذي يظنون أنهم في مكنتهم ومقدرتهم محاصرة حركة استعادة ثورة 25 يناير المجهضة وأيضا لجم وضبط المجتمع المصري بكليته بالقوة الأمنية القاهرة، إلى جانب حشد البلد في تحالف ضد “الإرهاب” تنسيه الفقر والتهميش والحقارة وانتهاك الكرامة، تلك القضايا التي من أجلها ثار الناس، لكن مكر التاريخ ليس ببعيد إذا طالعنا التجارب تلو التجارب التي تؤكد أن حكم المتغلب إلى زوال وانهيار وتفكك،  وأن معسكر الباطل وتحالفه إلى بوار ونهاية وشيكة بإذن الله.

أما في حالة إذا كان الحكم معدا للتخفيف لاحقا وليس للتنفيذ، بقصد التفاوض به مع الداخل والمحيط العربي، فهو بمثابة عملية تخويف جديدة أكثر عنفا تريد إقناع كل الديمقراطيين الوطنيين المستقلي الإرادة والثوار الحقيقيين بأن لا أفق أمامهم، وأن عليهم القبول بالمتاح، والاعتراف بالوضع الجديد وعدم مناكفته، ومن ثم التعامل معه وفق سقف أدنى بكثير من ذلك الذي كان يُعرض عليهم في البداية، أي الاعتراف بخريطة الطريق ودخول الانتخابات، والحصول على كوتا محدودة لا تغير في طبيعة الحكم، بقدر ما تمنحه بعض الشرعية المنقوصة، في ظل حقيقة يعرفها الجميع، وهي أنه ما من تيار أو حزب سياسي يملك من الجماهيرية ما يملكه الإخوان، كما قال بعض الكتاب المراقبين للوضع.

ومما سبق يبدو الكارثة ستكون في دفع الوضع إلى خيار اللاعودة وتوطين أسلوب الكفاح العنفي الممتنع لحد الآن عن صعيد مصر الثورة والعصي عن اختراق جدارها السلمي السميك الذي تعزز مع الإسلام الوسطي المعتدل الذي تؤصل له جماعة الإخوان وتتأصل على تربته التربوية والفكرية،

أن مسارا كهذا سيكون مدمرا للعمران والبنيان والإنسان، مفجرا لكيان مصر كلها..

وليس صحيحا أن خسائر النضال السلمي والمسار الجماهيري لإفشال الانقلاب تساوي خسائر غيره من المسارات بل هي قضية مبدأ واختيار ومنهج في نهج أسلوب للتغيير، هذا إذا أيقنا أن المسار الأخير يوجد في مأزق حاد وليس له نجاح ولا قدرة على الحسم، حتى لو فشى وتمكن..  

في ذات الوقت الذي سيخسر فيه البلد دولة ومجتمعا وتيارات وطنية ديمقراطية ووسطية معتدلة، واليقيني أنه سيؤخر التغيير الحقيقي المحمول على أكتاف شهداء الثورة ومناضليها السلميين الأحرار الأوفياء.

وهنا لا بد من تقرير حقيقة، أن هذا الوضع المأساوي الذي تمر منه القضية الديمقراطية في مصر والتقلص الرهيب في ميزان الحريات والعدالة والديمقراطية في مصر، يحتاج إلى تحكيم العقل لدى كل زعيم وكل حاكم، ولدى كل صاحب مسؤولية، ولدى كل مثقف ومفكر، ولدى كل سياسي وإعلامي وصاحب قلم، لوقف هذه الحرب المجنونة، حرب الكراهية والتعتيم والتوغل في متاهات الوعي الزائف البعيد عن التعاطي مع جوهر الإشكال الذي يعيق النهضة العربية والانبثاق في العالم من جديد، تلك مسؤولية نتحملها جميعا مهما تخالفت المرجعيات والمواقع.

في ظل هذا الجنون، جنون السلطة وسفك الدم وجنوح التدمير والإبادة التي تسكن قلب وعقل نيرون مصر، الذي يقف على حافة محرقتها الكبرى، والذي يعززه جموح إعلام كراهية استئصالي ومغالي، فإن سؤال المستقبل والأفق في مصر بات حاضر الملحاحية والأهمية، لاسيما أن العنف قد يتدرج ليصبح مسارا، وليس بالضرورة أن يكون نتاج إرادة وقرارا.

نعلم أن الإصرار على النهج الجماهيري السياسي السلمي، يبدو دربا من التخاذل في نهج البعض من المتنطعين، لكن وجب الاعتصام بحبل الكفاح السلمي الشعبي  والإصرار على نهجه..

إن حتمية التاريخ تؤكد، وسير الثورات تجدد فينا اليقين على أن الانقلاب ماضٍ وهو في مأزق سياسي حاد بل وتفكك..

النصر صبر ساعة، لكن هو المآل الطبيعي لحركة الأنبياء الذي امتحنوا وصمدوا، لكن يقينهم الأكيد هو الإعداد لجولة قادة وموجة ثورية آتية لا محالة، تستعيد من خلالها مصر حريتها ودورها الوطني والإقليمي والتحرري والنهضوي بإذن الله.

وتلك مسؤولية نتحملها جميعا، مهما تخالفت المرجعيات والمواقع، ومطلوب من الحركات والأحزاب والقوى والتيارات والمثقفين والأدباء وقادة الرأي وصناع القرار، أن يتخذوا لهم موقفا مما يجري في مصر لان ما يقع ليس قطريا ولا محدودا بل إن له أثارا كبير على مجمل عالمنا العربي والإسلامي.

*عضو الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.