سعيد يقطين: عزلة المثقف وغرابته

28/04/14
سعيد يقطين
يعيش المجتمع العربي، منذ عصر النهضة إلى الآن، أزمة تحول. وفي مختلف المنعطفات الكبرى التي عرفها تاريخه الحديث، من الاستقلال إلى 1967 فـ 1973 ومن احتلال العراق إلى الربيع العربي، كان يتأكد باطراد تأزم التحول. ويكفي أن ننظر في ما جرى عقب الربيع العربي لنعاين بجلاء أن المطالب الشعبية التي رفعت من أجل الاستقلال هي نفسها التي خرجت منددة بإنهاء الفساد، ومطالبة ببصيص من الحرية.

هناك عوامل كثيرة ساهمت في إعاقة التحول العربي. من هذه العوائق ما هو موضوعي، وما هو ذاتي في الوقت نفسه. غير أن تلك العوائق جميعا، والتي قلما عملنا على تحليلها وتفسيرها، ترتد، في رأيي، إلى العائق الثقافي، وليس إلى المثقف العربي في حد ذاته.
إن العائق الثقافي ذو أبعاد اجتماعية واقتصادية وسياسية. وليس المثقف العربي سوى نتاج هذا الواقع بكل أبعاده ومستوياته. يبدو أن منطلق الكشف عن هذا العائق يتمثل في عمل مؤسستين اثنتين:

التعليم والإعلام. فالمؤسسة التعليمية بكل أسلاكها، من الابتدائي إلى العالي، من جهة، والمؤسسة الإعلامية، من جهة ثانية بقيتا معا تحت سلطة الدولة، مدنية أو عسكرية أو مخابراتية منذ بداية العصر الحديث العربي.

لذلك لم يكن ‘المعلم’ (الذي لم يُوفَّ التبجيلا) سوى منفذ لبرامج صنعتها المؤسسة التعليمية ليس لتطوير المجتمع، ولكن لصيانة حرمة الحاكم. كما أن ‘الإعلامي’ (صاحب السلطة الرابعة) لم يكن سوى ناطق رسمي أو شبه رسمي بإنجازات الحاكم. من أمشــاج المعلم والإعلامي خرج المثقف العربي الحديث، فإذا هو المعلم والكاتب والناقد والفنان والصحافي والأستاذ الجامعي والمنتمي إلى الحزب والنقابة، أو إلى القبيلة والطائفة، من حسن حظ هذا المثقف، أو سوء طالعه، أنه كان ينظر إلى العالم بعينين اثنتين، وفي اتجاهين مختلفين:

عين على سلطة المؤسسة من أجل الوصول إليها. وعين مع الشعب من أجل ادعاء الانتماء إليه. وقليل من هم كانوا ينظرون إلى العالم بعينين في اتجاه واحد. إنهم الغرباء.
ساهمت المؤسسة التعليمية والإعلامية، وإن اختلفت الأنظمة، ظاهريا، في التدجين والتهجين، لأن لها همّا مشتركا، وموحدا (ما يجمع بين الأنظمة، باطنيا، منذ الاستقلال إلى الآن هو الاشتراك والوحدة في الحفاظ على النظام).

يتمثل هذا الهم المشترك الموحد في خلق الإنسان العربي الذي يصفق بيديه، مهما كان إحساسه وشعوره، وليس الذي يفكر بعقله. ولتحقيق هذا المقصد تم خلق الإحساس بالخطر لدى ‘المواطن’. وبما أن النظام يحارب هذا الخطر، فعلى المواطن الانخراط في هذه المواجهة. ليس الخطر سوى ‘الآخر’ وهو بدوره سيتم تغييره مع الزمن للحفاظ على التعبئة اللازمة.
ابتدأ الآخر مع الاستعمار. ثم صار تارة هو ‘التقليد’، وطورا ‘التراث’ و’الرجعية’، ثم تحول إلى ‘الأصالة’ لدى نظام، ولدى نظام آخر، ابتدأ بـ ‘الغرب’ و’التغريب’، ثم ‘الاشتراكية’، ثم تحول إلى ‘الحداثة’. ومع بداية الألفية الثالثة، صار الآخر هو الإرهاب، وهم مجمعون على محاربته وتجفيف منابعه.

وعلى الجميع أن يتعبأ ضد هذا الآخر. فالنظام والشعب متحدان معا للمواجهة والتصدي. أما الآخر: التخلف، الأمية، التبعية، الاستبداد، الفساد، فسببه هو الآخر. ويجب ‘تأجيل’ القضاء عليه، لأن الآخر الآخر أخطر على الأمن. ويجب توفير الأمن للمواطن. فهو يحتاج إلى الأمن أكثر من حاجته إلى الكرامة والحرية. فماذا تساوي الحرية والكرامة والديمقراطية إذا سادت الفوضى؟
ظل المثقف العربي، لأنه ابن هذا الواقع العربي، وليد هذا التصور. فكانت ممارساته في أغلب الأشكال التي اشتغل بها من خلال عمله الثقافي (إعلاما، وفكرا، ونقدا، وفنا) رهينته وأسيرته. فكان إما مع التقليد أو التراث أو الأصالة، وضد الغرب والتغريب والاشتراكية والحداثة، أو العكس. والآن، وقد اختزل الآخر في الإرهاب: فهو إما إرهابي بالقوة أو بالفعل، أو ضد الإرهاب.

وصارت كل معاركه من أجل ‘كلمة’ يدافع عنها ويتبناها.
لطالما تحدثنا عن المثقف ‘العضوي’، والمثقف ‘الملتزم’. وكثيرا ما تحدثنا عن الأصالة والحداثة. لكن العضوية والالتزام، معا، كان لفكرة سرعان من أدرك من أدرك أنها ليست سوى خدعة إيديولوجية، وأن الواقع أكبر من فكرة يغلب عليها الحماس والعاطفة للوصول إلى السلطة أو للعيش في ظلالها. كما أن الأصالة والحداثة ليستا سوى يافطتين.
عزلة المثقف العربي وغرابته تكمن في كونه لم يفهم الواقع الذي يعيش فيه ولم يبذل أي جهد لذلك لأنه كان ينظر إلى العالم بعينين في اتجاهين متعارضين.

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.