الخائفون من التغيير: عبد العلي حامي الدين

الدينامية السياسية التي تعيشها بلادنا على إيقاع التحولات الجارية في العالم العربي، وعلى إيقاع الحركة الاحتجاجية التي أطلقتها حركة 20 فبراير لها أفق واضح وهو جعل بلادنا عضوا في نادي الدول الديموقراطية بعد تصفية إرث السلطوية المتجذر في عالم السياسة والاقتصاد والإعلام والقضاء والفن والثقافة.. هذا الأفق يمثل تهديدا للعديد من مراكز النفوذ التي راكمت مصالح قوية في زمن اللامسؤولية المنظمة، ولذلك ليس غريبا أن تصدر من حين لآخر بعض التعبيرات المعاكسة لروح المرحلة من مراكز مختلفة تريد أن تشدنا إلى الوراء..

من هذه التعبيرات تصريح وزير الخارجية في بروكسيل الذي يبعث بإشارة سلبية مفادها أن الدستور القادم سيحتفظ بوزارات السيادة في يد الملك، وهذا كلام خطير يعبر عن نبرة تراجعية حتى بالمقارنة مع الدستور الحالي والذي لا وجود فيه لبدعة وزارات السيادة، فضلا على ما يبعثه من تشكيك في مصداقية خطوة مراجعة الدستور وفي دلالاتها الإصلاحية..هذا التصريح يؤكد بأن مجال الدبلوماسية معني بدرجة أساسية برياح الديموقراطية الكفيلة بإصلاح أعطاب دبلوماسيتنا المريضة…

المجلس العلمي الأعلى الذي تعودنا عليه كمؤسسة صامتة انخرط بدوره في ثورة مضادة لمسار الإصلاح، وأعطى الدليل مرة أخرى أنه مؤسسة يتم تسييرها عن بعد للخروج ببيانات تغرد خارج السرب (بيان تكفير القاعدة بعد اختطاف مواطنين مغربيين في العراق، بيان ضد يوسف القرضاوي بعد رأيه الفقهي بخصوص القروض من الأبناك بغرض السكن..) والآن بيان متخلف يستهدف حشو لقب أمير المؤمنين بمضامين معاكسة لقيمة الديموقراطية …خطورة هذا البيان أنه صادر عن “العلماء” المفترض فيه تنوير الأمة وقول كلمة الحق ولو أمام سلطان جائر والاجتهاد الفقهي لتطوير النظام الملكي ليتلاءم مع قيم الشورى/الديموقراطية والحرية والعدل والمساواة، وهي من أهم مبادئ النظام السياسي في الإسلام..هذا البيان يؤكد بما لايدع مجالا للشك أن الإشراف على الشأن الديني يحتاج بدوره إلى جرعات قوية من الديموقراطية تضمن له الاستقلالية وتساهم في تحريره من الجمود الذي طبع أداءه وكبله عن الانخراط في النقاشات العمومية التي تعرفها بلادنا.

من الإشارات المعاكسة لروح المرحلة: اعتقال مدير جريدة المساء رشيد نيني الذي يمثل ضربة قوية لحرية الصحافة بالمغرب…لكن رد الفعل المجتمع المغربي بكافة مكوناته ومشاربه ضد هذا التهديد أبان عن وجود مناعة معتبرة ضد أي انحراف عن مسار الحرية، وسجل تعلقا قويا بمبدأ الحرية ورفض اعتقال الصحافيين بسبب التعبير عن الرأي..

من الإشارات المعاكسة أيضا لدينامية الإصلاحات المرتقبة، إصرار وزارة الداخلية على تمرير قانون المراجعة الاستثنائية للوائح الانتخابية في البرلمان عوض المراجعة الشاملة المطلوبة والتي من المفروض أن تعترف بالحق في التصويت لحوالي 20 مليون مغربي ومغربية.. هذا الاعتراف يتطلب نقرة خفيفة فوق حاسوب الإدارة العامة للأمن الوطني لاستخراج اللوائح الصحيحة للمواطنين الحاصلين على بطاقة التعريف الوطنية والذين لهم حق التصويت في الاستفتاءات وفي الانتخابات، اللوائح الحالية لا تتجاوز 13 مليون ناخب وهي مشوبة بالكثير من الاختلالات.. وهو ما يعني عدم وجود إرادة حقيقية لتمتيع حوالي 7 مليون ناخب وناخبة بحق المشاركة في الاستفتاء الدستوري القادم، لأن المراجعة الاستثنائية عاجزة عن تسجيل هذا العدد الكبير من المواطنين …

وزير الداخلية وعد الأحزاب السياسية بأن هذه اللوائح سيجري العمل بها فقط بالنسبة لعملية الاستفتاء على الدستور، أما الاستحقاقات الانتخابية فستجرى في ظل لوائح انتخابية جديدة!! وكأن التصويت على أسمى قانون في البلاد لا يستحق مشاركة جميع الناخبين المغاربة.! الغريب أن الأحزاب السياسية لا تبدي قتالية كبيرة على هذا المستوى (باستثناء فريق العدالة والتنمية الذي صوت بالامتناع) وهو ما يطرح الكثير من التخوفات على طبيعة المرحلة القادمة…

علينا أن نتذكر في هذا الصدد أن وزير الداخلية الأسبق مصطفى الساهل كان قد تقدم بمقترح المراجعة الشاملة للوائح الانتخابية سنة 2002، لكن هذا المقترح تم وأده من داخل مجلس الحكومة ولم يصل إلى البرلمان بعدما تصدت له بعض الأحزاب المشاركة في الحكومة وعبرت عن رفضها القاطع له.. ذلك لأن اللوائح الحالية تضمن لها احتياطا انتخابيا “مخدوما” يمكن محترفي الانتخابات من الحصول على مقاعد مريحة بأقل تكلفة…

السلوك الانتهازي لجزء من الطبقة السياسية يستدعي ضرورة التنبيه إلى خطورة الاستمرار في هذه الممارسات في هذه المرحلة الدقيقة، والأحزاب السياسية تتحمل مسؤولية التصدي الحازم لمن يقف وراء هذه التعبيرات التراجعية، وأن تضم صوتها إلى صوت الجماهير التي تطالب بالتغيير الحقيقي الآن…

طبعا، لانحتاج إلى الكثير من الذكاء لنكتشف بأن الخائفين من التغيير الحقيقي لا يوجدون فقط في مواقع السلطة ولا ينحصرون فقط في ناهبي المال العام أو المتورطين في انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان أو المستفيدين من ثروات راكموها بطرق غير مشروعة..، ولكن الخوف من التغيير يشمل جزءا من النخبة الحزبية المعنية بسؤال الإصلاح والتي ترفع شعار الإصلاح والتغيير وتصدح به في كل المنتديات ومنابر الخطابة، لكنها في العمق تخاف من التغيير وتخشى انعكاساته على مصالحها الخفية وعلى مواقعها الاعتبارية وعلى امتيازاتها المرتبطة بقربها من السلطة…

لكن هناك صنف آخر من النخبة السياسية لا مجال للشك في نزاهتها وفي نظافة يدها، ولا تحظى بالقرب من السلطة ، ولم تراكم أية امتيازات غير مشروعة ولا شك أيضا في نواياها الإصلاحية، لكنها مع ذلك فهي تخاف من التغيير، وتبدي تفاؤلا حذرا اتجاه الدينامية السياسية التي انطلقت بعد مسيرات 20 فبراير، وهي منشدة إلى ثقافة سياسية مرتبطة بنموذج في الإصلاح مبني على التدرج وعلى التوافق وعلى بناء الثقة مع الفاعل المركزي المتمثل في المؤسسة الملكية…

هذا النموذج يبدو بأنه يحتاج إلى مراجعة جذرية حقيقية، لأنه مرتبط بمرحلة تاريخية كانت مطبوعة بهيمنة السلطوية وانهزامية النخبة ولا مبالاة الجماهير و”غياب الشعب”..

اليوم برز فاعل أساسي على إيقاع الثورات العربية المختلفة إسمه الشعب الذي يريد تغييرا حقيقيا وينتظر من النخبة السياسية أن تتمثل مطالبه الأساسية بشكل واضح في خطابها السياسي حتى تسترجع ثقة الجماهير في المؤسسات الوسيطة وفي قدرتها على التكيف مع وظيفتها التمثيلية المفترضة..

إن القيام بدور الوساطة يتطلب إجراءات ملموسة لبناء الثقة بين الأحزاب وبين الشعب، والاستثمار في معركة استرجاع المصداقية، فسؤال الثقة ليس منحصرا في العلاقة بين التنظيمات الإصلاحية وبين الفاعل المركزي، لكنه سؤال مطروح وبإلحاح أكبر في هذه المرحلة مع الشعب ومع الشباب بصفة خاصة، واسترجاع هذه الثقة يستدعي الانخراط المبدئي وبشكل واضح لا لبس فيه في الدينامية الاحتجاجية لحركة 20 فبراير التي بادرت إلى النزول إلى الشارع، والعمل على صب جميع الجهود النضالية في نهر واحد تحت عنوان واحد عنوان الحرية والكرامة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية…

إنها ليست معركة لبناء الثقة فقط ولكنها تمرين على القيام بعقلنة المطالب وصياغتها في لغة سياسية مسؤولة وفي أجندة للانتقال الديموقراطي الحقيقي يجنب بلادنا بعض السيناريوهات المروعة التي لا أحد يتمنى وقوعها في بلادنا.

 

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.