مقاربة في تقدير..موقف العدالة والتنمية من القانون الإطار الخاص بالتعليم

محمد الطويل

 أتابع، كما تابع العديدون، بغير قليل من الاهتمام النقاش الدائر حول مشروع القانون الإطار المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، والتي من بينها النقاش حول موقف حزب العدالة والتنمية منه. وبعيدا عن أوجه الاحتداد الذي صاحبته، إلا أن النقاش حول موقف الحزب يبقى نقاشا صحيا وحيويا يعبر عن اتجاهات قطاع واسع من مناضليه والمتعاطفين معه، بل ويعكس موقف فئة واسعة من الحساسية المجتمعية، التي ينتمي إليها الحزب، حساسية معتزة بأصالتها ومنافحة على مقومات هويتها الجماعية، والتي بدون أدنى شك يُشكل الموضوع اللغوي أحد عناصرها.

وبالتأكيد فإن حدّة وقساوة النقد الذي يواجه بهما حزب العدالة والتنمية في بعض الأحيان، قصرا دون غيره من الأحزاب، يحمل في طياته معاني عميقة ودلالات عديدة تؤشر على مقدار الثقة التي يتمتع بها الحزب، كما مقدار التوقّعات التي كان يرقبها العديدون في الحزب حيال الكثير من القضايا والمسائل التي شغلت الرأي العام الوطني، والتي من بينها مشروع القانون الإطار.

  1. القانون الإطار قصة لا بد من ذكرها

واقع الأمر، أن مسألة التعليم ولعقود من الزمن ظلت مسألة خلافية عميقة للعديد من الأسباب، بعضها مبدئي إيديولوجي وبعضها الآخر مصلحي سياسي. وقد عملت أعلى سلطة في البلاد، منذ عقود دائما، على أن تؤطر النقاش حول هذه المسألة الخلافية من خلال عقد المناظرات الوطنية وصياغة التجارب الإصلاحية واعتماد التصاميم الثلاثية والخماسية، وذلك بالحرص على نهج مسار توافقي يستوعب مختلف التوجهات والمكونات والفعاليات.

وعلى أساس من هذا التوجه، تم إنشاء اللجنة الملكية لإصلاح التعليم برئاسة المستشار الملكي مزيان بلفقيه، والتي تواضعت على ميثاق التربية والتكوين، غير أن هذا الميثاق ظل مفتقراً لطابعه الإلزامي، مما أفقده القدرة على إنجاح ورش إصلاح التعليم.

وحرصا على هذا النفس التوافقي تم، مجددا، إنشاء المجلس الأعلى للتربية والتكوين والذي اتُبع في تشكيله نفس هذا المنطق التوافقي، حيث تُمثّل فيه إلى جانب الخبراء كافة التمثيليات السياسية والنقابية والمهنية. وهو المجلس الذي أعدّ مشروعا لإصلاح التعليم ضمّنه في وثيقة “الرؤية الإستراتيجية للإصلاح: من أجل مدرسة الإنصاف والجودة والارتقاء”. وهي الرؤية التي أمر جلالة الملك محمد السادس حكومة ذ. عبد الإله بن كيران بترجمتها إلى نص قانون إطار.

وهو ما كان، حيث انكبّت الحكومة آنذاك على إعداد نص المشروع. وهو ما استكملته حكومة د. سعد الدين العثماني بنفس المنطق والتوجه. ثم بعد مصادقة الحكومة على المشروع تم رفعه إلى المجلس الوزاري حيث صودق عليه، ليحال على البرلمان ليُدرج في مساره التشريعي العادي. وإلى حدود تلك الساعة، كان الوضع عاديا جداً، وكل الفرقاء معنيون بالسير على نفس المسار التوافقي.

غير أن ما استرعى الاهتمام العمومي أول الأمر هو مسألة المجانية من عدمها، في حين لم يتم التوقف بما يكفي عند مسألة الخيارات اللغوية المعتمدة في المشروع. وتوجّهت كل الأنظار لمعالجة مسألة المجانية ولم يُتحدث عن مكانة اللغة العربية أو الهندسة اللغوية المعتمدة فيه. بالرغم من التناقض الذي كان حاصلا بين المادة 2 وبين المادة 31 من هذا القانون.

وللحقيقة، كانت العدالة والتنمية، نوابا وأعضاء، بداية الأمر أكثر اهتماما بمسألة المجانية وضغطا من أجل حذف أي حيثية قانونية أو شبهة تشريعية ممكن أن  يُفهم منها تقويض مبدأ مجانية التعليم، حتى لو تعلق الأمر بمجرد رسوم للتسجيل تلزم بها ما سُمي آنذاك “الأسر الميسورة”.

وبالرغم من أن رأي المجلس الأعلى للتربية والتكوين يتضمن بعضا من المقتضيات المتعلقة بالإلزام المالي للأسر الميسورة، إلا أن العدالة والتنمية رفقة بعض المكونات السياسية عملت على حذفه، وترك مسألة تمويل التعليم العمومي موكولة إلى مبدإ التضامن الوطني. وهو ما تم التوافق بين مختلف مكونات مجلس النواب عليه.

أما الإشكال اللغوي فلم يظهر، حقيقة وبقوة، إلا عندما شرعت لجنة التعليم والثقافة والاتصال بمجلس النواب في المناقشة التفصيلية، حيث بدا هناك اختلاف موضوعي بين المادة 2 من مشروع القانون والتي تضع الإطار المفاهيمي والذي من بينها مفهوم التناوب اللغوي، وبين المادة 31 التي تضع الإطار الإجرائي لتنزيل سياسة التناوب اللغوي.

هنا وقع الخلاف، بين من انحاز إلى هذه المادة أو تلك. وكان من الطبيعي أن ينحاز العدالة والتنمية للمادة 2 داعيا إلى تعديل المادة 31. حيث بدا هذا الأمر منطقيا، فالمادة 2 مادة حاكمة مفهوميا على المادة 31 التي لا تغدو سوى إجراء لتنزيل مضمون التناوب اللغوي. بل من الناحية الزمنية، فعدم إبداء أي فريق نقاشا حول المادة 2 إبانها، كان يترتب عنه تعديل المادة المتصدية للأجرأة والتنفيذ.

ولأن الأمر سار على هذا المسار الطبيعي، أعد كل فريق تعديلاته، وأعد فريق العدالة والتنمية مع باقي فرق الأغلبية وفقا لما جرت به العادة لائحة بالتعديلات المقترحة. غير أن الحجم الكبير في التعديلات التي قاربت 400 تعديلا، استدعت عقد لجنة تقنية تعمل على تجميع التعديلات ما أمكن وتقديمها بشكل توافقي.

وذلك ما كان، انخرط فريق العدالة والتنمية إلى جانب باقي الشركاء والفرقاء، وعلى أساس من أرضية الحرص على التوافق، لتجميع التعديلات ما أمكن. فقُلص عدد التعديلات إلى حدود 60 تعديلا بعدما قاربت 400 في صيغتها الأولى.

فطُوّقت العدالة والتنمية بواجب الحرص على هذا التوافق، الذي ما هو إلا استمرار للتوافق الذي ابتدأ في المجلس الأعلى للتربية والتكوين، ورُسم في المجلس الوزاري. وبقيت المادتان 2 و31 معلقتين متضاربتين. فحرص العدالة والتنمية على انتظار توافر أي لحظة توافقية جديدة يمكن من خلالها التواضع على صياغة مفهومية وإجرائية تسعف الجميع.

غير أنه وبعد عقد العديد من لقاءات اللجنة التقنية المنبثقة على لجنة التعليم والثقافة والاتصال، أو لجنة الرئاسة التي تضم رئيس مجلس النواب ورؤساء الفرق الممثلة في المجلس، لم يتم الاهتداء إلى صيغة جماعية، وكل مرة كان الحزب يراجع. بل حصل توافق بين مختلف المكونات، على صيغة لم تناسب فريق العدالة والتنمية، فطالب فريق العدالة والتنمية تأجيل النظر وتعميق الحوار، فاستُغل الأمر آنذاك من بعض خصومه لتصويره بأنه يعرقل مسار إخراج القانون الإطار، وبأنه خارج نطاق التوافق.

وأمام الإخفاق في التوافق على صيغة تبقى وفية للتعريف الذي تبنته الرؤية الاستراتيجية وتم اعتمادها في مشروع القانون الإطار كما أحيل على مجلس النواب. عبّر الفريق على أنه سيصوت على التعديل المدرج على المادتين بالامتناع، مما دفع باقي الفرق إلى الدعوة لفتح المجال، مجددا، للتوافق على صيغة تلائم الجميع.

وبعد أشهر من المراوحات والانتظار، جاءت دعوة رئيس مجلس النواب، بما يتيحه له النظام الداخلي بوصفه رئيسا، اللجنة الدائمة المعنية من أجل الالتئام للحسم في مشروع القانون على أساس ما تم الخلوص إليه من توافقات، مما جعل العدالة والتنمية تعيد التمسك بقرارها الأول بالتصويت على الامتناع على الماديتن 2 المعدلة والمادة 31 المادتين. طبعا هذا التصويت يبقى اجتهاداً تقديرياً قابلاً للخطأ أو الصواب.

  1. تقدير موقف الحزب: خلفياته ودلالته

إن الحسم بالنسبة للعدالة والتنمية في الموضوع تم، كما هو عهده، ضمن مؤسساته، حيث تبقى قرارته مستقلة سيادية، يُستحضر عند اتخاذها الوفاء لمبادئ الحزب وتوجهاته إلى جانب معطيات الواقع واتجاهاته، في تقدير للمصلحة الممكنة حالا ومآلا. ولعله ما يميز المواقف عن المبادئ، إذ المبادئ تحكمها القناعات في حين تحكم المواقفَ الإمكاناتُ. فالمواقف هي لحظة التقاء القناعات في سموها وتعاليها بالواقع بتحدياته وفرصه. فيعمل الفاعل السياسي على أن يُصرّف موقفه بالقدر الذي يكون معه وفيا لقناعاته ومراعيا لمتاحات واقعه، وهكذا كان دأب الحزب دائما في بناء مواقفه وقراراته.

ومع ذلك، قبل الخوض في نقاش بعض من الخلفيات والحيثيات التي حكمت موقف حزب العدالة والتنمية بصدد مشروع القانون الإطار جملة، أو ما تعلق بموقف الحزب من قضية التناوب اللغوي، لزم التأكيد على مقتضيات مهمة:

‌أ.  أهمية هذا المشروع الذي جاء في صيغة قانون إطار، خاصة وأن عدد القوانين الإطار المعتمدة في المغرب قليل جدا. وكما هو معلوم فإن القوانين الإطار من جنس القوانين التي يختص المجلس الوزاري بالمصادقة عليها، مما يضفي عليها قيمة تشريعية معتبرة؛

‌ب. ثم أن اعتماد قانون إطار خاص بالتربية والتكوين سيحول دون استمرار الفوضى التدبيرية التي يتخبطها هذا القطاع الحيوي من تضارب السياسيات وتعارض البرامج وتناقض الاستراتيجيات، ويرقى بها إلى الحد المعقول من الانسجام والاتساق الذي يفرضه إطار قانوني يُلزم مختلف الحكومات والوازرات والفاعلين؛

‌ج. أن المأمول هو أن يساهم هذا القانون في تحقيق مجموعة من المصالح الكبرى من خلال رافعاته السبع التي تهدف إلى الرقي بـ: النموذج البيداغوجي والتكويني وحكامة منظومة التربية والتكوين وتجديد مهن التدريس والتكوين والتدبير، والنهوض بالبحث العلمي والتقني والابتكار … وغيرها من الأمور التي لا يمكن إلا التأكيد على أهميتها وضروراتها؛

‌د. أن القانون قد تعرض في العديد من مضامينه لموضوع الهندسة اللغوية والتي ركز في بعضها – ولأول مرة – على ضرورة العمل لإتقان التلاميذ للغتين العربية والأمازيغية في جميع التخصصات، بما فيها التخصصات العلمية والتقنية، وإجبارية إدراج وحدة دراسية باللغة العربية في جميع المسالك الجامعية المدرَّسة بلغات أجنبية، وإمكانية فتح مسالك للتكوين بالجامعات باللغة العربية في جميع التخصصات العلمية والتقنية والطبية وغيرها من المقتضيات؛

ووعيا منه بقيمة هذه المصالح واعتبارها، عبّر الحزب منذ اللحظات الأولى على اقتناعه بمضامين مشروع القانون الإطار ودعمه لها، فكان قراره بالتصويت بالإيجاب على هذا القانون بالرغم من تحفّظه على بعض ما تضمنته المادة 31 المذكورة.

وفي إطار هذا الموقف الإيجابي من القانون في كليته، وفي ظل هذه الحدود، جاءت معالجة التعارض بين المادة 2 والمادة 31، بما يستحضر التالي من الأمور:

‌أ.  أن الحزب لم يكن عنده أصلا أي موقف مبدئي رافض لمضمون التناوب اللغوي، بل إن برنامجه الانتخابي لسنة 2016 يتضمن دعوة صريحة إلى: “(..) إرساء التناوب اللغوي في تدريس بعض المضامين وفي بعض المواد”. وعليه، فإن الحزب ليس مُعارضاً لإعمال التناوب اللغوي من حيث المبدأ، إنما وجه التحفظ لديه يبقى محدودا في درجة إعمال هذا المبدأ ونطاقه ومنسوبه؛

ب. أن الحزب معنيّ دائما بالحرص على التوافق بين مختلف الفرقاء، متى حصل التوافق، فعهد الحزب دائما أن يلتزم بالتوافق ويرتضيه ما أمكن، وقد تبنى ذلك مرارا وتوافق مع الشركاء السياسيين على آراء مرجوحة عنده؛

‌ج. أن موقع الحزب في رئاسة الحكومة، وباعتباره المكوّن الأول في الأغلبية البرلمانية، كل ذلك يلزمه بالحرص على انسجام هذه الأغلبية والتماس كل السبل الكفيلة بذلك، بالنظر لما يترتّب على ذلك من استقرار مؤسساتي يصب في صالح الوطن، بكل تأكيد.

أمام هذا الوضع، وباستحضار هذه المعطيات، رجّح الحزب التصويت على المادة 2 بالامتناع، وذلك باعتبار موقفه الإيجابي من نص القانون في مجمله؛ وبالنظر للإيجابيات والمكتسبات الكبيرة التي يُتوقع تحقيقها بعد اعتماده. وباعتبار أن تحفظه على التناوب اللغوي ليس تحفظاً مبدئيا، وإنما هو تحفظ تقديري في منسوبه ونطاقه؛ وباعتبار حرصه على نهج التوافق؛ وباعتبار موقعه في رئاسة الحكومة والأغلبية البرلمانية.

في ظل هذه الحيثيات، جاء تصويت الفريق بالامتناع على المادتين في اللجنة الدائمة، وهو الموقف الذي أسعفه في ظل معطيات المشهد البرلماني. ولعله من المُستغرب أن يُطالب منه موقف أكثر حزما وحسما، في حين الجميع صوّت بالموافقة، أغلبية ومعارضة. بل إن فريقا في المعارضة لم يسعفه موقف الرفض، واكتفى هو الآخر بموقف الامتناع.  

على أي، بالتأكيد فإن تدبير هذا المسار قد تكون اعترته بعض الأخطاء، منها الخطأ الذي نكرره كثيرا ، قواعد وقيادات، وهو خطأ رفع سقف التطلعات والانتظارات، ثم نصطدم بصخرة الواقع بشروطه وممكناته وإكراهاته، فيرتد ذلك على المناضلين وعموم المواطنين بالسلب والإحباط. لذلك يلزم التواضع في الشعارات والمطالبات بما يطيقه الحزب، ويمكن تحقيقه في الواقع.

ولعلّ من جملة الاستفادات، هو أن يحرص الجميع على الالتزام بالمؤسسة ذات الصلاحية وقراراتها أولا وأخيرا، نعم قد يخطأ الفرد والهيئات ويصيبان، ولكن خطأ في جماعة دائما هو خير من صواب في فُرقة. شريطة أن توفر المؤسسات الحرية اللازمة ليعبر الجميع عن رأيه وموقفه، ومن تم يلتزم الجميع بالقرار الجامع وينضبط له.

والله من وراء القصد .. وهو يهدي السبيل

 

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.