ملاحظات منهجية حول أهمية تقييم أداء العلاقات التجارية المغربية

د محمد نجيب بوليف

لا يخفى على كل ذي بال أن الدبلوماسية الاقتصادية والتجارية تخصص علمي قائم الذات، يمكن صاحبه من التعاطي مع التطورات الاقتصادية والتجارية بين البلدان بطريقة تؤدي إلى التفاهم الأمثل حول القضايا التجارية الراهنة والمستقبلية، في إطار رابح رابح. وبالتالي لا يمكن أن يكون تصعيد لغة الخطاب أو التلميح بتمزيق اتفاقية (وعلاقات) أو غيرها من الأساليب طريقة ناجحة في التعامل البيني بين البلدان، وخاصة ان المتغيرات العالًمية الحالية التي تتم بوتيرة جد سريعة ومتقلبة لا تمكن من التكهن بأصدقاء الغد أو الخصوم، فكم من صديق تجاري واقتصادي اليوم قد يصبح منافسا شرسا، إن لم يكن خصما، وكم من خصم يمكن أن يتحول إلى صديق مرحلي أو دائم… فالعبرة بما يجري في الساحة الاقتصادية والتجارية حاليا (البريكسيت، دول مجلس التعاون الخليجي، الخ)، ولعل نموذج أقوى رئيس لأقوى دولة في العالم في حربه التجارية المعلنة مع الصين مثال آخر على ذلك، حيث كان دائم التصريحات والإعلانات المناوئة للمنافس العالمي المباشر له، لكنه في آخر المطاف جلس على طاولة التفاوض ووقع هذه الليلة اتفاقية مع منافسه/خصمه، لا شك ستمكنه من الحصول على مزايا بفرضه على الصين استيراد 200 مليار دولار إضافية من المنتوجات الأمريكية، لكن مقابل رفع اليد عن العديد من الضرائب المفروضة مؤخرا عليها، وفي ذلك ربح للطرف الآخر…

بمعنى آخر، تمكن الدبلوماسية الاقتصادية والتجارية بقول “لا” بطريقة لا تقطع حبل الود، كما تمكن من دفع الآخر إلى قبول رأينا من باب الاحترام المتبادل.

إن العلاقات التجارية الدولية تخضع لتطورات جد معتبرة خلال السنوات الاخيرة، وخاصة مع اشتداد حدة التنافسية وبروز قوى اقتصادية وتجارية جديدة تهدد عروش الاقتصادات التقليدية القديمة التي لم تعد قادرة على مجاراة الركب العالمي وبقيت حبيسة نظرة تقليدانية لمكونات سياساتها التجارية والاقتصادية. فمن خلال تطور سلاسل القيمة المضافة العالمية، رأينا تحولا عميقا في العلاقات الاقتصادية والتجارية الدولية، بحيث أن إنتاج السلع والخدمات التي يعمل البلد على تصديرها تقوم في جزء صغير أو كبير منها على المنتجات الوسيطة المستوردة، وبالتالي فإن المستفيد الحقيقي من هذه الصادرات هو البلد الأصلي الذي يتيح هذه المنتجات الوسيطة سواء على صعيد فرص الشغل أو إنتاج القيمة المضافة عنده، مما يضطر أصحاب القرار إلى ضرورة اعتماد هذه المقاربة في الميزان التجاري، عوض الاعتماد فقط على المبالغ الإجمالية للصادرات والواردات، وهنا مربض الفرس بالنسبة للعلاقة التجارية لبلدنا المغرب مع شركائه التجارييين، ومنهم تركيا.

ولاتخاذ القرار الصائب في هذا المجال نرى أنه من الملائم اعتماد مؤشر “محتوى المبادلات من حيث القيمة المضافة”، والذي بدأت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OCDE تصدره منذ 6/7 سنوات. وبالرجوع إلى تقرير بنك المغرب الأخير لسنة 2018، نجد الخلاصة التي تفيد بالمباشر أن الصين والولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا هي البلدان التي تساهم بشكل رئيسي في العجز التجاري للاقتصاد المغربي. وكما تعلم وزارة الصناعة والتجارة فإن المغرب مرتبط مع الولايات المتحدة الأمريكية باتفاقية التبادل الحر، كما مع تركيا، وقد كان لي شرف المساهمة في النقاش العميق والكبير الذي تم بالبرلمان قبل المصادقة على هاتين الاتفاقيتين، والذي ركزنا فيه على أهمية التقييم الدائم والمرحلي لهذه الاتفاقيات لتتم إعادة النظر فيها كلما تطلب الأمر ذلك.

العجز في الميزان التجاري مع الصين كان سنة 2015 في حدود 25 مليار درهم، وانتقل سنة 2018 إلى حوالي 45 مليار درهم!

والعجز التجاري مع الولايات المتحدة الأمريكية كان سنة 2015 في حدود 18 مليار درهم، وانتقل سنة 2018 إلى أكثر من 25 مليار درهم،

والعجز التجاري مع فرنسا كان سنة 2015 في حدود 16 مليار درهم، وأصبح سنة 2018 فائضا تجاريا يقارب 3 مليار درهم!

وجب التفكير إذن في مستقبل العلاقات التجارية مع الصين، أوليست 45 مليار درهم من العجز تستحق أن تكون أولى الأولويات؟ كما وجب التفكير في إعادة تقييم اتفاقية التبادل الحر مع الولايات المتحدة الأمريكية للنظر في تصاعدية العجز الذي بلغ 25 مليار، ثم إن علينا الاستفادة من طريقة تدبير علاقاتنا التجارية مع فرنسا، التي مكنت بلدنا من الانتقال من عجز دائم لعقود إلى فائض تجاري، تجربة مرتبطة بالإنجاز على الواقع وبالملموس و ليس مجرد تدابير اعتباطية متخذة هكذا…

ثم إن تطور العجز التجاري المرتبط باتفاقية التبادل الحر مع تركيا يحتاج أيضا لقراءة علمية متأنية: حوالي 13 مليار درهم سنة 2015 و حوالي 16 مليار درهم سنة 2018، قد نقول أن كل سنة تمر على الاتفاقية تعمق في المتوسط العجز بمليار درهم إضافي مع وتيرة تصاعدية، وذلك راجع بالأساس لضعف صادراتنا لهذا البلد، والتي بقيت في حدود 5.5 مليار درهم لحد الآن. ولعل القرارات المتخذة خلال لقاء الجانبين المغربي والتركي يوم 15 يناير 2019 ستمكن من النظر في طريقة التعاطي مع هذا الامر.

إذا ما اعتمدنا قراءة في أداء ميزاننا التجاري بالقيمة المضافة، سنلحظ أن دولا كالصين والولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا تحافظ على مراتبها الأولى قياسا للميزان التجاري بالقيمة الخام، لكن تركيا، حسب معطيات سنة 2015 المتوفرة في التقرير الأخير لبنك المغرب، تظهر أن العجز يتقلص بحوالي 30%، (بين العجز الخام والعجز المرتبط بالقيمة المضافة)، بما يفيد أهمية محتوى الصادرات المحلية في الواردات المتأتية من هذا البلد. وشيء مخالف لذلك يقع مثلا مع بلد كالبرازيل الذي نحقق معه فائضا تجاريا بالقيمة، لكن عندما ندرس الميزان التجاري بالقيمة المضافة، قد يتحول إلى عجز، كما في سنوات 2015 وما يليها مثلا، مما يعني أن الصادرات نحو هذا البلد هي منتجات وسيطة أساسا يستخدمها هو في صادراته.

هناك إذن مجال خصب لتقييم طريقة استفادتنا من العلاقات التجارية واتفاقيات التبادل الحر مع مختلف الدول، والأحرى لبلدنا أن يقوم بذلك بطريقة متناسقة لكي تكون الخلاصات أداة فاعلة لهذا النموذج التنموي الذي نبحث عنه، والذي قد يكون من بين مكوناته الموازنة أو الانتقال من الاعتماد على الطلب إلى الاعتماد على المبادلات التجارية في إنتاج القيم المضافة و تحقيق النمو.

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.