بوليف يكتب: أثر تخفيض كلفة التمويل على دعم الاقتصاد الوطني وخلق دينامية تنموية اندماجية جديدة

محمد نجيب بوليف

يرتبط النمو الاقتصادي لبلد معين بمستوى القيمة المضافة المحدثة من طرف مختلف فاعليه الاقتصاديين. وإذا كانت مختلف مكونات “المجتمع” الاقتصادي من أسر ومقاولات ومؤسسات عمومية وفاعلين آخرين تشارك بطريقة أو بأخرى في هذا النمو، سواء من حيث الاستثمار أو الإنتاج أو الاستهلاك (الذي يلزمه إنتاج سابق عنه) أو الادخار، فإن عصب كل ذلك مرتبط بمستوى وشروط “التمويل” -بمفهومه الواسع- المحصل عليه (الأجور والعلاوات وغيرها بالنسبة للأسر، الميزانيات المرتبطة بنفقات التسيير والاستثمار بالنسبة للميزانية العامة والمؤسسات العمومية، التمويل بمختلف صيغه بالنسبة للمقاولات، مردودية التوظيفات بالنسبة للآخرين…)، وبالتالي فإن أي حديث عن مستوى معين من النمو يتطلب الحديث عن إيجاد “أفضل” السبل بالنسبة للتمويل وكلفته.

وإذا كانت المقاولات وحاملو المشاريع الكبرى يستطيعون الحصول على مصادر للتمويل تكون مناسبة لهم، فإن الشركات الصغيرة جدا والصغرى والمتوسطة يهمها أن تجد التمويل المناسب لقدراتها، وهو الأمر الذي يؤرقها على أكثر من صعيد، ونفس الشيء بالنسبة للشباب حاملي المشاريع المبتكرة الذين يبحثون عن تمويل -وفي كثير من الأحيان تمويل بصيغة “دعم”- لكي ينطلقوا و/أو يستمروا في الإنتاج والابتكار، وبالتالي المساهمة في دعم النمو الاقتصادي للبلد.

واعتبارا لكون المقاولة المتوسطة والصغيرة هي حجر الأساس والمكون الرئيسي للنسيج الاقتصادي المغربي (حوالي 95%)، من حيث العدد وفرص الشغل المتاحة، فإن الاهتمام بتمويلها أصبح من الأولويات في النموذج التنموي المقبل، وذلك لتقليص الفوارق الاجتماعية والمجالية ولتمكين أكبر عدد ممكن من المواطنين من فرص الاستثمار والشغل.

ولا شك أن التركيز أيضا على المقاولة الصغيرة والصغيرة جدا ستكون له آثار إيجابية على إدماج القطاع غير المهيكل وعلى إشراك الشباب والنساء في الدورة الاقتصادية والإنتاجية، بما يمكن من رفع معدل النشاط والمردودية العامة.

وفي هذا الصدد لا بأس من الإشارة إلى أن المقاولة الصغيرة جدا هي التي تحقق رقم معاملات سنوي يقل عن 10 مليون درهم، علما أن الواقع المغربي يظهر أن 87 % من مجموع هذه المقاولات لا تتجاوز معاملاتها 3 مليون درهم، و77% منها لا تتجاوز 1 مليون درهم. أما المقاولة الصغيرة والمتوسطة فهي التي تحقق رقم معاملات سنوي يقل عن 175 مليون درهم.

وبالرجوع إلى مختلف الدراسات المرتبطة بهذا الصنف من المقاولات، يمكن أن نلخص إشكالياتها الأساسية في:

– الجانب المالي المرتبط بالضمانات

– تكلفة التمويل

– المواكبة والنصح والتوجيه

– سياسة القرب والتواجد الجغرافي المتوازن

– تأخر آجال الأداء

– تمويل متأخرات الضريبة على القيمة المضافة،

– الولوج للطلبيات العمومية

صعوبة إعادة الهيكلة…

وبالتالي عندما يتحدث الفاعلون المؤسساتيون عن “تمويل الاقتصاد الوطني، نحو تنمية اندماجية”، وجب عليهم الأخذ بعين الاعتبار هذه الإشكاليات مجتمعة التي تفرز نسيجا اقتصاديا هشا، ومقاولات بعيدة عمليا وميدانيا عن مواطن ومواقع التمويل التقليدية التي تتعامل مع هياكل أكبر وأكثر تنظيما.

والناظر لمختلف طرق التمويل ببلادنا يلحظ أن الأسواق المالية البديلة ليس بإمكانها في الوقت الراهن -لأسباب ذاتية وموضوعية مختلفة قد نعود لها في مقال لاحق بحول الله- ملأ مكان “ملائم” في مجال التمويل، بما يمكن من الاستجابة لمختلف الاحتياجات المالية للفاعلين الاقتصاديين للقيام بمشاريعهم، وبالتالي يبقى القطاع البنكي هو المعول عليه ليقوم بهذا الدور “الحيوي” للاقتصاد.

وبالرجوع للإحصائيات المرتبطة بهذا التمويل البنكي، فسنجد أنه عرف نموا مضطردا خلال العشرين سنة الأخيرة، لكن بنسب متفاوتة حسب المناخ الاقتصادي الدولي والوطني. فبين 1999-2005، كان متوسط معدل نمو التمويل البنكي 8.5%، ليرتفع إلى مستويات غير مسبوقة +19.8% بين 2005-2009 -.

في فترة المشاريع الاستثمارية العقارية المتنوعة وخوصصة المؤسسات وتواجد فوائض السيولة البنكية وغيرها- لكن هذه الدينامية لم تكن لتستمر طويلا نظرا لنسب النمو الاقتصادي المتوسطة، وهكذا تقلصت نسب نمو التمويل البنكي إلى أقل من 10% بين 2009-2011، لتصل إلى معدل متوسط يوازي متوسط النمو الاقتصادي بين 2011-2019، أي +3.5%، مع تحسن خلال 2019 و 2020، (في حدود 5%).

هذا من الناحية الإجمالية، أما إذا نظرنا إلى المستفيدين من هذا التمويل البنكي، فسنجد أن تمويل المقاولات عامة يعتمد في 88% منه على القطاع البنكي، مقابل 12% فقط من سوق السندات، كما أن حصة القروض البنكية المقدمة للمقاولات تمثل 50% من الناتج الداخلي الخام، مقابل 32% كحصة مقدمة للأسر (المعدل بالاقتصادات الصاعدة في حدود 40% مما يفند بعض الادعاءات التي تتحدث عن مديونية الأسر المغربية المرتفعة).

كما أنه من الناحية القطاعية، هناك خللا وجب العمل على تداركه وتصحيحه، والمرتبط بحصة التمويل البنكي للقطاع الأولي التي لا تتعدى 7% من مجموع التمويل (بينما يمثل القطاع 12% من الناتج الخام)، مقابل 45% تذهب للقطاع الثانوي (ويمثل 26% تقريبا من الناتج)، بينما هناك توازن جد معتبر للتمويل البنكي للقطاع الخدماتي مع نسبته في الناتج الخام (48% مقابل 50%).

إذن بالنظر لهذه الإشكاليات الأولية، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو:

هل كلفة التمويل بالمغرب مناسبة لمختلف الفاعلين الاقتصاديين ليقومون بدورهم أحسن قيام ولتحقيق اندماجية تنموية؟

والسؤال الفرعي المنبثق عن السؤال الأصلي هو: هل مردودية الأبناك تساير وفي انسجام مع مردودية الاقتصاد ونسب النمو؟

ولا شك أن الجواب على هذين السؤالين سيفيدنا في تقييم أداة التمويل البنكية: هل هي عنصر إدماجي في الدورة الاقتصادية؟ (إذا اعتمدنا قياس مستوى التكلفة، علما أن هناك قياسات أخرى قد تتاح لنا الفرصة للحديث عنها لاحقا).

وقبل الدخول في التفاصيل وجب أن أنبه إلى أن على من يهمه الأمر من مدبرين للسياسات العمومية والمالية والنقدية أن يقوموا بعمل بحثي وعلمي لتوسيع تقييم مدى أداء الاقتصاد الوطني، وذلك بتوسيع دائرة التقييم لتشمل حجم الاستثمارات التي لا أو لم تتم نظرا لارتفاع التكلفة، أو لعدم استجابة أداة التمويل المتوفرة (والتي لا تقبل القيام بالتمويل بأسعار أدنى رغم توفر الشروط الموضوعية والربحية).

 وبالتالي سيمكننا هذا النوع من التحليل من الوقوف على حجم القيمة المضافة ومستوى النمو الذي لا ينجز بسبب غلاء تكلفة التمويل، ولا تخفى على أحد أهمية ذلك في الواقع المغربي، من منطق المصلحة العامة ) بمفهوم أعم welfare sociétal ) التي وجب أن تكون لها الأولوية على المصالح الخاصة.

أسئلة محورية إذن تجرنا للحديث أساسا عن مكونات تكلفة التمويل البنكي، والمرتكز على نسب وأسعار الفائدة. فمن الناحية النظرية، يمكننا اختصار القول في أن نسب الفائدة تحدد أساسا بالرجوع إلى العناصر التالية:

-تنافسية القطاع البنكي

– مستوى التضخم أو الأسعار العامة

– مستوى العرض والطلب على التمويل

– تكلفة إعادة تمويل الأبناك

مستوى المخاطر المحتملة من الإقراض أو التمويل، والمرتبط أساسا بحجم طالبي التمويل وملفاتهم (شركة صغيرة/كبيرة، ضمانات، مستوى الجوانب المالية…)،

الجوانب التقنية لعمليات التمويل المرتبطة مثلا بنوع القرض ومدته ومخاطره،

تكاليف التدبير والأرباح المؤداة على الأموال الذاتية.…

 ففيما يخص التضخم، تعتبر الفكرة المعتمدة في المجال من طرف الممولين كون نسبة الفائدة ترتفع إذا كانت نسبة التضخم عالية، وذلك حفاظا على أسعار “فائدة حقيقية” -التي لا تأخذ بعين الاعتبار نسبة ومستوى الأسعار- إيجابية، بحيث تحافظ على هوامش وأرباح الأبناك. ونسبة التضخم من المؤشرات المركزية في الاقتصاد ولها ارتباط رئيسي بالهدف المركزي للبنوك المركزية.

وبالرجوع للقانون الأساسي لبنك المغرب 40.17 الصادر بالجريدة الرسمية يوم 15 يوليوز 2019، نجد أن المادة 5 تحدد امتيازا حصريا للبنك هو إصدار الأوراق البنكية والقطع النقدية المتداولة بالمغرب، ولهذا الإصدار علاقة بمستوى التضخم. أما المادة 6، فتمكن بنك المغرب من تحديد السياسة النقدية (وقد خصص لها القانون الباب الثاني برمته) وتسييرها بكل شفافية، مع الحفاظ على استقرار الأسعار كهدف رئيسي للبنك. لكن القانون يلزم البنك بالتشاور مع الحكومة من أجل ضمان:

انسجام السياسة النقدية مع الأدوات الأخرى المتعلقة بالسياسة الماكرو اقتصادية، وفي هذا الصدد وجب إدماج الأولويات الحكومية العامة المرتبطة بدعم التمويل والتشغيل والاقتصاد في تحديد مكونات السياسة النقدية.

انسجام السياسة الاحترازية الكلية، وفيها معطيات ندققها لاحقا.

وإذا تركنا جانبا المهام الأخرى لبنك المغرب المرتبطة بتدبير سوق الصرف واحتياطات الصرف والسوق النقدية وسوق الاستحفاظ والإدماج المالي وغيرها -التي لا تهمنا في هذا المقال-، فإنه بالرجوع للمادة 10 من القانون، نجدها تؤكد على أن بنك المغرب يساهم في استقرار النظام المالي الوطني، ويقترح على الحكومة كل إجراء يحقق هذا الهدف. ومن هذا المنطلق ولتحقيق هذا الهدف مثلا، عليه أن يمنح السيولة الاستعجالية للحالات الخاصة، (المادة 67)، أو يمنح تسبيقات لصندوقي ضمان الودائع او يمنح تسهيلات الصندوق…

وبالرجوع لقرارات بنك المغرب بخصوص نسبة التضخم، نجده يركز على هدف نسبة في حدود 2%، لكن بالاطلاع على الإحصائيات المتوفرة، فإن متوسط التضخم خلال العشر سنوات الأخيرة لم يتعد 1.1%، بل لقد وصل إلى أدنى المستويات سنة 2019 (0.2%) حسب تقرير المندوبية السامية للتخطيط، مع تسجيل تراجع لأسعار المنتوجات الغذائية في نفس السنة، كما أن توقعات بنك المغرب تضعه في 1.1% سنة 2020 و في 1.4% سنة 2021.

وهو يعني أنه جد منخفض على المدى المتوسط ولا يؤثر سلبا على الأسعار الحقيقية للفائدة، كما يؤكد وجود هوامش حقيقية لتطبيق السياسة النقدية لبنك المغرب، والتي لا شك أن فيها احترازا واحتياطا كبيرين، قد يؤثران على دينامية الاقتصاد المغربي.

 ولمن أراد المقارنة عالميا، فسيجد أن المغرب رائد في هذا المجال، ففي سنة 2018، بلغ معدل التضخم متوسطا عالميا 3.6%، مع ارتفاع قياسا ل2017، وكان المعدل في الدول المتقدمة في حدود 2%، أما في الدول الصاعدة والتي في طريق النمو، فقد عرفت معدلا متوسطا في حدود 4.8%، وقد ارتفع في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى أكثر من 11%!!!

من خلال ما سبق، أتصور أن ما يستخلص من أن بنك المغرب عليه “الحفاظ على استقرار الأسعار” لا يفيد فقط ودائما بقاء هذه الأسعار في نفس المستوى، بل يبيح أن تتطور بطريقة مقبولة ومعقولة ارتباطا بالمرتكزات الكبرى للاقتصاد الوطني وبمؤشراته. وبالتالي فخلاصة الارتباط بين مؤشر التضخم وسعر الفائدة تسير في اتجاه دعم وتزكية فرضية ضرورة تخفيض أسعار الفائدة لأنه لا يوجد احتمال على المدى المتوسط لعدم استقرار الأسعار.

هذا إضافة إلى الفكرة النظرية “المعتبرة” -التي تحتاج لمزيد من الدرس والتحليل- المرتبطة ب:

كون نسبة أكبر من التضخم من شأنها تنشيط الاقتصاد أكثر وإعطائه شحنة إضافية لتطوير الأداءات الاقتصادية بين مختلف الفاعلين الاقتصاديين.

الأثر السلبي لانخفاض نسبة التضخم على الاقتصاد ومالية الدولة، من خلال عدم حركية الأجور، وبالتالي عدم حركية الاستهلاك والإنفاق اعتبارا للهامش الحدي النظري للاستهلاك، ثم انخفاض الضريبة على الأجر بالنسبة لميزانية الدولة، وكذا الانخفاض المباشر للضريبة على القيمة المضافة لكون الأسعار لا تعرف حركية إيجابية.

ولدعم هذا التوجه بمعطيات مقارنة، نجد أن السياسة النقدية الداعمة في العديد من البلدان التي تعمل على دعم التمويل وتشجيعه أوصلت نسب الفائدة إلى مستويات سالبة، كما هو الحال مثلا بالنسبة للبنك الأوروبي، الذي يعيد تمويل الأبناك، بحيث يقدم لهم -إضافة إلى مردودية السعر- “أجرا” إضافيا (قيمة النسبة السالبة) ليدفعهم إلى رفع مستوى تمويل الاقتصاد وإعطاء مزيد من القروض. وهناك نماذج كثيرة لنفس هذا السلوك يمكن الاستدلال بها لتعزيز طرحنا السابق.

 بخصوص تنافسية القطاع:

تشير النظرية الاقتصادية إلى أنه كلما زاد مستوى التنافسية اتجهت الأسعار نحو الانخفاض، فهل ينطبق ذلك على الحالة المغربية؟

بالرجوع للقطاع البنكي المغربي سنة 2019، نجد أنه مكون من 24 بنكا، 19 منها تقليدية و 5 تشاركية، إضافة إلى أن البلد يتوفر على ما مجموعه 86 مؤسسة للائتمان أو التي في حكمها. وتبلغ أصول الأبناك المغربية حوالي 1400 مليار درهم، تمثل الأبناك الثلاثة الأولى منها (التجاري وفابنك، البنك الشعبي، البنك المغربي للتجارة الخارجية) نسبة 64.3%، (مقابل 78.7% للخمسة الأولى)، كما أن ودائع القطاع تصل إلى حوالي 940 مليار درهم، يمثل الثلاثي المتقدم 64.2% منها، مع تراجع طفيف له في المؤشرين معا قياسا لسنة 2018. وتمثل الودائع تحت الطلب حوالي 62% من مجموع الودائع، مقابل 17.3% ل “ودائع لأجل” و 17.7% ل”حسابات الادخار”.

وبخصوص مجموع القروض الموزعة فتصل إلى 968 مليار درهم (حسب عرض السيد والي بنك المغرب يوم 29 يناير 2020بالبرلمان)، ويمثل هذا المبلغ 88% من الناتج الداخلي الخام، و هو ضعف مبلغ قروض سنة 2004 ( مقابل 78% مثلا في الأردن، و 68% في تونس، و82% في متوسط دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا).

وبخصوص التوزيع المؤسساتي، تمثل الأبناك الثلاثة الأولى 63.7% من مجموع هذه القروض (مقابل 80.8% للخمسة الأولى)، كما تمثل القروض المتعثرة أو معلقة الأداء حوالي 70 مليار درهم، أي ما يناهز 7.7% من مجموع القروض، وهي مغطاة في حدود 69% بالمؤن.

أما فيما يتعلق بمستوى تعامل المواطنين مع الأبناك، فيمكن القول أن معدل الولوج للخدمات البنكية قد تطور باستمرار ليصل إلى 78%، لكن دون أن يتطور عدد المؤسسات البنكية (التقليدية)، كما لوحظ استمرار انتشار التغطية الترابية مع ارتفاع وتيرة فتح الفروع، لكن منذ السنة الماضية، بدأنا نلحظ تقلصا واضحا في نمو عدد شبابيك الأبناك حيث وصلت إلى حوالي 6400. (إحصائيات يونيو 2019)، بمعدل شباك لكل 5500 مواطن، وهو المعدل الذي استقر خلال السنتين الأخيرتين، ويعزى جزء من هذا الاستقرار للطفرة التي عرفها الإحداث خلال السنوات الأخيرة وللسلوك الجديد للمعاملات البنكية التي تعتمد على الخدمات الإلكترونية والتواصل عن بعد.

وهنا لا بد من طرح سؤال حول الإضافة النوعية للأبناك التشاركية في مجال الرفع من التنافسية؟

في الحقيقة لا زال الوقت غير كافي لأخذ صورة حقيقية عن تطور عمل هذه الأبناك، لكن بالرجوع للأرقام “الماكرو” في هذا الصدد، نجد أن حجم التمويل التشاركي مثلا لا يمثل إلا 0.6% من حجم التمويل البنكي (6.1 مليار درهم)، يذهب في غالبيته العظمى لتمويل السكن.

 وبالتالي ليس هناك أثر حاليا لأية منافسة ممكنة للأبناك التشاركية لمثيلاتها التجارية، وخاصة إذا علمنا أن المنتوجات المقدمة من طرفها لا زالت قليلة و ضعيفة لم ترق بعد للاستجابة لمختلف حاجيات الزبائن، وتبقى مركزة على الجوانب التجارية كالبيع بالمرابحة، بينما الأصل في الأبناك التشاركية أنها مؤسسات تمويلية تنموية، تقدم حصصا في التمويل عبر المشاركة والمضاربة والسلم والاستصناع وغيرها من المنتجات التمويلية الأخرى.

لكن رغم هذه الوضعية التي تحتاج الدعم المؤسساتي، سمعنا أن والي بنك المغرب، في ندوته الأخيرة التي تلت انعقاد مجلس إدارة المؤسسة، نبه إلى أن بعض العمليات الترويجية التي تقوم بها هذه الأبناك التشاركية في إطار التنافسية فيما بينها قد يزج بها في مشاكل هي في غنى عنها، بمعنى أنه نصحها بعدم التنافسية غير المدروسة لجلب الزبائن!

 ولا شك أن المتتبع للتأخر غير المفهوم في إصدار القوانين التنظيمية والشرعية المرتبطة بالمنتجات التشاركية وبالتأمين التشاركي، إضافة إلى تأخر التشريع الضريبي المحايد الذي يجعلها في نفس الإطار القانوني للمنتجات التمويلية التقليدية (يتم جرعة جرعة ومن قانون مالي لآخر وكأننا لا نضبط الأدوات الجبائية)، وكذا ضعف مواردها التي لا تتعدى 2.6 مليار درهم، وطبيعة مالكي رأسمالها، الذين يملكون الحصة الأكبر، الذين هم الأبناك التجارية المحلية، وضعف الإشهار والتواصل مع عموم المواطنين والمقاولات (ماعدا بعض الاستثناءات)، كل ذلك سيجعل أية تنافسية محتملة، حاملة لتكلفة أفضل لصالح المواطنين والمقاولات، مؤجلة إلى أجل غير مسمى.

إذن من خلال ما سبق، يتضح جليا أن المنظومة البنكية المغربية محصنة تنافسيا، وبداخل هذه المنظومة نجد دائرة ضيقة تتضمن تمركزا أولا فيه ثلاثة أبناك، تليها دائرة أوسع قليلا تتضمن تمركزا ثانيا يحتوي الأبناك الخمسة الأولى. وبالتالي فنحن في وضع احتكار القلة (oligopole)، تقريبا كما هو الشأن في قطاع المحروقات.

 ولا شك أن هذه الخلاصة هي التي قدمها مجلس المنافسة باحتشام خلال دراسته للقطاع ابتداء من 2013 حين وصف القطاع البنكي ب”التمركز المتوسط”، وهي نفسها التي تأكدت من خلال “الفحوصات” التي أجراها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي حيث ذكر من بين مخاطر القطاع وجود التمركز.

والخلاصة أنه إذا كانت السوق البنكية ليست كاملة التنافسية، فإن هناك صعوبة حقيقية للحصول على تخفيض لأسعار التمويل من جانب واحد (عارض التمويل)، مما يتطلب إقرار تعديلات جوهرية في المنظومة الائتمانية برمتها لتساير تطلعات النموذج التنموي المتضامن والمستدام، الذي يؤدي لتنمية اندماجية حقيقية.

وارتباطا بموضوع التنافسية، ننتقل لأحد مخرجاتها المرتبط بالمردودية. فبالرجوع للمؤشرات المرتبطة بالمردودية خلال النصف الأول من سنة 2019، مقابل سنة 2018، سنجد أنها كانت جيدة إذا ما قورنت بالقطاعات الأخرى وبالوضع العام الاقتصادي والمالي الوطني، وبالمتغيرات المالية والتمويلية الدولية.

 فالعائد الصافي البنكي بلغ 26.1 مليار درهم خلال السداسي الأول ل2019 (أي بزيادة +5%)، مقابل 47.2 مليار درهم لسنة كاملة 2018. أما النتيجة الصافية للقطاع فقد بلغت في نفس السداسي الأول 7.6 مليار درهم، (بزيادة +10%) مقابل 11.1 مليار درهم عن سنة 2018.

أما بخصوص متوسط معامل الاستغلال فقد بلغ 46.1%، -1.3%، (مقابل 50.7% سنة 2018)، مما يعني أن هناك ضبطا إيجابيا للنفقات البنكية العامة، سواء باعتماد الرقمنة والعمليات الإلكترونية أو من خلال تجميع العمليات المماثلة وحوكمتها أو غيرها من الإجراءات التدبيرية الأخرى.

وبالرجوع لمتوسط مردود الاستخدامات، نجد أنه بلغ 4.60%، (-1.9%)، مقابل 4.35% سنة 2018 (تحسن)، وفيه إشارة أيضا إلى أن الأبناك استطاعت ايجاد أفضل الاستخدامات التي تمكنها من الحفاظ على مردودية مقبولة جدا، بل زائدة على متوسط مردودية الاستخدامات الأخرى.

أما فيما يخص متوسط كلفة الموارد، فقد بقيت في نفس مستواها بين 2018-2019، أي في حدود 1.37، وهي جد مقبولة في الظروف المالية الحالية. أما الهامش الإجمالي للوساطة، والذي يجسد الفارق بين نسبة العائد على القروض وكلفة الودائع، فقد بلغ سنة 2019 (حسب تقديم والي بنك المغرب بالبرلمان) 3.74%، (مقابل 2.98% سنة 2018).

 ومن شأن هذا الارتفاع أن يثير ملاحظات سلبية من طرف الفاعلين الاقتصاديين، وأيضا المؤسساتيين المرتبطين بالسياسات العمومية، وخاصة في ظل استقرار كلفة الموارد/والودائع.

وإذا نظرنا لنسبة عائد الأموال الذاتية (أي النتيجة الصافية مقسومة على معدل رأسمال- ROE )، فقد عرف ارتفاعا ملحوظا من 9.5% سنة 2018 إلى 11.8% في النصف الأول من 2019، ليستقر في نفس المستوى أواخر 2019 (9.5%).

ولكي نتعرف على نسبية مردودية القطاع البنكي المغربي داخل المنظومة البنكية للدول الأوروبية التي تمثل الشريك الاقتصادي والتجاري الأول للمغرب، نكتفي بإيراد بعض المعطيات المرتبطة بالأبناك الأولى أوروبيا من حيث الناتج الصافي البنكي )علما أنه ضمن العشر الأوائل عالميا من حيث الأصول نجد خمسة بنوك صينية وثلاثة أمريكية( فالجدول التالي يوضح التعافي المعتبر للمؤسسات البنكية الثلاثة الأولى بالمغرب، من حيث نسبة الأرباح في الناتج الصافي البنكي، المتراوحة بين 20-30%، والمتجاوزة لمثيلاتها بالنسبة لأكبر البنوك الأوروبية.

لكن ذلك لا يمنع من القول بأن الأبناك المغربية عليها تطوير أدائها من حيث الإنتاجية لتكون في مستوى مثيلاتها الأوروبية قياسا لعدد متعاونيها وعدد زبنائها.

الخلاصة إذن هي أن مجمل المؤشرات السالفة توضح متانة القطاع البنكي المغربي، وملاءته أيضا (في حدود 14.9% سنة 2019، مقابل 12.3% سنة 2010، بينما الحد الأدنى المنصوص عليه من طرف بنك المغرب لا يتجاوز 12%).

وهذا المستوى من التطور الإيجابي المستمر زمانيا يؤشر على صلابة القطاع واستدامة عائده وقدرة القطاع على الحفاظ على إمكاناته التدبيرية التي تمكنه من الرفع المستمر لأرباحه الصافية ولمردوديته العامة رغم المتغيرات المرتبطة بالنمو الاقتصادي والمالي.

وإذا كانت هذه المؤشرات المرتبطة بالمردودية لها وقع إيجابي على قطاع الأبناك، فلنا أن نتساءل عن مدى استفادة طالبي التمويل، أو الباحثين عنه، من هذا الوضع؟ وهل لهذه المؤشرات وقع إيجابي على مستوى تخفيض التكلفة؟ تعوزنا الدراسات المتوفرة في هذا المجال للوصول إلى خلاصة نهائية، وخاصة أنها لا تتناول علميا وعبر وسائل الاقتصاد القياسي الدوال الارتباطية بمختلف مكوناتها السابقة، وكذا العلاقة الجدلية بين المتغيرات أعلاه.

تكلفة إعادة التمويل والأسعار المطبقة:

يقوم بنك المغرب بعدة عمليات تخص إعادة التمويل، نذكر منها على سبيل المثال تسبيقات السيولة وإعادة التمويل المباشر للقروض البنكية الممنوحة للمقاولات الصغيرة جدا والصغيرة والمتوسطة في حدود 30% من الغلاف المالي المخصص لإعادة التمويل إجمالا، ومنح فائدة على الاحتياطي الإلزامي النقدي للبنوك التي تبذل جهدا ملحوظا في منح القروض.

لكن السعر المرجعي أو المديري المحدد من طرف بنك المغرب يبقى مؤثرا على تكلفة تمويل الاقتصاد عموما، وعلى تكلفة الموارد بالسوق المالية بين الأبناك خصوصا، ثم على المتعاملين غير الماليين ارتباطا بتكلفة إعادة تمويلهم، كما أن السعر المرجعي يؤثر على حجم الادخار والاستهلاك والاستثمار بالتبع، وخاصة إذا كانت هناك سلاسة في التعاطي والتتبع المرتبطة بالقرارات المالية المتخذة، والذي من بين تجلياته أن يكون تعامل الأبناك في الجوانب الدائنة والمدينة بنفس المنطق، وهو ما يحتاج لمزيد من حسن التدبير والحكامة المالية المجتمعية، التي ترشد الفعل البنكي وتدخله في دائرة “النفع العام”.

فمتابعة الواقع البنكي الحالي ترشدنا إلى أن هناك أثرا مباشرا لتخفيض السعر المديري على الأسعار الدائنة المطبقة على الودائع، أكثر من الأسعار المدينة المطبقة على القروض!

وبالرجوع لتطور السعر المديري نجد أنه كان سنة 2012 في حدود 3.25%، وانخفض إلى 2.25% منذ مارس 2016، (يمكن مقارنته مثلا مع السعر المرجعي للبنك المركزي الأوروبي مادام المغرب يحدد تقريبا نفس الأهداف المرتبطة بالعجز، في حدود 3%، وبالتضخم، في حدود 2%، هذا السعر انخفض من 0.75% سنة 2012 إلى 0% في دجنبر 2016، وهو سالب بالنسبة لتسهيلات الودائع)، ومنذ ذلك الحين والحالة لم تتغير. فهل هذا الوضع عادي أم يحتاج إلى جرعة إضافية من التخفيض؟

الجواب له ارتباط بأسباب اتخاذ مثل هذا القرار، بمعنى بالنظر إلى المؤشرات الكبرى للاقتصاد الوطني.

فبخصوص التضخم، لقد خلصنا آنفا أنه على المدى المتوسط لن يعرف ارتفاعا ذي بال قد يؤثر سلبا على الاقتصاد بحيث أن مختلف التوقعات تشير أنه لن يتعدى 1.4% سنة 2021.

 أما بخصوص المالية العمومية، فعجز الميزانية الذي كان في حدود – 3.7% سنة 2018، و-4.1% سنة 2019، سيعرف انخفاضا حسب توقعات بنك المغرب، إلى -3.8% سنة 2020، و -3.5% سنة 2021، مما يؤشر أيضا على أن هناك تحسنا معتبرا سيسمح بالحفاظ على التوازنات الكبرى للميزانية. ونفس الشيء تقريبا يمكن قوله بخصوص دين الخزينة الذي ستعرف نسبته إلى الناتج الداخلي الخام تراجعا سنتي 2020 (65.8%) و 2021 (65%) كما تشير إلى ذلك توقعات بنك المغرب.

أما فيما يتعلق بالحسابات الخارجية، فهناك تحسن مستمر لميزان الحساب الجاري الذي سينتقل من -4.6% سنة 2019 إلى -3.7% سنة 2020 ثم -2.9% سنة 2021، ونفس التحسن ستعرفه الموجودات الخارجية التي قفزت من 230.7 مليار درهم سنة 2018 إلى 240.7 سنة 2019، ثم لتواصل الارتفاع إلى 242.7 سنة 2020 وإلى 248.2 مليار درهم سنة 2021 .

إذن ليس هناك تخوف البتة من إعادة النظر في السعر المديري لبنك المغرب، نحو الانخفاض التدريجي، لكن مع اتخاذ كافة الإجراءات الضرورية المصاحبة لكي يكون له أثر ووقع على الأسعار البنكية والمالية والنقدية المرتبطة به.

والآن ماذا عن أسعار الفائدة المرتبطة بهذا السعر المديري؟

من خلال بعض الدراسات المتوفرة، يتضح أن توجه الانخفاض في نسب الفائدة خلال السنوات الماضية مرتبط بالتوجه الدولي العام، كما يرجع إلى الإصلاحات الكبرى الهيكلية لضبط التوازنات الماكرو-اقتصادية والمالية، إضافة إلى الإجراءات الآنية للسوق النقدي والمالي، مما مكن من استرجاع الثقة الدولية وتخفيض سعر المخاطر، وبالتالي تخفيض أسعار الفائدة.

 غير أنه من المفيد البحث في التقليص الحاصل في عرض القروض من طرف الأبناك ارتباطا بالسياسة الاحتياطية لمؤسسات الائتمان IFRS9، والذي قد يؤدي بمنطق السوق إلى ارتفاع الأسعار نظرا لتراجع العرض، لكن العكس هو الذي حصل. وأتصور أن ذلك ناتج عن توجه الأبناك نحو الانتقائية والبحث عن الزبناء الأكثر ملاءة.

 كما أن هناك عدم التوازن في السوق، لصالح الطلب الذي يرتفع بينما العرض يبقى متحكما فيه، على أذينات الخزينة من طرف الأبناك والمؤسسات الأخرى، إما مباشرة أو عبر OPCVM، وفي هذا توجه واضح لتحول التوظيفات المالية من المنتوجات البنكية التقليدية نحو منتجات أكثر سيولة وأكثر مردودية ك OPCVM Taux.

 ولا شك أنه انطلاقا من هذه التطورات، نجد شركة التدبير ماروجست تصدر دراسة تقرر فيها أنه سيكون هناك تصحيح نحو الأعلى لنسب الفائدة متوسطة وطويلة المدى.

أخذا بعين الاعتبار هذه الخلاصة ودون الرجوع للسنوات الخوالي، واكتفاء باستقراء متوسط سعر الفوائد المدينة المرتبطة بالقروض بين سنتي 2018 و 2019، سنلحظ ما يلي:

بالنسبة للمقاولات الكبرى، انخفض هذا السعر من 4.72% إلى 4.50%، مما يؤشر على قدرة تفاوضية معتبرة لهذا الصنف من المقاولات، لكن على العكس من ذلك، فبالنسبة للمقاولات الصغرى جدا والمتوسطة والصغرى، ارتفع متوسط هذا السعر من 5.78% إلى 5.87%، مما يؤشر على تعامل سلبي مع هاته المؤسسات نظرا لارتفاع تكلفة تمويلها، في وقت كان الأولى أن تحظى فيه على الأقل بتعامل شبيه بالمقاولات الكبرى. أما بالنسبة لمتوسط السعر للمقاولات الفردية فقد انتقل من 7.08% إلى 6.41%، وبقي في حدود متوسط 5.68% بالنسبة للأفراد.

إذن بالنظر إلى هذه الأسعار في الفترة الأخيرة، نجد أنها تفوق -في المستوى المتوسط الكلي-السعر المرجعي / المديري للبنك المركزي بحوالي 260 نقطة أساس، وب 213 نقطة أساس بالرجوع للفوائد على الودائع (5.13%#3.00%)، كما أن الفارق بين فوائد الشركات الكبرى والشركات الصغرى جدا والمتوسطة والصغيرة في حدود 140 نقطة أساس.

 ويصل الفارق بين الأسعار المطبقة على المقاولات الكبرى والشركات الفردية إلى 210 نقطة أساس، وبالتالي ألا يمكن أن نعتبر أن جزءا من تحسن مؤشرات المردودية الخاصة بالأبناك، كما وضحناه آنفا، كان على حساب المقاولات الصغيرة جدا والمتوسطة والصغيرة؟

تساؤل مشروع تطرحه هذه المقاولات منذ مدة، وأعطاه الخطاب الملكي الأخير في افتتاح دورة أكتوبر 2019 البرلمانية جدة، جعلت مختلف الفاعلين ينخرطون في البحث الآني والسريع عن جواب مقنع له.

وقد تطورت الأمور بسرعة في الاتجاه الصحيح، ابتداء من قانون المالية 2020 الذي عمد إلى إنشاء صندوق لدعم وتمويل المقاولة، وانتهاء بوضع البرنامج المندمج لدعم وتمويل المقاولات الذي عرض يوم 27 يناير 2020.

صمم هذا البرنامج ليجيب عن الخصاص الكبير الذي يعرفه قطاع المقاولات الصغيرة في مجال التمويل، وليرفع من مستوى اندماجيتها التنموية.فالإحصائيات المتوفرة تشير إلى أن حصة القروض المقدمة للمقاولات الصغيرة جدا والصغيرة والمتوسطة بلغت 37% من إجمالي القروض البنكية الممنوحة للمقاولات.

وبدراسة مقارنة بسيطة، نجد أن هذه النسبة تصل بإيطاليا 18%، وبتركيا 32%، وبإسبانيا 55%، وباليونان 54%، لكن الملاحظ هو أن الدول (كاليونان وإسبانيا) التي عرفت إشكالات مالية وتراجعا اقتصاديا واضحا بعد أزمة 2008 وانهيارا لنسيجها المقاولاتي الصغير، خصصت نسبا هامة من التمويل البنكي (54-55%) لدعم إنتاجها ومقاولاتها الصغيرة. إذن هناك جهد كبير وجب القيام به في المغرب تجاه هذا النوع من المقاولات نظرا للإشكالات التي سطرناه في بداية المقال.

 ولعل تحديد البرنامج لهدف خلق 27000 منصب شغل ومواكبة 13500 مقاولة جديدة سنويا، وذلك خلال ثلاث سنوات 2020-2022، قد يكون في الاتجاه الصحيح لتحقيق اندماجية هذه المقاولات، وخاصة باعتماد ثلاثة محاور متكاملة: محور تمويل المقاولة، ومحور تنسيق عمليات دعم ومواكبة المقاولات جهويا، ومحور إشراك العالم القروي في المواكبة المالية.

 وسيفضي كل ذلك حسب ما هو مسطر إلى إشراك وإدماج القطاع غير المهيكل من خلال تيسير مساطر الحصول على القروض، وتسهيل شروط الضمانات بإزالة الضمانات الشخصية، وتخفيض تكلفة القروض.

وكما تمت الإشارة إليه أعلاه بخصوص دور بنك المغرب، فقد أنشأ هذا الأخير آلية لإعادة تمويل كل القروض المقدمة في هذا الإطار، وقام بتخصيص فائدة مخفضة تفضيلية 1.25% بالنسبة لإعادة تمويل الأبناك لهذا المشروع، مما سيمكن من اعتماد نسبة فائدة 2% لتمويل ودعم المقاولات في المجال الحضري.

كما حرص على تقليص شروط الموارد الذاتية للأبناك بخصوص كل ما هو مرتبط بقروض هذا البرنامج. إضافة إلى وضع صندوق الحسن الثاني لمبلغ 2 مليار درهم، دون فائدة، رهن إشارة صندوق تمويل المبادرة المقاولاتية، وذلك لفائدة العالم القروي أساسا، حيث سيمكن هذا الإجراء من اعتماد نسبة فائدة 1.75% في العالم القروي رغم مخاطر القروض وضيق السوق والتأثيرات المناخية والمردودية الفلاحية (حسب بلاغ الفاعلين الماليين الصادر يوم 29 يناير 2020).

ولئن كانت هذه المعطيات تصب في صلب هدف هذا المقال، وهو التدبير الجيد لتكلفة التمويل لكي نحقق اندماجية تنموية أفضل، فلا بد من الإشارة إلى أهمية الإجراءات المواكبة المرتبطة بالتعريف بالبرنامج وبتوفير المعلومة بشفافية وعلى نطاق واسع، وبسياسة القرب والتواصل، وبالمواكبة الآنية، وبالمتابعة البعدية، نقول ذلك لأن هناك تجارب سابقة مرتبطة ببرامج بأهداف مماثلة عرفت إخفاقات مدوية، كما أن حركية الهيئات المنشأة سابقا لهذا الغرض لم تكن في المستوى المطلوب.

 فالمرصد المغربي للمقاولات الصغيرة جدا والصغيرة والمتوسطة مثلا المنشأ سنة 2013 كانت فاعليته محدودة جدا، ونفس الشيء بالنسبة للمؤسسة المغربية للثقافة المالية المنشأة سنة 2013 والتي لا يكاد يعرفها إلا القليل! كما أن إنشاء صندوق الدعم المالي للمقاولات الصغيرة جدا والصغيرة والمتوسطة سنة 2014، بشراكة بين بنك المغرب والمجموعة المهنية للبنوك وصندوق الضمان، بهدف التمويل المشترك.

 لم يمول منذ ذلك التاريخ إلا 476 مقاولة فقط، علما أنه زود باحتياطي في حدود 3.6 مليار درهم!!! فلماذا هذا العدد المحدود بينما الخصاص كبير جدا؟؟؟ كما أعتبر أنه لإعطاء فرص إضافية لنجاح هذا المشروع لا بد من إدماج البنوك التشاركية بمنتوجاتها، المختلفة عن القروض، لتمكين أكبر عدد ممكن من الراغبين في التمويل، والذين لن يستفيدوا مما هو معروض حاليا.

 خلاصة:

اعتبارا لضرورة وأهمية خلق دينامية تنموية جديدة يكون عصبها المقاولة الصغيرة والمتوسطة التي تمثل غالبية النسيج الإنتاجي الوطني، وتفعيلا لمبدأ تقليص الفوارق التمويلية بين مختلف مكونات العملية الإنتاجية بالمغرب، واعتمادا على المؤشرات التي فصلناها والتي تفيد أنه لا يوجد احتمال على المدى المتوسط والطويل لعدم استقرار الأسعار إذا ما تم التحريك السلس والتفعيل المندمج لآليات السياسة النقدية والمالية (السعر المديري والتضخم…)، وأخذا بعين الاعتبار المردودية المحترمة والمستدامة للقطاع البنكي ومتانته، في ظل مناخ بنكي ليس كامل التنافسية، فإن البحث عن نموذج تنموي اندماجي يتطلب أن تتم إعادة النظر في تكلفة تمويل الاقتصاد والمقاولة، بحيث تكون هناك تمويلات إضافية بأسعار مخفضة مقبولة، بصيغة رابح-رابح، يستفيد منها الشباب والمقاولات الصغيرة والمتوسطة والصغيرة جدا، لإعطاء دفعة للاستثمار.

 وبالتالي للاستهلاك، وأثر ذلك على القيمة المضافة والإنتاج والقدرة الشرائية، وتستفيد منها أيضا المؤسسات الممولة من الجانب الكمي الذي سيساهم في تغطية ما قد يكون أقل مردودية في الجانب الكيفي الناتج عن تخفيض الأسعار. ولا شك أن البرنامج المندمج لدعم وتمويل المقاولات الأخير جزء من هذه الاستراتيجية التنموية المتوخاة مستقبلا.

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.