محمد عصام يكتب: الحب في زمن “الكورونا”

محمد عصام

“إن هذا الحب في كل زمان ومكان، ولكنه يشتد كثافة كلما اقترب من الموت”(غابرييل غارسيا ماركيز)

لست من أولئك الذين يجيدون لعبة التباهي، حين يحشدون الاقتباسات ويزينون بها صدور مقالاتهم ويحشون بأسماء المشاهير من الكتاب ثنايا نصوصهم البليدة، في محاولة لتمثيل دور المثقف الذي يزدرد الكتب والأعمال الإبداعية، وعليه فإني ومنذ البداية، لا أجد حرجا أن أعترف لكم أني لم أقرأ عمل غابرييل غارسيا ماركيز” الحب في زمن الكوليرا” ، كل مافي الأمر أني أعجبت بالعنوان ووجدته مناسبا للظرف الذي نعيشه في زمن الكورونا.

المشترك بين مقالتي هذه و” الحب في زمن الكوليرا” التي لم أقرأها ولا أظن أنني سأقرأها، ليس لعيب فيها ولكن العيب في أنا شخصيا، فأنا من كائنات زمن الوتساب والفايس بوك وإخوانهما، وأغلب قوت بلدنا من الوجبات السريعة، ننهاربمجرد رؤية حجم روايات ما ركيز، فالمشترك بينهما هو أن كليهما يفوح برائحة الموت، بل وتتراقص الموت الى جنب كلماته، والحب هنا وهناك هامش على متن أصلي هو الموت، فكيف تكون هذه الرفقة بين ضدين أحدهما يحيل على الحياة، والثاني هو نقيضها الوجودي مكتملا في الصفات والأوصاف.

إن الموت الذي في زمني الحب لحظتي الكوليرا والكورونا، هو موت يعطي للحياة معناها الحقيقي، ويعيد تعريفها، باعتبارها ملازمة للموت، فيجب أن تعاش كأمل مستحق، وأن تعاش بحب باذخ، يستهزأ ولا يعبأ بأنياب الموت الحادة التي تتربص بنا، إننا كلما اقتربنا من الموت كلما تشبثنا بالحياة، وكلما عرفنا للحياة قيمتها، وكلما ندمنا أيضا عن خطايانا فيما أهدرناه من فرص الحب والحياة، وندمنا عن خطايانا في حق أنفسنا وفي حق الآخرين؛

كلما اقتربنا من الموت أو بالاصح اقترب الموت منا بشدة يخنقنا كما يفعل الآن في زمن الكورونا، كلما تذكرنا للحب لذته وفيوضاته، التي تجمعنا كبشر في مصير واحد، وتذكرنا مقدار الظلم الذي كان بيننا أفرادا وأمما، وندمنا على لحظات الاستقواء بعضنا على البعض، وعرفنا لذواتنا مقدارها، وأنها خلقت لتموت بأجل مسمى” واذا جاء أجلهم لا يستقدمون ساعة ولا يستاخرون” صدق الله العظيم؛الحب في زمن الكورونا، هو ما نراه بالعين المجرة هذه الأيام، من انسياب العمل التطوعي، ومن تدفق أعمال الخير، ومن التراحم الذي لا تخطئه العين هناك وهناك؛

الحب في زمن الكورونا، هو هذه الثقة والتعاون بين المواطنين والمؤسسات، هو هذا التجاوب والتقدير المتبادل، الحب في زمن الكورونا هو الذي أنتج لنا القايدة حورية وأخواتها، هو الذي علمنا بدموع الدكتورة  الصايل كيف نحب، وغيرهما كثير.

الحب في زمن الكورونا، هو الذي جعلنا نتداعى يدا واحدة، نلملم عوز هذا ونتفقد حاجة ذاك، الحب في زمن الكورونا، هو القمين بأن يعلمنا أنه مازال هناك متسع لنحب بعضنا البعض، لنثق في بعضنا البعض، لنرى أنفسنا بوضوح في المرآة، لنكتشف مقدرا الخسارة التي كنا نحياها ونتقاتل من أجلها.

الحب في زمن الكورونا هو الذي سيعلمنا كيف نحب اشياءنا البسيطة، كيف نحب قهوتنا المرة التي ألفنا ارتشافها على مهل كأننا بصدد جذبة صوفية لا تقبل الانتظار، كيف نحب خطونا في الازقة بلاهدف وكأننا على موعد مع “گودو” لن يأتي أبدا، كيف نحب ضحكنا الذي بلا معنى وبلا لون في كثير من الأحيان، كيف نحب غضبنا الذي ينطفئ بسرعة كأنه لم يكن، كيف نشتاق إلى دعوات الأمهات وهي تمطرنا في الغدو والأصال، كيف نحن إلى خبز وقهوة امهاتنا كما خلدها شاعر فلسطين الذي لا يمحا من الذاكرة، كيف تهفو قلوبنا إلى الاذان يزين المآذن، وإلى الصفوف وهي ترسم لوحة خاشعة بالمساجد…

ستصير الكورونا حديثا لأجيال قادمة، ولكننا وحدنا الذين  عشناها من سيعرف حجم الفجيعة التي حلت بنا، وحتما وحدنا سنكون  من تعلم من درسها، وحاول نقله إلى من بعده، لقد أخرجت كورونا كل جميل فينا رغم أنها فعلت ذلك بقسوة لا ترحم، تخطف من بيننا أعزاء كنا نحبهم، وتحيلهم إلى ذكرى ودموع وشيء من الحسرات، فعلت ذلك وهي تخيط لنا كفنا يسعنا جميعا، وحولت العالم الى قبر مفتوح الشهية بلا انقضاء،

الذين من بعدنا سيكتبون بحس بارد، سيكتبون بترو المؤرخ، وموضوعية السوسيولوجي، ودقة الاقتصادي، لكنهم لن يعرفوا أبدا أننا كنا نقاوم الموت بالحب، وأننا نستيقظ وننام بجنب الموت، ولم نكن نخشاها، وأننا  حولنا الموت لأعراس من الحب تتدفق تآلفا وتعاونا وتآزرا، نستدفئ بحضنها، ونقتات من الأمل الذي زرعته فينا، فهزمنا الموت باستحقاق، وعشنا الحياة بحب.             

 

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.