أزمة كورونا.. وانعكاساتها على منظومة القيم

محمد يتيم

جائحة كورونا التي اجتاحت العالم واخترقت الحدود والفئات والطبقات من أكبر الوقائع التي ستسجل إلى جانب وقائع أخرى، من قبيل الحربين العالميتين اللتين عرفهما القرن العشرين، وكذا الأزمة الاقتصادية لسنة1929  وانهيار المعسكر الشرقي وسقوط جدار برلين وظهور ما يسمى بالنظام العالمي الجديد الأحادي القطب، وما ترتب على ذلك من حروب قادتها الولايات المتحدة الأمريكية في أفغانستان والعراق نتيجة صعود الإنجيليين الجدد .

غير أن جائحة كورونا سواء كانت نتيجة تطور طبيعي للفيروس أو أمرا مبيتا، كما تقول بعض التفسيرات بغرض الربح المالي من خلال تسويق لقاحاته، تبقى لها خصوصيتها بسبب أن العدو هذه المرة عدو غير مرئي، حيث لا يمكن لأحد أن يتوقع أين سيضرب ومتى سيضرب ومن سيضرب، حتى إن رؤساء دول وحكومات ووزراء وشخصيات عامة ورياضيين كبار ودول متقدمة من حيث منظومتها الصحية لم يسلموا من بطشه شأنهم في ذلك شأن عموم البسطاء من المواطنين، مما ينطبق عليه قول الشاعر العربي زهير بن أبي سلمي :

رأيت المنايا خبط عشواء من تصب

تُمته ومن تخطئ يعمّر ويهرَم

ستكون الجائحة موضوع بحوث ودراسات وندوات وتحاليل علمية لمراكز البحوث ولقادة الفكر الاستراتيجي من الزوايا الاقتصادية والاجتماعية والنفسية والحيوسياسية، من أجل بيان التحولات المحتملة على النظام العالمي وعلاقات القوة وتوازناتها وانتقالات مركزها، ومنذ الآن بدأت تتناسل القراءات والتحاليل في المستويات المشار إليها، لكننا في هذا المقال اخترنا أن نثير بعض الملاحظات حول التحولات الطارئة أو المحتملة لهذه الأزمة على مستوى منظومة القيم بأبعادها المختلفة وهذه بعضها :

أولا: العودة القوية للمعتقد الديني :

من الطبيعي أن يتعمق الشعور الديني باعتباره شعورا يقوم على الإيمان بوجود قوة إلهية خارقة يلجأ إليها الإنسان حين يرجع إلى حقيقته ككائن ضعيف مهما أحس بالتميز والمركزية في الكون .

مع كورونا ينبعث هذا الشعور حتى عند الغافلين أو المنكرين أو المستهترين بالدين، ويتجدد عند المتدينين. ففي الأزمات التي تتجاوز قدرة الإنسان وتتحداه يحس الإنسان بالحاجة إلى القوة الإلهية المحيطة بكل شيء، ولا يزيد التقدم العلمي الإنساني هذه الحقيقة إلا تأكيدا.

ذلك أن طريقة انتشار كورونا واستخدامه للإنسان، والانتقال عبره واتخاذه لجسم الإنسان حاضنا وناقلا يجعل منه أشد على شعور البشر من الكوارث الطبيعية، الأمر مرتبط بعدو مستتر أشد فتكا في هذه الحالة من الكوارث الطبيعية التي طور العلم وسائل تقنية لرصدها وتوقعها، في حين ما زال العلماء والمختبرات العلمية تبحث عن أدوية ولقاحات مضادة للفيروس القاتل كوفيد 19 غير أن هذه العودة تحمل في طياتها بعض الانزلاقات والمخاطر في غياب وعي ديني مستنير بحقيقة الدين والعلم في نفس الوقت، فالشعور الديني غير المؤطر بفهم روح الدين ومقاصده قد يكون كارثة، وهو ما يفسر حالات جماعية من الوجد “الديني” الجماعي التي تتنافى مع أحكام الدين نفسه، ليس فقط فيما يتعلق بكل ما له صلة بحفظ النفس ولكن في الأحكام الناظمة لشعائره التعبدية من قبيل الدعاء الذي من سننه التضرع خيفة ودون الجهر من القول ومناجاة الله وعدم مناداته بصوت مرتفع لأننا كما ورد في الحديث لا ننادي أصما ولا أبكما وإنما ندعو من هو أقرب إلينا من حبل الوريد، ومن قبيل إصرار بعض المسلمين على عدم ترك صلاة الجماعة والجمعة وهو أمر من جوهر الدين، إذا خيف على النفس حيث إن حفظ النفس مقدم على حفظ الدين، فمن حفظ الدين حفظ النفس وعدم تعريضها للمهالك ولو كانت محتملة، على عكس ما شاهدناه في بعض الأشرطة المنشورة في وسائط التواصل الاجتماعي من إصرار بعض المسلمين على الصلوات الجماعية في تحد لإجراءات الحجة الصحي، وانتشار بعض الجهالات في وسائط التواصل الاجتماعي التي تدعي أن الفيروس التاجي مذكور في القرآن الكريم ومذكور سبب ومكان وزمان ظهوره، ناهيك عما يروجه بعض الجهال من وصفات يدعون أنها مانعة للإصابة بعدوى الفيروس القاتل، وادعاء البعض أنه بسبب المعاصي، والواقع أن الجيل الأول من المسلمين ممن كانوا على عهد قريب بالنبوة ماتوا بسبب الطاعون، وأن الهدي النبوي كان سباقا لإقرار قواعد الحجر الصحي ونفذه عمر بن الخطاب حين ابتلي المسلمون بطاعون عاموس .

فقد روى البخاري في صحيحه قصة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-حين خرج إلى الشام، فلما وصل إلى منطقة قريبة منها يقال لها “سرغ”، بالقرب من اليرموك، لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشام، فقال عمر ادع لي المهاجرين الأولين، فدعاهم فاستشارهم، وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام، فاختلفوا، فقال بعضهم: قد خرجتَ لأمر ولا نرى أن ترجع عنه، وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نرى أن تُقْدِمَهم على هذا الوباء، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادعوا لي الأنصار، فدعاهم

فاستشارهم، فسلكوا سبيل المهاجرين، واختلفوا كاختلافهم، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادع لي من كان ها هنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فدعاهم فلم يختلف منهم عليه رجلان، فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تُقْدِمَهم على هذا الوباء.

فنادى عمر في الناس إني مُصَبِّح على ظَهْرٍ فأَصْبِحوا عليه، فقال أبو عبيدة بن الجراح: أفرارا من قدر الله؟ فقال عمر لو غيرُك قالها يا أبا عبيدة نعم، نفرُّ من قدر الله إلى قدر الله، أرأيتَ لو كان لك إبل هبطت واديا له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف وكان متغيبا في بعض حاجته، فقال: إن عندي في هذا علما، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه) قال: فحمد اللهَ عمرُ ثم انصرف.

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الفارّ من الطاعون كالفار من الزحف، والصابر فيه كالصابر في الزحف) رواه أحمد.

جائحة كورونا هي فرصة للمراجعة الذاتية بالنسبة للمؤمنين وهي ضرورة دينية متواصلة وينبغي أن نبحث من هذه الزاوية عن المنحة في ثنايا المحنة، هي فرصة للتوبة والرجوع إلى الله كما أنها فرصة لتصحيح التنوير الديني وتصحيح الفهم وتخليصه مما علق به من الشوائب وعلق به من التحريف .

ثانيا: كورونا والسؤال القيمي والأخلاقي:

العلاج أسوأ من المرض حسب ترمب وضعت جائحة كورونا منظومة القيم في العالم بأسره والسؤال الأخلاقي أمام محك كبير. ودون شك فإن لهذا الجانب تجليات لها علاقة بالسلوك القيمي والأخلاقي الفردي والتي تجلت في التهافت على التبضع لدرجة الهلع وعدم الاكتراث بالمخاطر المحدقة وبعض التصرفات المتهورة، لكنه كشف بالأساس عن أزمة خطيرة في منظومة القيم عند القوى الكبرى التي تتنازع الصدارة والسعي للسيطرة والهيمنة وفي علاقاتها مع شعوبها .

بغض النظر عن حقيقة ما يروج عن فيروس كورونا وهل هو صناعة أمريكية أو صينية أو مجرد انفلات للفيروس من الرقابة التي كانت مفروضة عليه، فإن الأهم من ذلك هو أنه سلط الضوء على استعداد بني البشر لاستخدام أعتى الوسائل من التدمير ويتعلق الأمر بالحرب البيولوحية وأدواتها .

والظاهر أن بني الإنسان لم يتعظوا من آثار القنبلتين النوويتين اللتين أسقطتا على هيروشيما وناكازاكي، وأنهم متمادون في صناعة ما هو أشد فتكا حتى إن الأسلحة النووية أصبحت أسلحة تقليدية مقارنة بأسلحة الدمار الشامل هاته .

يكشف انتشار فيروس كورونا عن الهاوية التي تقف على سفحها البشرية كما يقول سيد قطب في مقدمة كتاب “معالم في الطريق” حيث ورد فيها :

تقف البشرية اليوم على خافة الهاوية لا بسبب الفناء المعلق على رأسها.. فهذا عارض من أعراض المرض ولكن بسبب إفلاسها في عالم القيم وهو ما تجلي في تعبير عدد من المسؤولين الأمريكان على رأسهم الرئيس ترمب وعدد من الجمهوريين عن إعطاء الأولوية للشباب في مقاومة كورونا فيروس وأيضا للاقتصاد والحفاظ على فرص الشغل على حساب المسنين حيث أطلقوا شعار: العلاج أسوأ من المرض أي ينبغي إعطاء الأولوية للاقتصاد حتى لو كان ذلك على حساب المسنين وحتى لو أدى ذلك لسقوط ضحايا، وهو ما يفسر تأخر الولايات المتحدة في فرض إجراءات الحجر الصحي لأن الكارتيلات الصناعية والمالية والاقتصادية لا تتحمل طويلا مثل هذه الإجراءات .

تبرز بوضوح التراتبية في هذا التصور بين قيمة المال والاقتصاد وقيمة الانسان: الاقتصاد أولا ولو كان ذلك على حساب الانسان .

وهو ما يتجلى أيضا في التسابق للإعلان عن اكتشاف أدوية أو أمصال للتعقيم ضد الفيروس التاجي.

ثالثا: إفلاس النظام الرأسمالي وعجز النموذج الديمقراطي الاجتماعي في التصدي للأزمة.

نجحت الصين على ما يبدو في مواجهة واحتواء جائحة كورونا في حين تواجه الرأسمالية في صيغتها الأكثر تطرفا في الولايات المتحدة والأنظمة الديمقراطية الاجتماعية المبنية على الحرية الفردية والتي يتمرد فيها الفرد بسبب تكوينه الثقافي على التحكم السلطوي، مما أدى إلى نوع من التهاون في التعامل مع الجائحة فكانت الكارثة، ولم تستعد السلطة المركزية دورها إلا بعد خراب البصرة كما يقال .

وبطبيعة الحال ليس في هذا انتصار للدولة المركزية المفرطة التي تحبس الأنفاس وتراقب المواطن حتى في خصوصياته وتتبع بالتكنولوجيا درجة حرارته، ولكن هو انتصار للقيم الثقافية لشعوب شرق وجنوب شرق آسيا التي تقوم على الانضباط وتقدس العمل وقيمة الوقت، والدليل على ذلك نجاح دول آسيوية غرب المحيط الهادي في احتواء الجائحة مثل كوريا وتايوان وهي ليست بلدا شيوعيا.

تطرح بشدة إشكالية نموذج التدبير السياسي في دول الاتحاد الأوروبي الذي بيدو أنه لم يعد إلا مشروعا في الورق، ينما تركت دوله كل واحدة منها تواجه مصيرها المشترك، ولم تجد سندا إلا في الصين وأطباء كوبا.

كما تطرح بشدة إشكالية انهيار منظومات الحماية الصحية والاجتماعية ونموذج دولة الرفاه الاجتماعي في دول كانت تضرب مثلا في ذلك حتى إننا لم نعد نميز بين هشاشة تلك المنظومة في هذه الدول وبعض دول الجنوب، وقد اكتشفت دول غربية متأخرة بعد أن نخرها فيروس كورونا أهمية التضامن العالمي فجاء اجتماع قمة دول العشرين الافتراضي وتعهدت بضخ 5 تريليونات دولار دون أن تصدر قرارات عملية للتعاون أو التضامن مع الدول والشعوب الأكثر فقرا .

رابعا: انبعاث قيم العمل المشترك والتضامن الاجتماعي والإنساني.

بالقدر الذي كشفت فيه هذه الجائحة عن إفلاس عدد من الدول التي تقدم نفسها بأنها مهد لقيم الحرية والديمقراطية، بل إفلاس منظوماتها الصحية والاجتماعية التضامنية، فإنها كشفت عن وجه أخر من الصورة، وإبراز هذا الوجه لازم وضروري، حتى لا يظن أنه قد تودع البشرية إنسانيتها، وما صور التضامن مع الشعب الإيطالي وإيفاد عدد من الأطباء والمعدات إلا وجه من هذه الصورة المضيئة فضلا عن صور الكفاح والمرابطة عند الأطقم الطبية وغيرها إلى درجة تعريض أنفسهم لمخاطرة من درجة عالية.

وعلى المستوى الوطني كشفت جائحة كورونا عن معدن أصيل لدى المغاربة وهو الغالب في الصورة رغم مظاهر من الأنانية في التصرف وعدم تقدير ما يمكن أن يجره مثلا عدم الانضباط للتدابير التي اتخذتها الدولة وسلطاتها المختصة أبرزت جائحة كورونا عن أصالة عدد من القيم لدى المغاربة من أعلى مستوى من مستويات السلطة في بلادنا إلى أبسط مواطن :

– شهادات دولية نوهت بقرارات وتعليمات جلالة الملك مؤكدة أنه وضع مصلحة شعبه قبل الاقتصاد وهو شيء طبيعي لدي رئيس دولة يجمع بين الصفة الدينية باعتباره أميرا للمؤمنين وباعتباره قائدا للقوات المسلحة الملكية وملكا للبلاد وضامنا للحقوق والحريات العامة وضامنا لوحدة المغرب واستقراره، وبالجهد الوطني المتميز لبلادنا وللتدابير التي اتخذتها من أحل التصدي لوباء كورونا والتي جعلتها محل تقدير من قبل منظمة الصحة العالمية ومن عدد من المنابر الإعلامية الدولية، التدابير التي اتخذتها الحكومة لتفعيل التعليمات الملكية من خلال إحداث صندوق لمواجهة جائحة كورونا وتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية، والتي اتخذتها لتأمين مواصلة التلاميذ والطلبة لتحصيلهم الدراسي عن بعد والتنويه وتعبئة رجال ونساء التربية والتكوين على تعبئتهم من أجل تأمين تمدرس ما يقرب من 10 ملايين متمدرس ومتمدرسة في مختلف مؤسسات التعليم، والتعبئة منقطعة النظير للأطر الصحية ولرجال السلطة الذين قدموا بالمناسبة صورة مختلفة عن الصورة النمطية التي كانت سائدة عنهم في الوعي الجمعي واصطفاف الأحزاب الوطنية في جبهة واحدة للتصدي في تعاون مع الدولة والحكومة للدائحة والقيام بحهود التعبئة والتحسيس والتأطير اللازم.

خامسا: تجسير العلاقة بين المجتمع والدولة وعودة الحياة إلى مؤسسات الوساطة

ينبغي الاعتراف أنه من السابق لأوانه الجزم النهائي بهذه الخلاصة، غير أن مؤشرات التعامل الشعبي والمجتمعي مع مؤسسات الدولة بمختلف مستوياتها تؤشر على إمكانات واعدة هي مرهونة بترصيد هذه الحالة من التعبئة الوطنية ومن المؤشرات المواقف التي عبرت عنها مكونات تصنف تقليديا في خانة الرفض وإصدارها لخطابات إيجابية وكان البعض يتوقع أن تنتهز الفرصة كي توجه سهام نقدها للدولة والمؤسسات وتشمت في الجميع، وهناك أمل أن يكون عهد ما بعد كورونا مختلفا عن عهد ما قبل كورونا وأن نقول ونحن نتحدث بلغة الذكرى المفزعة رب ضارة نافعة.

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.