سعيد يقطين يكتب: كورونا.. من أجل حجر طبيعي

سعيد يقطين

إن السؤال الذي بات يفرض نفسه على الجميع بشكل أو بآخر هو: ما هي الآثار والنتائج والخلاصات التي يمكن الخروج بها من وراء هذا الحدث الجائحة؟ إن التأويلات المختلفة لا تفيدنا في شيء لأن مقاصدها ذات أبعاد تصب في تغذية الصراع بين الأمم والدول. ولعل ما يفرضه علينا هذا الحدث يتمثل في كيف يمكننا التفكير فيما بعده، ليس فقط بهدف عدم تكراره، ولكن أيضا بهدف العمل من أجل رؤية جديدة للإنسان، والمجتمع والعالم لأن ما عراه الفيروس يكشف بجلاء أن الحضارة الغربية المادية في جانبها المبني على أساس الرأسمال المتوحش لخدمة فئة خاصة جدا لا يمكن أن يستمر إلى الأبد. وأن على الفكر الإنساني أن يبحث عن إبدال جديد للمستقبل يتعدى كل التصورات التي روجت لها تلك الحضارة وامتداداتها المعاصرة، وما جرته على البشرية من حروب وكوارث.

كان الحجر الصحي الذي فرضه فيروس كورونا ضرورة قصوى وإلا لانتشر الوباء وقضى على الملايين. استبقت بعض الدول إلى ممارسته، وتباطأت أخرى، وظهرت النتائج التي تؤكد أن عند الصباح يحمَد القومُ السُّرى، وأن الإقدام أهم من الإحجام في اللحظات الحرجة والقصوى. لم تجرب البشرية جمعاء الحجر الصحي المفروض عليها مع كورونا في كل تاريخها. فهل هي في مستوى التفكير الذي يؤهلها للتخلي عن الأنانية والمصلحة القومية الخاصة لفائدة تفكير إنساني جديد، يجعل من هذه الجائحة ذكرى تاريخية؟

ما أكثر الدروس التي يمكنها أن يستنتجها العاقلون أفرادا وجماعات وتستخلصها أمم وشعوب من خلال هذا الابتلاء، وما أعظمها. ولعل التفاوت في تقييم ما وقع يكمن في منهجيات التفكير، وطرائق الفهم والتفسير، وتقدير الأشياء، وما تحمله من دلالات عميقة ومعان لطيفة. ومن بين أهم الأمور التي تأتى لي التوقف عليها، من خلال تجارب الأمم، وضرورات ما تستنتجه من عبر في المنعطفات الكبرى والفاصلة في تاريخها: اتخاذ أيام، ومناسبات جليلة محطات لتخليد عظيم الأعمال والأهوال بهدف استبقائها أبدا حاضرة في الذاكرة الجماعية لأمة أو قبيل. ولا أقصد بذلك سوى: الاحتفال، وتخليد الذكرى.

كم من الشعوب تحتفل بعيد النصر، وباليوم الوطني، وبالاستقلال، بعد انصرام سنوات وعقود الاضطهاد والعسف والذعر والهلع، وتعتبره مناسبة خالدة، وعيدا وطنيا تتوقف فيه كل الفعاليات والأنشطة؟ ألا يمكننا الاحتفال بعد انجلاء الجائحة؟ لماذا؟ وكيف؟

لا يمكن اعتبار ذاك الاحتفال وهذه الذكرى مناسبة لتأكيد الانتصار على الفيروس والقضاء عليه. فهذا ما يتوقعه الجميع، وهو يتطلع إلى اليوم الذي يعلن فيه عن رفع الحجر الصحي. وبعد هذا الإعلان ستبدأ دورة الحياة التقليدية، بالتدريج، بسبب التخوف من رجوع الفيروس، ثم تأخذ مدىً أشد مما كانت عليه قبل انتشار الوباء. وفي هذا الصنيع لا مجال للحديث عن الاحتفال أو الذكرى: فص ملح وذاب؟

لا جرم أنه ستطرأ، بعد جلاء كورونا، تحولات كثيرة على مستويات عدة. كما ستبرز تحليلات وقراءات لا حصر لها. ويمكن توقع ظهور حركات اجتماعية ذات أبعاد متعددة، إذا ما أحسنا الإنصات إلى درس كورونا البليغ. وإلا فحليمة ستعود إلى عادتها القديمة بعنف أشد. ولا شك أن تلك العودة، ستؤكد أن الذكرى لا تنفع البشرية، في أي شيء، وأن المتضرر الأكبر سيظل هو البيئة والطبيعة كرّة أخرى. تشير الكثير من الدراسات إلى أن المجال الجوي اتخذ صورة مختلفة عما كانت عليه، وأن الأرض بدأت تتعافى، وأن التلوث تناقص بصورة ملحوظة.

الاحتفال والذكرى، شيئان مختلفان. لا نمرح فيهما بعيد النصر على العدو الذي أربك حياتنا، وجعلنا نعيش الخوف والهلع. ولكننا نسترجع الحدث، ونتوقف على ما فرضه علينا من وقوف إجباري، لم نهتم به، وإن كنا نستشعر أهميته، لنتأمل ما اجترحته أيادينا، واقترفته مؤسساتنا المختلفة حتى جعلتنا عاجزين أمام العدو الذي فرض علينا التوقف، وأجبرنا عليه. لا غرابة أن نجد هذا العدو قد سجل نفسه في الذاكرة الجماعية للبشرية. فهل نحن قادرون على تخليد ذكراه، والاحتفال بما يليق بالذكرى استشرافا لمستقبل أفضل؟

كان المجتمع العربي ما قبل الإسلامي قائما على الحروب القبلية التي لم تكن تبقي ولا تذر. كان الخوف من الموت، والسبي، والثأر عنوان حياة، قوامها السيف. ولما كانت هذه الحروب متواصلة، جاءت الأشهر الحرم لتعطي للعربي هدنة معاودة حياته قبل هيمنة الحرب، من جديد، لتحقيق أهداف كبرى من بينها التفكير في السلم لحساب أحدهم على الآخر. وأعطى الإسلام هذه الأشهر قيمة خاصة، وأبطل منها ما كانت تمارسه العرب فيها من تحايلات. لا أميز بين الأشهر الحرم، وبين المعاهدات التي تقضي بإيقاف الحرب بين طرفين، أو بتحقيق سلام دائم، من حيث المضمون.

جاء الحجر الصحي العالمي اضطرارا. وتلكأت دول غربية في ممارسته غرورا وطمعا في ألا تتوقف عجلة طاحونتها الاقتصادية، فلم تجن من وراء ذلك إلا الاستهزاء والخسارة. ألا يمكن للضمير الإنساني أن يتوقف بمناسبة الحجر الصحي الذي فرض عليه، وأن يحتفل به اختياريا لتحقيق غايات كبرى، وعلى رأسها: معافاة الأرض؟

التوقف خلال كل شهر اذار/مارس، على المستوى العالمي، لتخليد الحجر الصحي ليصبح الحجر الطبيعي والإنساني الذي تمارسه البشرية على نفسها ليكون بمثابة استراحة من الاتصال القائم على الانفصال، والرجوع إلى الانفصال الذي يعيد إلينا صلتنا بأنفسنا، وبغيرنا، وبكل ما نفتقده ونحن نجري ونلهث وراء السراب، سراب الاقتصاد المتوحش؟

لنجعل من شهر اذار/مارس والأرض تتفتح لتظهر زينتها، شهر الحجر الطبيعي الاختياري على المستوى العالمي، فتتوقف فيه كل أشكال الحياة وفق الصورة التي فرضها الحجر الصحي الاضطراري، بلا كمامات، ولا خوف أو هلع. ويكون الاستعداد للاحتفال بلا توتر أو ازدحام، تاركين للأرض فرصة أن تتنفس هواء نقيا، وللكائنات الحية أن تمرح على كيفيتها، وتتيح للبراعم التفتح على خاطرها. إذا لم نحتفل بهذه الذكرى بما يليق به أي احتفال من تفاعل وتسامح، لتُهيئِ البشرية نفسها لأوبئة وجوائح أشد وأبقى، ولات حين مندم. إن موعدهم الصبح، وهو قريب.

قد يقول قائل: هذه دعوى “مثالية”، بناء على أن كل الذين دخلوا الحجر الصحي كانوا مكرهين على ذلك، ولا يمكنهم إلا الخروج بعنف أشد بعد زوال الحجر، بهدف التعويض عن أسابيع الحجر تحت طائلة الخوف من العدوى، أو من العقوبات التي طاردتهم إما بالعصا، كما رأينا في بعض الصور، أو من خلال الحبس أو الغرامة، أو هما معا. وتبعا لذلك فالحجر الاختياري، وعلى المستوى العالمي، “حديث خرافة”. ألا ترى، يقول لسان الحال نفسه: إن العديد من الدول “المتقدمة”، وهي في مرحلة ذروة الانتشار، تتحدث عن الشروع في التراجع عن الحجر، وبداية الرجوع إلى نمط الحياة المعتاد؟ إذا كان هذا في أيام “الحرب”، فهو مستحيل في غيرها.

فُرض علينا الحجر الصحي ولم يكن أحد قد أعد له حسابا. ألا يمكننا دخول حجر طبيعي طائعين بعد أن نوفر كل مستلزماته من أجل إعفاء الأرض مما نعرضها له، ومعافاتها مما نلحقه بها من أضرار تنقلب علينا وعليها؟ الحجر الطبيعي احتفال بذكرى وعي إنساني. ورفض الدعوى إعلان عن غريزة القطيع.

نقلا عن موقع القدس العربي

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.