الدخول السياسي ورهان الثقة والسيطرة على الجائحة

 مرت، سنة تقريبا، على إصدار العدد التجريبي لهذه المجلة تحت عنوان: الدخول السياسي الجديد، خلال هذه السنة عاش المغرب والعالم كله على إيقاع متغير ما كان في حسبان أحد بعثر عددا من اليقينيات وحشر دول العالم في الزاوية وفرض عليها أكبر حجر عالمي في التاريخ بعد ظهور جائحة كوفيد 19، وتلاشت الفوارق بين الكبار والصغار في التصدي لعدو غير مرئي لم يجد الكبار أمامه سوى تقاذف المسؤولية حول انتشار الوباء بل المسؤولية والتهافت في الإعلان بين الشركات والدول عن اكتشاف اللقاح.

بعثرت الجائحة أوضاع الاقتصاد والتجارة العالمية وحركة الأشخاص والبضائع وتصاعدت مؤشرات الكساد في عدد من الأنشطة الحيوية من قبيل النقل حيث أصبح جزء كبير من أسطول النقل الجوي رابضا في المطارات، وتضررت المبادلات التجارية وظهر تأثير ذلك واضحا على أحد أكثر أنشطتها رواجا ألا وهو نشاط الخدمات ومنها قطاع السياحة.

اختارت معظم دول العالم في البداية تطبيق حجر صحي يكاد يكون شاملا بينما تبنى بعضها “سياسية مناعة القطيع” كي يجد الطرف الأول نفسه ملزما برفع تدريجي للحجر، بينما وجد الطرف الثاني نفسه أمام واقع ارتفاعات قياسية في عدد الإصابات والوفيات، وما زال الحديث عن اكتشاف لقاح للفيروس مجرد مزايدات تسعى لإثبات الأحقية العلمية لمختبراته، وتسابقا لنيل حصتها من السوق العالمية الواعدة خاصة وأنه لا يبدو في الأفق القريب أن أجل الاحتواء للجائحة قريب، كما أن تدابير إنعاش الاقتصاد  وتخفيف تدابير الحجر الصحي قد ضاعفت من عدد الإصابات،  وتُنتج شروطا لتمديد أجل إقامة الفيروس بيننا، ناهيك عن احتمال ظهور موجة ثانية فضلا عن ملل الساكنة وشعورها بالاختناق تحت مطرقة الضغط النفسي بمحاصرتها من قبل عدو متستر، مما ألقى بظلاله على التزامها بالتدابير الصارمة للحجر الصحي، وأربك عددا من المرافق الحيوية ومنها مرافق التربية والتعليم وعودة الدراسة إلى إيقاعها الطبيعي بما لذلك من  مخاطر على الأطفال والأسر، ومن تأثيرات سلبية على التربية باعتبارها عملية تنشئة اجتماعية وليس فقط مجرد تعليم وتلقين.

بلادنا هي الأخرى تواجه نفس الأسئلة والتحديات التي تواجه بقية بلاد العالم: تحدي استمرار التحكم في الجائحة مع إنعاش الاقتصاد، تحدي العودة التدريجية للحياة الطبيعية مع المحافظة على صحة المواطن، تحدي استمرار الخدمات الصحية اليومية وخاصة  الخدمات المتوجهة للأمراض المزمنة، تحدي الضغط على الموارد البشرية الصحية في ظل الخصاص المزمن الذي تعانيه المنظومة الصحية، تحدي تأمين استمرارية منظومة التربية والتعليم كمنظومة حيوية بالنسبة لأي مجتمع، وحيوية في التنشئة الاجتماعية السليمة للأجيال الناشئة، … وتحديات الاستقرار والتماسك الاجتماعيين من خلال مدخل إنعاش الاقتصاد أولا ثم من خلال بناء منظومة متكاملة للحماية الاجتماعية كما دعا إلى ذلك جلالة الملك في خطاب ذكرى ثورة الملك والشعب.

وبالنظر إلى أهمية الجواب السياسي على هذه الاستحقاقات في ظل الدخول السياسي والاجتماعي والتشريعي الجديد، فإن مسؤولية الفاعلين السياسيين والاجتماعيين وممثلي الأمة كبيرة، وذلك بأن يكونوا في مستوى اللحظة وانتظاراتها خاصة في سياق المشاورات الجارية المتعلقة بالإعداد للانتخابات.

ومن أهم عناصر ذلك الجواب ومما هو مفروض على الفاعلين السياسيين الإجماع بداهة على أهمية إفراز مؤسسات تمثيلية ذات مصداقية، وإصدار إشارات تشجع على إعادة الاعتبار لمؤسسات الوساطة السياسية من أحزاب ونقابات، وتوسيع دائرة المشاركة السياسية من خلال رسائل واضحة في هذا الاتجاه تعطي معنى وقيمة للمشاركة ولصوت المواطن، ونظام انتخابي يعزز المواطنة السياسية ويكافئ المشاركة ويشجعها وليس العكس، ويفسح المجال أكثر لمشاركة الشباب والنساء ومغاربة العالم، ويجنب بلقنة الخريطة السياسية ويفرز أغلبية قوية ومعارضة فاعلة… ويتجنب بالمقابل توجيه رسائل من قبيل الدعوة إلى الزيادة في عدد البرلمانيين هروبا من  مسؤولية إفساح المجال للشباب والنساء في اللوائح المحلية، أو الرفع من عدد المنتخبين في اللائحة الوطنية على اعتبار أن هذه اللائحة، تدبير استثنائي في اتجاه السعي نحو المناصفة .

وباختصار: جواب يعزز الثقة في جميع جوانبها ويقطع مع عمليات “البريكولاج” التي عانى منها المشهد السياسي… ويفرز فاعلين سياسيين لهم امتدادات حقيقية في المجتمع وقدرة حقيقية على التأطير في ضوء الاستحقاقات التي يفرضها الإقلاع الاقتصادي، والتحديات التي يفرضها تعزيز التماسك الاجتماعي استحضارا للتداعيات المحتملة لا قدر الله في حالة استمرار الجائحة أو ظهور موجة أقسى من الأولى. ودون ذلك ستكون جائحة خسارة رهان مواصلة تعزيز الاختيار الديمقراطي أخطر وأعمق في آثارها السلبية على أوضاعنا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية .

 كلنا أمل أن يرجح صوت الوطن وبناء الثقة فيها على الحسابات و”البريكولاجات” الصغيرة.

افتتاحية مجلة العدالة والتنمية في عددها 20 الصادر نهاية الأسبوع المنصرم

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.