بوشوار: الرقمنة اخترقت كل مناحي حياتنا وأسلوب ونمط عيشنا

قال ياسين بوشوار، باحث في علم الاجتماع وعلوم الاعلام والاتصال، إن الرقمنة اخترقت كل مناحي حياتنا، وأصبحت أسلوب ونمط عيش، كما فرضت نفسها على البيئة الإعلامية، مشيرا إلى أن “الإعلام التقليدي ليس له إمكانية غير التفاعل الإيجابي مع هذه التحولات”.

وأضاف بوشوار، في تصريح لـ “مجلة العدالة والتنمية” في عددها 25 الصادر نهاية الأسبوع، أن الإنسان بحاجة دائمة ومستمرة إلى تحيين وتحسين أنماط التواصل لديه، مشيرا إلى أن الحديث عن الثورة الرقمية هو في عمقه “حديث عن ثورة المعلومات والمعرفة والبيانات الضخمة، وبيئة الصحافة والإعلام هي جزء لا يتجزأ من هذه الثورة”.

مرحلة الاعلام التشاركي

وسجل المتحدث ذاته، أن العقدين الأخيرين عرفا تطورا مهما في تقنيات التواصل، والتي انعكست بلا شك على مجال فهم العملية الاتصالية والإعلامية نفسها، والتي أفرزت على الأقل تحولا جوهريا في عملية التلقي والاستهلاك، والتي يعبر عنها بعض الباحثين، بالانتقال من إعلام أحادي إلى إعلام تشاركي.

وأشار بوشوار، إلى أن هذا التحول من مجتمع صناعي إلى مجتمع رقمي قائم على المعرفة، “أفقد وسائل الإعلام التقليدية شكل مظهرها العمومي ولم تعد الوسيط الوحيد لإنتاج الحقائق أو بالأحرى مصدرا من مصادر صناعة الخبر وهو ما يفقدها تدريجيا قوتها وسلطتها”، مسترسلا: “علاوة على ذلك فالكثير من الصحفيين يفقدون مواقعهم لصالح التقنيين، إذ لم تعد مهمة الصحفي محصورة في البحث عن الخبر إنما في صناعته صناعة تنافسية”.

مستقبل الصحافة التقليدية

 وبخصوص مستقبل الصحافة التقليدية في ظل الثورة الرقمية، أوضح الباحث في الإعلام والاتصال، أن موضوع مستقبل الصحافة التقليدية كمؤسسة “لم يعد يثير الكثير من القلق بالوتيرة نفسها كما كان عليه الأمر قبل عقدين من الآن على الأقل”، مبينا أن تأثير الثورة الرقمية “أصبح واقعا حقيقيا، والصحيح أيضا؛ أن مؤسسات ومقاولات إعلامية تقليدية تأثرت بشكل كبير جدا؛ حيث أعلن بعضها إغلاقها وبالأحرى إفلاسها خاصة منها الصحافة المكتوبة”.

وشدد بوشوار، على أن الصحافة التقليدية تعيش وضعية هشاشة وأزمة خانقة لا تخفى على أحد، قائلا: “أعتقد أن كل المؤشرات تقول بتراجع الصحافة الورقية اليومية، والاتجاه صوب ما يسمى بالمجلة الصحفية”، وتابع أن الظروف الحالية وتوالي الأزمات، “تُوَلّدُ سؤال المقاومة من أجل الاستمرارية، أي إلى حد يمكن لهذه المؤسسات أن تقاوم لوحدها، حتى أن بعض محاولات الإنقاذ في عمقها هي محاولات إحسانية”.

وتساءل المتحدث ذاته، “هل يمكن الحديث عن صحافة قوية وحرة ونزيهة في ظل مقاربة إحسانية؟ الجواب بكل تأكيد هو مستحيل، أو على الأقل صعب للغاية. ومع ذلك لا يمكن الإقرار هكذا وببساطة بنهاية هذا النموذج من دون استحضار الاختلافات بين المجتمعات، ومدى تشبعها بالثقافة الصحافية والإعلامية”.

تحولات اجتماعية متعددة ومركبة

وفي سياق آخر، وفيما يتعلق بأثر الثورة الرقمية على التحولات الاجتماعية، أكد بوشوار، أنها أفرزت تحولات اجتماعية متعددة ومركبة وغير متجانسة، مستدركا: “لكن وباختصار، يمكن القول إنه، على مدى العقد الأخير، انتشرت وسائل التواصل الاجتماعي في حياتنا على نحو متزايد، وشهدت المنطقة تحولات شتى على عدة أصعدة، حيث أصبحت مصدرا ملهما من مصادر التغير الاجتماعي والسياسي”.

وبين الباحث في علم الاجتماع وعلوم الاعلام والتواصل، أن الثورة الرقمية أسهمت في التأثير على السلوك اليومي للأفراد، وفسحت المجال أمامهم للتعبير عن مشاعرهم وتطلعاتهم وآراءهم بشكل غير مسبوق، وصارت شبكات التواصل الاجتماعي حاسمة في صناعة الرأي العام، وباتت بمثابة البديل الموازي أو المنتظر للمؤسسات التقليدية الاجتماعية والسياسية والإعلامية.

ولفت المتحدث ذاته، إلى التغير الكبير الذي عرفته بيئة المعلومات السياسية بشكل كبير، حيث لم تعد الجرائد والصحف الحزبية أو المستقلة التقليدية تلعب دورا محوريا وحاسما في عملية التبليغ السياسي كما كانت قبل هذا التحول، حيث إن تغير بيئة المعلومات وتطور أساليب البث، جعلت المدون يحمل صفة الصحفي، والناشط صفة المناضل أو السياسي، واليوتوبيون والانتستغراميون صفة الإعلامي.

وبعد أن ذكر بوشوار، أن هذه التحولات “مكنت الأفراد من صياغة مناضلة اجتماعية موازية لعالم الواقع”، أوضح أنها أسهمت في إعادة الاعتبار للذات من خلال صياغة وضعية بديلة أو مناسبة لتطلعاتهم المتزايدة بخلاف ما يفرضه الواقع الاجتماعي الضيق من سلطة، مردفا “الواقع أن شبكات التواصل الاجتماعي المختلفة، مكنت الأفراد وعلى نحو أفضل من منحهم إحساسا جديدا بالمجتمع والانتماء إليه”.

تأثير الرقمي على الاجتماعي

من جهة أخرى، وفيما يتعلق بأدوار فضاءات التواصل الاجتماعية في التفاعل والتواصل وفتح النقاشات العمومية، قال بوشوار، إن التفاعل مع هذا السؤال بحاجة إلى معاينة ورصد ميداني، لكن من خلال المتابعة يمكن تسجيل ملاحظة أولية، تتعلق بسؤال من يتقارب مِن مَن؟ وما طبيعة هذا التقارب؟ ثانيا، فتح نقاشات عمومية، بأية صيغة؟ وهل كانت مغلقة قبل هذه اللحظة؟ والأهم ما هي الأثار المحتملة لهذا النقاش على الفعل الاجتماعي والسياسي؟

وتابع “صحيح أنه لا يمكن نفي دور هذه الوسائط في ترسيخ قيم جديدة بخصوص الترافع الاجتماعي الشامل، لكن في نفس الوقت، يجب الإشارة إلى التواصل والتقارب والنقاش، كفعل اجتماعي يحتاج إلى شروط ربما تتجاوز إلى حد ما شروط مجتمع الفرجة والاستعراض، لذلك يجب التمييز بين التفاعل والتواصل على أساس الحجة والفعل التواصلي”.

ولفت المتحدث ذاته، إلى أن التمييز يقوم على أمرين إثنين أولا: أن التواصل يقوم على مبدأ الانتظام في الزمن ثم التبادل والإقناع، والتجاوز، بينما التفاعل يقوم على أساس عدم الاستقرار لغياب شرط الزمن، ثم الإغراء والتفاوت، لذلك الحسم بقياس درجة الأهمية سيكون مسألة صعبة ونسبية، بالنظر إلى الأدوار غير المتجانسة التي تلعبها هذه الفضاءات الجديدة في المجتمع.

الفضاء الافتراضي والفضاء الواقعي

دعا بوشوار، إلى التمييز بين الفضاءين الافتراضي والفضاء الواقعي، باعتبار أن “أساس الفضاء العام الواقعي يقوم على الفعل التواصلي، بينما الفضاء الرقمي يقوم على أساس التفاعل”، مستدركا: “لكن ما يهمنا هنا ليس إبراز هذه الفرق التقني إن صح التعبير، وإنما تبيان مدى عمق الفرق بين المستويين، ومدى خطورة الاعتقاد في أن يمثل هذا النموذج الرقمي البديل لعالم الوقائع الموضوعية”.

وأفاد أن هذا السؤال، أي الفرق بين الفضاءين والعلاقة القائمة بينهما، “يدعونا إلى التفكير بحذر شديد في طرائق تعاملنا مع القضايا الحقيقية”، معتبرا أن هناك اعتقاد يرى أن “المعركة الحقيقية تحسم فقط في حدود هذه المنصات”، وهذا يدفع، حسب بوشوار، نحو قيود أكثر أنقة لكنها تقود لا محال إلى سلطوية أكثر بشاعة من سلطوية الحكومات”.

ولفت إلى أن الدعوة المستمرة دون وعي إلى إقرار أن كل وسائل التعبير داخل معركتنا يجب أن تكون رقمية بالضرورة، أو بالأحرى أن تمر من شبكات التواصل الاجتماعي، “تجعل أصواتنا مسموعة في فضاء يعمه الضجيج”، مردفا أن “لا أحد يستطيع سماعنا ولا نحن نستطيع سماع الآخرين بالوضوح الكافي، وهذا لوحده كفيل بخلق انسحاب اجتماعي شامل، والاعتقاد بعكس ذلك في النهاية”.

الخصوصية والحياة الخاصة

وفي سياق آخر، وفيما يتعلق بالخصوصية والحياة الخاصة للأفراد في فضاءات التواصل الاجتماعي، استشهد الباحث في الاعلام والتواصل بتصريح لـ “مارك زوكربرغ” صاحب منصة “فايسبوك” الذي أدلى به في احدى لقاءاته، حين قال إن منصاته(مارك زوكربرغ)  تراقب رسائل المستخدمين التي تتعارض مع مبادئ المقاولة”، وأيضا اتهام هذه الشركة بخرق خصوصيات مستخدمي منصاتها وعدم حماية معطياتهم الشخصية، خاصة بعد الواقعة الشهيرة، المعروفة بكمبردج أناليتيكا، التي تمكنت من استغلال بيانات ملايين من مستخدمي منصة “الفايسبوك” وذلك لأغراض سياسية.

ويرى بوشوار، أن مشكلتنا الحقيقة تجاه هذه المؤسسات العملاقة هي أننا نتعامل معها كأنها حكومات أو أشياء فوقية أزلية، بينما في النهاية هي مجرد مقاولات استثمارية تسعى إلى مزيد من الربح، مضيفا أن العالم اليوم كله أصبح مراقبا، بحيث “لم يعد يخفى على أحد، بل أكثر من هذا نحن من يقوم بتسهيل مأمورية المراقبين، فالكثير منا يشارك حياته أو جزءً منها على وسائط التواصل الاجتماعي”.

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.