الركراكي: العالم الرقمي والثورة التكنولوجية أحدثا تحولات عميقة في المجتمع

قال محمد الركراكي، أستاذ بالمعهد العالي للإعلام والاتصال، إن انفتاح المجتمعات على العالم الرقمي والتكنولوجي والسماح بتداول المعلومة والآراء، خلق تحولا عميقا في المجتمع، فالعالم التكنولوجي فرض نفسه، مضيفا أن على المجتمعات أن تواجه هذه التحديات والتحولات وأن تضع أسسا ومرجعيات يجب الاحتكام إليها.

وأكد الركراكي، في حوار مع “مجلة العدالة والتنمية” في عددها 25، أن هناك تحولا عميقا جدا في المجتمعات وفي العالم بصفة عامة، فالعالم الرقمي فرض ذاته كمحدد لتوجهات الرأي العام، ودليل ذلك تفاعلات مؤسسات الدولة مع الكثير مما يتداول في العالم الرقمي، مشيرا إلى أن هذه المؤسسات تدرك “أن هذه المحتويات تصنع الرأي العام ولابد من التفاعل معها، وبالتالي فإننا في مرحلة تحولات عميقة والعالم الرقمي صار يفرض ذاته، وأصبح مؤثرا في المشهد الإعلامي”.

وهذا نص الحوار كاملا:

ما التحولات التي عرفها حقل الاعلام في تحالفه مع الثورة التكنولوجية؟

أعتقد أن الممارسة الإعلامية بصفة عامة مرت بمراحل متعددة، هذه المراحل كانت مفصلية في التطور التاريخي إن صح التعبير، وبالتالي نحن أمام مرحلة جديدة، سمتها الأساسية أننا نتجه نحو مجتمعات رقمية بالأساس أي مجتمعات الرّقمنة والفضاء الأزرق الذي أحدث تحولات عميقة، ليس فقط على مستوى تبادل المعلومات وتبادل الأفكار، وإنما على مستوى الممارسة الصحفية، فنحن أمام تحول عميق جدا لا يمكن إلا أن نقف لتأمله ودراسته بعمق، خاصة بعد التحولات التكنولوجية الكبرى والتطورات السريعة التي عرفها العالم.

يمكن أن نقول، من خلال هذا المعطى الجديد، إننا في عالم رقمي بامتياز، وهذا التوجه الجديد الذي يعرفه العالم، يفرض على الإعلاميين أن يأخذوه بعين الاعتبار، فنحن في مرحلة جديدة بكل تحولاتها التكنولوجية والتقنية مما سيكون له أكيد أثر مباشر على مستوى الممارسة الإعلامية.

أليس هناك هيمنة ما هو تكنولوجي على ما هو ممارسة إعلامية مهنية؟

لا اعتقد ذلك، فيجب في نظري أن ننظر إلى المسألة في بعدها الشمولي، فهناك بالفعل تحولات رقمية وانفتاح المجال سمحت به التكنولوجيا على مستوى التداول والولوج للمعلومة وتدفقها بشكل كبير داخل المجتمعات، لكن إذا أردنا أن نتحدث عن الممارسة الصحافية فلها قواعد، ولذلك لا أتفق أيضا مع الفكرة التي تقول بـ “المواطن الصحافي”، والفكرة التي تقول إن الممارسة الصحافية مجرد تعبير عن وجهة نظر ومجال يسمح بتداول الأفكار وكل من يعبر من الناس عن وجهة نظره فهو صحافي، فالممارسة الصحافية لها قواعدها وأسسها ومبادئها.

نحن أمام تحول تكنولوجي لا يمكن أن ننكره، تحول رقمي سواء أردنا ذلك أم لا، وربما الحالة التي يعيشها العالم بسبب وباء كورونا سرعت بهذا التحول منذ السنة الماضية، فالكل يتجه نحو عالم رقمي للتداول، ولكن من جهة أخرى، فالممارسة الصحافية لها قواعد ومرجعيات وأسس يجب أن يتم مراعاتها، فليس كل ما يكتب صحافة واعلام، وليس كل ما ينشر خبر دقيق، كما يجب أن تراعي الممارسة الأخلاقية في العمل الصحافي، فنحن أمام اتجاهين متوازنين: الأول، اتجاه التطور والتحول التكنولوجي، والاتجاه الثاني: الممارسة الاعلامية التي لها قواعدها وأسسها ومرجعياتها.

 لكن هناك من يتحدث عن قرب نهاية الصحافة التقليدية في زمن الثورة الرقمية، هل هذا صحيح؟

لا اعتقد ذلك، فهذا النقاش يطرح في كل مرحلة تاريخية، فلما ظهر الراديو كان يقال إنها مرحلة نهاية الجريدة، ولما ظهرت التلفاز قيل نفس  الشيء عن نهاية الراديو وهكذا، ولكن بعد ذلك تبين أن لكل جديد مكانه في المجتمع، نفس الشيء اليوم مع التطور التكنولوجي، فلا أعتقد باختفاء الاعلام التقليدي، صحيح هناك تحول عميق وهو تحول دولي، حيث إن أعرق الصحف في بريطانيا وامريكا وغيرها أغلقت بسبب عدم قدرتها على البقاء والمنافسة، ولكن لا يعني ذلك اختفاء هذه الصحافة، فلا زالت موجودة، ولكن الشيء الجديد هو التحولات التي وقعت على بنية المقاولات الإعلامية التي أصبحت تؤسس لجانب رقمي لتعبر عن وجهة نظرها، وتخلق توازن بين ما أسميته بالجانب التقليدي للممارسة الصحافية والجانب التكنولوجي لأنه صار يفرض ذاته.

من وجهة نظري هناك تحولات كبرى عرفتها المؤسسات والمقاولات الإعلامية والصحافية، تفرض أن يساير الإعلام التقليدي هذه التحولات إن أراد البقاء والصمود في سوق تنافسي لا يرحم، ولكن ورغم هذه التحولات، فالصحافة بالأوجه المعروفة وبالممارسات المعروفة لا زالت قائمة، فالذي يجب أن يكون هو التكيف مع هذه التحولات التكنولوجية مع المحافظة على جوهر الممارسة الصحافية بقواعدها وأسسها ومرجعياتها كما سبق وأن أشرت إلى ذلك.

أليس هذا التكيف بالنسبة للإعلام التقليدي مكلفا؟ بمعنى آخر ألن يحرف دوره أمام طغيان التكنولوجي على المهني؟

يجب أن ننظر الى الأشياء في تحولاتها التاريخية التي لا محيد عنها فالتحولات التكنولوجية حتمية وهذا في اعتقادي شيء محسوم فيه ولا خيار لدينا في نهاية المطاف، لكن الذي يجب أن نقف عليه هو طبيعة هذه الممارسة داخل هذه المؤسسات مع حصول التحول الرقمي، فالأساس بالنسبة لي، والذي يجب أن نراعيه، هو بالضبط الممارسة المهنية بقواعد مهنية، فالصحافة الرقمية والصحافة الورقية سواء والحامل هو الذي تغير، حامل رقمي وحامل ورقي، لكن الأسس والمرجعيات والممارسة الصحافية والاسس التي تعتمد عليها والاجناس الصحافية التي نشتغل بها وأخلاقيات المهنة هي نفسها، فهل يمكن أن نفرق بين اخلاقيات المهنة بين الصحافة الرقمية والورقية، أكيد لا، فهي مرجعية واحدة وهناك تكامل بينها في سياق ما فرضه التحول الرقمي والتكنولوجي.

 في نظركم، ما التأثير الذي أحدثته هذه الفضاءات الرقمية في الفرد والمجتمع؟

تغيرات كبيرة وعميقة جدا، فانفتاح المجتمعات على العالم الرقمي والتكنولوجي والسماح بتداول المعلومة والآراء، هذا كله خلق تحولا عميقا في المجتمع، فالعالم التكنولوجي فرض نفسه وهذا تحدي على المجتمعات التي عليها ان تواجه هذه التحولات وان تضع أسسا ومرجعيات يجب الاحتكام اليها، فهناك اليوم توجهات وتشريعات في العالم نبهت الى خطورة ما يجري في العالم الرقمي، وضرورة تقنين هذه الممارسة انطلاقا من مبدأ المسؤولية، فحين تلج هذا العالم فأنت مسؤول عن الكلمة ومسؤول عن التدوين.

اعتقد بأنه هناك تحولا عميقا جدا في المجتمعات وفي العالم بصفة عامة، فالعالم الرقمي فرض ذاته كمحدد لتوجهات الرأي العام، ودليل ذلك تفاعلات مؤسسات الدولة مع الكثير مما يتداول في العالم الرقمي، إذ تدرك هذه المؤسسات أن هذه المحتويات تصنع الرأي العام ولابد من التفاعل معها، وبالتالي فإننا في مرحلة تحولات عميقة والعالم الرقمي صار يفرض ذاته، وأصبح مؤثرا في المشهد الإعلامي.

 هل تريد أن تقول إن الاعلام الجديد ساهم في الدمقرطة وغيرها من المبادئ التي تروم إلى رقي المجتمعات؟

صحيح، ويجب ان نعود الى التحولات التي عرفها العالم في العقود الأخيرة منذ سقوط جدار برلين والتحولات التي عرفتها اوروبا وصولا إلى ما تابعناه فيما يسمى بـ “الربيع العربي”، بحيث إن شبكات التواصل الاجتماعية كانت حاضرة بقوة، وهي التي مكنت من نقل الأحداث بالسرعة المطلوبة الى جانب الاعلام الآخر، بحيث كان دورها مفصلي في هذا الجانب، هذه حقيقة لا يمكن أن ننفيها، نحن أمام دور جديد لهذا الاعلام، ولكن يجب أن ننتبه، كما أشرت إلى ذلك، أنه بقدر ما هناك إيجابيات كبيرة في هذا الاعلام بقدر ما هناك جوانب سلبية لا يمكن بكل حال من الأحوال مواجهتها بالمنع والتحكم في تدفق المعلومة.

اليوم هناك تحديات تواجه المجتمعات بخصوص هذه الفضاءات وبالخصوص الاخبار الزائفة التي تعتبر إشكالية يواجهها العالم، ففي الاتحاد الأوربي أُنشأت لجنة خاصة لمواجهة الاخبار الزائفة، أما شركة “الفايسبوك” فقامت بإنشاء بنية داخلية لمحاربة الأخبار الزائفة، وأريد أن أعود بك الى النقاش العميق الذي عرفته الولايات المتحدة في الانتخابات الأخيرة والذي وصل الى درجة توقيف الحساب الرسمي للرئيس دونالد ترامب على تويتر، لأنه يتضمن خطابا ومعلومات غير دقيقة.

نحن أمام تدفق هائل للمعلومة سمح بتوسيع هامش المحاسبة والتفاعل ومشاركة المجتمعات في النقاش العمومي والنقاش السياسي والضغط على الحكومات ومؤسسات الدولة في كل البلدان، لكن سمح من جهة أخرى بهامش سلبي مرتبط بالأخبار الزائفة والتضليل الإعلامي وغيرها، وهنا يجب أن يتم العمل على التكوين وسن التشريعات التي تحد من الجوانب السلبية، ولكن في نفس الوقت تسمح بالمحافظة على الهوامش الإيجابية وحرية الرأي والتعبير.

 أليست معادلة صعبة، كيف في نظرك يتم الجمع بين الضبط من خلال آليات التشريع والتقعيد، وبين الحرية في الرأي والتعبير؟

بالحرية والمسؤولية، وليس بالمنع نحن أمام فضاء يسمح كما أشرنا لكل الأطراف وكل الأفراد داخل المجتمعات بالتعبير عن وجهة نظرها ولا يمكن وقف ذلك بالمنع، فهذا الفضاء يجب أن يكون مسؤولا مثله في ذلك مثل الفضاءات الأخرى، أما التوجهات الاستبدادية وغير الديمقراطية فكما كانت تتعامل مع الاعلام والتشريعات المقننة للممارسة الصحفية بنصوص تشريعية تقيد هذا الجانب، تحاول بنفس الطريقة أن تفعل ذلك بالنسبة للفضاء الرقمي من قبيل وقف شبكات الانترنت، ورأينا ذلك في كثير من الدول كروسيا في الأحداث الجارية حين دفع الكرملين في تجاه منع توسع رقعة الاحتجاج ضد بوتين وممارسته السياسية، أو من خلال قطع الاتصالات كما رأينا قبل ذلك أثناء الثورة المصرية في يناير 2011 حين لجأ النظام المصري إلى منع شبكات الأنترنت وقطع الاتصالات، لأنه رأى أن نقل الأحداث والأخبار من جميع المدن يؤجج الثورة.

نحن أمام إعلام لا حدود له، يعني انتهى عمليا زمن الفضاء المتحكم فيه أو المجال الجغرافي المتحكم فيه، ولكن كما قلت يجب أن نراعي توازنين: الأول، التشريع ومسؤولية الأفراد والمجتمعات، والثاني: الممارسة الإعلامية وهوامش الحرية.

 هناك من يقول إن الاعلام الجديد بالقدر الذي استفادت منه المجتمعات من خلال اتساع فضاءات التعبير والرأي بالقدر الذي استغل أيضا للضبط والتوجيه والحشد من انتشار الأخبار الزائفة وغيرها؟

أنا أنظر الى الصورة من الجانب الإيجابي أي زاوية الهامش من الحرية والتفاعل الذي سمح به هذا الاعلام، ومن حيث القدرة على التعبير وعلى اغناء النقاش العمومي داخل المجتمع، فهذا شيء إيجابي، فلم يعد هناك أي طرف قادر على وقف تدفق المعلومة ووقف المعطيات، إذ يمكن أن أصل إلى أي معلومة عما يقع في كل بقاع العالم، وهذا جانب جد إيجابي، بل هو شيء رائع في اعتقادي، لأنه أصبح هناك مجال مفتوح للمعلومة ولتداولها والتعبير عن وجهات النظر ولإغناء النقاش العمومي في الوقت الذي يضيق فيه الهامش على مستوى الاعلام التقليدي.

من جهة أخرى، هناك جانب سلبي، يجب أن يعالج في إطار النقاش العمومي نفسه، فتطوير هذا النقاش العمومي مهم للسماح للمجتمعات للتعبير عن وجهة نظرها واغناء الأفكار المتداولة داخل هذا الفضاء وأكيد رغم ذلك فستبقى هناك جوانب سلبية، ففي الإعلام التقليدي قبل بروز دور الإعلام الرقمي، هناك انتقادات توجه الى الممارسة الصحافية سواء في المغرب أو في العالم من خلال الضرب في أخلاقيات المهنة وعدم الالتزام بقواعد المهنة وغيرها، فهذا واقع حتى في الاعلام التقليدي، فكيف نريد أن لا يكون واقعا في الفضاء الرقمي الذي يلج اليه كل الأفراد بشكل مفتوح.

طرح مؤخرا نقاش بخصوص ثورة الاعلام الجديد وخاصة الاعلام الاجتماعي وخصوصية الأفراد، كيف ترون هذا الاشكال الذي صار يؤرق المستخدمين، وما أثر ذلك على الفرد والمجتمع؟

المنطق التجاري يتحكم في هذه الشركات، شركات كبرى مثل فايسبوك وغوغل وغيرها تنظر الى الجوانب الربحية الاستثمارية، وبالتالي فالإشكال مرتبط بكيف يمكن أن نوازن بين الطابع الاستثماري الذي هو حق مشروع، وفي نفس الوقت الحفاظ على خصوصيات الأفراد، ولكن أعتقد بأن كل ما حدث منذ 2016 وتورط “الفايسبوك” في بيع -إن صح التعبير- المعطيات الشخصية لـ 98 مليون مستخدم وتوجيه المنتخبين في الولايات المتحدة، والنقاش الأخير الذي عرفه تطبيق “واتساب” قبل أن تكون مجبرة على تأجيل تغييراتها في سياسة معطيات متعلقة بالخصوصية الشخصية.

من وجهة نظري الممارسة الرقمية يجب أن تتحكم فيها القواعد الأخلاقية، ليس بالمفهوم الأخلاقي الضيق الذي يوحي عليه المصطلح، لكن من خلال التعامل مع المعلومات والمعطيات ومع الوقائع والخصوصيات بكل مهنية، ومن جانب آخر على كبريات الشركات بالأخص الإعلام الاجتماعي – التي أسميها بالغول- أن تلتزم باحترام الخصوصيات، وأن تحترم بالضبط المعطيات الخاصة التي تصل اليها من خلال الاشتراكات.

ما هو دور الفكر والإنتاج العلمي والباحثين في الاعلام والمراكز البحثية وغيرها من فعاليات في تخليق وتقعيد هذه الفضاءات؟

أعتقد بأن دور المفكر كان دائما هو خلق أفكار وتقعيد أي ممارسة كيفما كانت، ونحن أمام ضرورة انخراط جميع الفاعلين والمفكرين ورجال الاعلام والمؤطرين في جانب الاعلام لتقعيد هذه الممارسة وخلق الشروط الفكرية والمهنية لهذه المهنة ولضبط هذه الممارسة بصفة عامة، نحن نخلق الأفكار والنصوص سواء كانت تشريعية، أو من ناحية التنظير بأبعادها المختلفة ونضع لها القواعد التي يجب على الجميع أن يحترمها أثناء الممارسة الإعلامية.

 أنا لست من الذين يقولون إن هناك تراجعا في الممارسة الإعلامية، بل إن هناك تأثيرا قويا للممارسة الصحافية والإعلامية سواء كانت مكتوبة أو رقمية بجميع الحوامل، ولكن الاشكال كما قلت هو في كيفية تأطير هذه الممارسة، أي كيف يمكن للمنظرين في المجال الإعلامي والاجتماعي ومختلف التخصصات أن يخلقوا القاعدة الأخلاقية والتشريعية والمهنية لتأطير وحماية الحقل الإعلامي الذي يعتبر أساسيا وجوهريا في تطور المجتمعات، إذ لا يمكن أن نتصور المجتمعات أو أي دمقراطية بدون إعلام قوي حر ونزيه وذلك مسؤولية الجميع في نهاية المطاف.

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.