حقيقة القول المأثور في الزعتر والباكور

إبراهيم الفتاحي

قوة حزب العدالة والتنمية ليست في الخطاب الديني فقط كما يردد كثيرون، ولكن قوته تكمن في كونه الحزب الوحيد الذي تجد كثيرا من وكلاء لوائحه ومن يلونهم في المراتب الأولى أشخاصا فقراء من عامة الشعب: أساتذة وموظفون بسطاء وتجار صغار وطلبة جامعات…

توزع التزكيات في حزب العدالة والتنمية بديموقراطية تستحق الاحترام والتقدير مهما اختلفنا إيديولوجيا، وعلى صخرة ديمقراطيته الداخلية تنكسر معاول كل الهجومات والضربات التي يتلقاها من منافسيه، بينما نجد المال والنفوذ حاسما عند الأحزاب الأخرى، فالبكاد ستجدون لائحة أي حزب آخر لا يقودها أحد الأثرياء القادرين على الانفاق، أو أحد النافذين القادرين على جمع المنفقين من حوله.

التدرج في الحزب والمكانة النضالية والكفاءة (على الأقل حسب تقديرهم) عوامل حاسمة في التزكيات ولا يُنظر للإمكانات المادية والنفوذ إلا لماما في بعض الدوائر الانتخابية ذات الخصوصية، فلا أحد هناك يجد موقعه استنادا لثروته أو اسم أبيه أو موقعه من فلان وعلان إلا نادرا. وهل كان أمكراز سيتوزر في هذا العمر وهو القادم من المداشر البعيدة مثلنا لولا أنه في العدالة والتنمية؟ وهل كانت أمينة ماء العينين ستبلغ مواقعها القيادية تلك وبهذا التأثير لولا أنها من العدالة والتنمية وهي أستاذة بسيطة مثلنا تماما؟ ربما قد يصلان إلى مواقعهما حقا في أحزاب أخرى، ولكنني على يقين أنهما سيحتاجان ضعف الزمن الذي قضوه في العدالة والتنمية، وقد يصلان منهكين من الضربات والعراقيل والدسائس والمؤامرات والاقصاءات والاعتداءات، سيصلان وقد قست قلوبهما ونضجت جلودهما من طول المعارك والطعنات. تلكم هي الحقيقة.

كل الأحزاب تريد دحر العدالة والتنمية في الانتخابات القادمة، ولكن تلك الأحزاب لا تريد دحر أوهامها. تريد الانتصار والمرتبة الأولى، ولكنها لا ترص صفوفها ولا تبدد غربة أبنائها وبناتها. ما أشبه ما يحدث بمعركتين بين جيشين: واحد يتألف من أبناء البلد، حيث يدافع كل جندي عن شيء ما يخصه شخصيا: أسرته وأملاكه، ثم يدافع عن بلده ككل، بينما يتألف الثاني من مرتزقة قادمين من أماكن بعيدة، ليس خلفهم ما يدافعون عنه. فأي الفريقين أقدر على الصمود؟ وأي الجيشين يستميت في الدفاع والثبات. تلكم هي الحقيقة.

ليس العدالة والتنمية حزبا قويا ولا حزبا جبارا، هو فقط حزب يبدد غربة المنتسبين ولا يعير اهتماما للأنساب والمواقع الطبقية، درجات منصاته ليس محجوزة لفئة دون أخرى، ولا دركات منابره مخصوصة لفئة دون أخرى، هي الدرجات يصعدها الجميع كما الدركات ينزل منها الجميع، فيهما يلتقي المشهور والمغمور، يلتقي من ملأ الدنيا وشغل الناس زمنا وذاك القادم المجهول من بعيد لا يعرفه أحد، لكن غربته تبددت وهو يلج قاعات المؤتمرات واللقاءات، له صوت يدلي به، نعم صوت لا يختلف عن صوت بنكيران والعثماني والرباح والحقاوي. تلكم هي الحقيقة.

تابعت كثيرا من المؤتمرات، وقضيت في حزب آخر ما يقارب نصف سني عمري، وكنت أقول: يا إلهي؟ ما الذي يحدث في هذا الوطن؟ إسلاميون بتنظيم حداثي: منافسة حقيقية وتصويت وانتخابات، ولا أحد يدري من الفائز قبل الإعلان عن النتائج؛ وفي المقابل حداثيون بتنظيمات غارقة في التخلف. كانت مؤتمرات حزبي التي عايشتها مجرد اجتياح للدار البيضاء مثل اجتياح المغول لبغداد؛ حافلات ممتلئة بأشخاص لا يعرفون حتى اسم الحزب، لم ترهم من قبل ولن تراهم بعد، فهم لا يعودون عادة، مهمتهم واحدة: اختيار القيادة والتصويت، هم لا يعرفون لمن سيصوتون ولا لمن سيصفقون، هم شعوب وقبائل لا يتعارفون، بل يتعاركون. كل قبيلة وكل شعب منهم لا يعرف غير الذي استقدمه: يعرف الحاج فلان وسي علان والرايس بن زعتان، إن هتف هتفوا، وإن صفق صفقوا وصفروا، ثم ينهالون على موائد الطعام كالجراد فترتفع سقسقات المعالق وصقصقات الصحون، ثم يغادرون في حافلاتهم. قد يعود بعضهم، ولكن أغلبهم لا يعود. هم ليسوا مناضلين ولا مناضلات، هم فقط يلعبون دور الدخان الكثيف الذي يخفي التلاعبات والمؤامرات والحبكات حتى يصفف القادة شعر الحزب المشعث ويزينون وجهه ببعض الماكياج استعدادا للانتخابات. تلكم هي الحقيقة.

لقاءاتنا، اجتماعاتنا، مؤتمراتنا، مثلها مثل حج الجاهلية: مكاء وتصدية. تلكم هي الحقيقة.

اجتهدنا كثيرا، عملنا، فكرنا، اعتمدنا معارفنا الأكاديمية، تشبثنا بالقانون، حاولنا أن نغير، فعلنا كل ما بوسعنا، لكن اجتياح المؤتمرات كان ينسف كل شيء، يحطم كل شيء، ثم نبدأ من جديد وقد انتزع من أيدينا كل شيء. تلكم هي الحقيقة. وتلكم هي حقيقة القول المأثور في الزعتر والباكور.

 

 

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.