حسن بويخف يكتب:الاحتفاء بكرم “مول الخبزة” .. عقدة نقص أم طلب لمفقود؟

حسن بويخف

فوجئ الراعي محمد المكي، الملقب إعلاميا بـ”مول الخبزة” بالضجة الإعلامية التي اثارها سلوكه العفوي تجاه سائحتين زارتا منطقته الجبلية، وقدم لهما خبزة وحبات تفاح بدون مقابل. وأكد “مول الخبزة” وصديقه الراعي إسماعيل الصالحي لوسائل الاعلام أنهما لم يتوقعا أن يكسبهما تصرفهما العفوي شهرة وطنية وعالمية. والواقع أن “الموجة الإعلامية” التي نشأت حول الراعيين البسيطين تفرض وقفة تأمل في خلفياتها ودلالاتها، لتمييز المنطقي منها من غير المنطقي، وتمييز من أطلقها عمن “ركبها”.

فما هو منطقي في تلك “الموجة الإعلامية” أن من أطلق شرارتها هما السائحتان اللتان وثقتا للقائهما العفوي بالراعيين المغربيين في منطقة جبلية معزولة بالجماعة الترابية تلمي بإقليم تنغير، ونشرتا الفيديو في مواقع التواصل الاجتماعي المعروفة بإمكاناتها الهائلة في توسيع نشر المضامين ذات البعد الاجتماعي الأصيل. والمنطقي أيضا أن وقود تلك الموجة له طبيعة قيمية، حيث أن لقاء السائحتين والراعيين، وخاصة “مول الخبزة” يشكل في الواقع لقاء قيم مختلفة تحكم المعاملات بين الناس، قيم تربط من جهة، اختلاء شابين راعيين بشابتين أجنبيتين في خلاء بإمكانية الاعتداء الجنسي عليهما، وتربط تقديم الخبزة بتقديم مقابلها قيمة مالية. وقيم تربط، من جهة ثانية، ذلك “الاختلاء” بقيم الإحسان إلى عابر السبيل بغض النظر عن جنسه وعمره وجماله وغناه، وتربط تقديم “الخبزة” بكل ما تحمله من دلالة في الثقافة المغربية، بما عبر عنه الراعي محمد بقوله في تصريحات إعلامية “في سبيل الله”.

وقد سجل الفيديو كيف لم تستوعب السائحتان تصرف “مول الخبزة” الذي رفض المقابل المالي على ذلك الأساس. وهذا البعد القيمي الذي ضعف في الغرب وأصبح هناك من “أعمال الأبطال” إضافة إلى أصالة المضمون وبعده الاجتماعي، هو الذي أعطى للفيديو الذي نشرتاه قيمة أصيلة جلبت له انتشارا وإقبالا واسعين. ليكون فضل التوثيق والنشر والروجان للسائحتين الفرنسيتين، وللمضامين القيمية التي يحملها الشريط.

وما هو غير منطقي، هو أن تُخلف الموجة الأولى لشريط “مول الخبزة” هناك “موجة مستنسخة” لدينا في مواقع التواصل الاجتماعي هنا. ونشدد على عبارة “مستنسخة”، لأن ردود فعلنا وتفاعلنا مع سلوك “مول الخبزة” وصديقه الراعي يوحي بأنه سلوك يشكل لدينا أيضا استثناء ثقافيا، مع العلم أن ما قام به الراعيان، وبتأكيد منهما، ليس سلوكا معزولا في منطقتهما عبرا عنه، بل هو جزء من ثقافة منتشرة في مختلف مناطق المغرب الجبلية والقروية. غير أنه في الوقت الذي نملأ فيه صفحاتنا في مواقع التواصل الاجتماعي بالتفاهات والكوارث، لا نقوم بتوثيق الكثير من الممارسات الثقافية الرائعة التي تنتشر هنا وهناك في مختلف مناطق المغرب، ونحتفي بها بيننا لتعزيزها وتوريثها للأجيال الناشئة.

إن المفارقة في هذه النازلة هي أننا أمام “الاحتفاء” باحتفاء الغير بثقافتنا، لذلك تم استنساخ “معنى” ذلك الاحتفاء وكأننا أمام بقايا ممارسات منقرضة، مما يعني أننا عبرنا في الواقع عن مركب نقص تجاه “الآخر”، وكأن ما تم الاحتفاء به، وهو منتشر بيننا بشكل واسع، لم تكن له قيمة كبيرة إلا حين سلط عليه الإعلام الغربي أضواءه وصنفه في خانة “الممارسة الانسانية النبيلة”.

نقول هذا ليس رفضا للاحتفاء بسلوك الراعيان اللذان كانا بسلوكهما خير سفير للشعب المغرب إلى شعوب العالم كلها، بل في “فشلنا” في كيفية التعامل مع الحدث. فالحدث كشف عن عناصر القوة في ثقافتنا وقيمنا الاجتماعية، المطلوب تثمينها وتقييم حظ الاهتمام بتنميتها في السياسات العمومية، وخاصة في الإعلام والتعليم. كما كشف التعامل معه وجود أعمال إعلامية مميزة سلطت الضوء على جوهر الظاهرة، وحملت الدولة مسؤولية رعاية “ثقافة الانفتاح والتعايش السلمي الكريم” وتنميتها. غير أننا نجد الكثيرين إنما يعبرون عن نوع من الانبهار الجماعي بـ”الانجاز الإعلامي” الذي حققه “مول الخبزة”، واحتفاء الاعلام الغربي بذلك. 

أما ما يتعلق بركوب موجة “مول الخبزة” الإعلامية، ففيه عدة نوازل غريبة تتجاوز من نجد بين نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي. وسنكتفي بنازلة واحدة تتعلق بمبادرة وزارة الفلاحة إلى “تكريم” سلوك الراعيين بهدايا من العلف والوعود بإنجاز مشاريع، مكافأة لهما على سلوكهما النبيل! وفي الوقت الذي يستوجب فيه مثل هذا السلوك الانتقاد على أساس كونه يندرج في أعمال شعبوية تستبلد الرأي العام، نجدنا نحتفي مرة أخرى بهذا “الإنجاز العظيم” لوزارة الفلاحة! وكأن باقي رعاة المغرب ومناطقه المهمشة عليها طلب حظها في زيارة سياح أجانب يوثقون تعاملهم العفوي الإنساني الكريم، كي تنفتح أعين وزارة الفلاحة وكرمها عليهم، وربما تنفتح أعين الحكومة كلها لتراهم في معاناتهم اليومية.

لقد استطاعت وزارة الفلاحة بالفعل التلاعب بالرأي العام، فمول الخبزة كان قد انتقدها بشكل عابر في تصريحه في الفيديو المسجل مع السائحتان، مشيرا بالكلمة والإشارة إلى ضعف الدعم الذي تقدمه تلك الوزارة للساكنة، وفي الوقت الذي ينبغي أن يكون تصريح الراعي مناسبة لمساءلة الوزارة والحكومة والدولة عن أوضاع تلك الساكنة، وساكنة باقي المناطق الجبلية والقروية، نجحت الوزارة في تحويل الأنظار عن كل ذلك بتلك “المبادرة” التي قصدت إلى أن تخلق منها حدثا إعلاميا، من حيث حجم المسؤولين الذين حلوا بالمنطقة، ومن حيث حجم المساعدة المقدمة للراعيان، وما واكب ذلك من تصريحات فيها من الوعود الكثير مما ينبغي أن تقوم به الوزارة دون حاجة إلى سائحتين تفضحان سوء المعيش لذى ساكنة المناطق الجبلية. 

إن مكافأة الراعيان على حسن تمثل القيم المغربية الأصيلة، باعتباره ممارسة ينبغي أن تكون من ثوابت السياسات العمومية في مختلف المجالات، وحتى يكون له معنى سياسي أكبر، ينبغي أن يتم من طرف رئيس الحكومة، وأن يكون باسم المغاربة جميعا، لأننا أمام قيم تمثل المشترك المغربي الأصيل، وعلى أساس انها تمثل صورة المغرب التي ينبغي علينا جميعا تمثلها. أما اقتحام وزارة الفلاحة المشهد على ظهر شاحنة علف للتغطية على تقصيرها المفضوح، فهذا ليس أكثر من لعبة ذر الرماد في العيون بالركوب على إنجاز قيمي رائع جسده الراعيان في قمة جبل نائية مع شابتين أجنبيتين تعاملا معهما بأخلاق عالية. إنها صورة المغرب والمغاربة كما ينبغي أن تكون، وليست صورة فلاح أو راع غنم قصرت وزارة الفلاحة في تأمين حاجياته الأساسية كما قصرت الحكومة.

 إن الذي نجح فيه “مول الخبزة” هو بالضبط ما “فشلت” في الحكومة، وهو التعريف بالأصالة المغربية كأحد أبعاد جمال المغرب، والذي نسوقه جبالا وبحارا ووديانا وصحاري، ولا نسوقه إنسانا عزيزا نبيلا شهما منفتحا كريما …

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.