الهلالي يكتب:لغة تدريس العلوم بين التأصيل الدستوري والتبرير البيداغوجي (1)

محمد الهلالي

منذ اعتماد قانون الإطار رقم  51.17 المتعلق بالتربية والتكوين والبحث العلمي  عاد النقاش العمومي حول لغة تدريس العلوم بالمغرب إلى المربع الأول بعدما تضمنتاه المادتان 2 و31 من هذا القانون من شرعنة للعودة إلى فرنسة لغة تدريس العلوم في مخالفة واضحة لتوافقات الهندسة اللغوية التي تضمنتها “الرؤية الإستراتيجية للإصلاح: من أجل مدرسة الإنصاف والجودة والارتقاء”، وفي انتهاك صارخ للفصل الخامس من الدستور المغربي لسنة 2011. 

لقد نصت المادة 2 من مشروع القانون الإطار على مفهوم التناوب اللغوي باعتباره “مقاربة بيداغوجية وخيارا تربويا يستثمر في التعليم المزدوج أو متعدد اللغات، بهدف تنويع لغات التدريس، عن طريق تعليم بعض المضامين أو المجزوءات في بعض المواد باللغات الأجنبية قصد تحسين التحصيل الدراسي بها”.
بينما تضمنت المادة 31 إجراءات تخص الهندسة اللغوية بما فيها ما يتعلق بتنزيل مفهوم التناوب اللغوي حسب صيغة النص التي جاء بها مشروع القانون الإطار، وهي إجراءات متناقضة أولا مع المادة 2 من نفس المشروع، ثم مع ما جاء في الرؤية الإستراتيجية. 

لقد تحول التناوب اللغوي من “تدريس بعض المضامين أو المجزوءات في بعض المواد” إلى  ” تدريس بعض المواد والمجزوءات” أي من إعمال التناوب بين لغة رسمية وأخرى أجنبية بشكل جزئي في مادة واحدة إلى اعمال لغة أجنبية وحيدة في بعض المواد من المنظومة، وهو ليس مجرد خلاف في نطاق أو منسوب هذا التناوب فقط، بل يتعداه إلى إقصاء كلي للغة الرسمية وإحلال اللغة الأجنبية ليس في كامل المواد العلمية والتقنية وحسب، ولكن حتى في مواد أدبية أو مواد مشتركة بين الأدبي والعلمي، كما هو الشأن بخصوص الاجتماعيات والفلسفة وغيرهما، خصوصا أن المادة 31 تحدثت عن بعض المواد واستعملت عبارة “لاسيما” التي لا تفيد الحصر، وذلك عند حديثها عن المواد العلمية والتقنية، لأن هذه الأخيرة هي بعض من مجموع المواد. 

هذا التحوير هو الذي تسبب في “بلوكاج برلماني” قادته الأغلبية الضمنية مسنودة بضغط سياسي شارك فيه “رئيس المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي” الذي تنكر لتوافق جميع المكونات الممثلة في المجلس الذي يرأسه، وذلك عندما خرج عن واجب التحفظ وقام بتوجيه اتهامات مبطنة لمن يدافع عن الوفاء لهذا التوافق بعرقلة الإصلاح، بتأكيده أن “هذا المشروع يصطدم، هنا وهناك، برياح معاكسة، وبمقاومات مناقضة، تارة معلنة وتارة أخرى مستترة”.

لقد كشف هذا النقاش في البرلمان أن الخلاف لم يعد بين رؤية تتشبث بمواصلة تدريس العلوم والتقنيات باللغة الوطنية والرسمية للدولة بعد دسترتها، وبين منظور يدافع عن إشراك جزئي للفرنسية في تدريس هذه المواد لتعزيز القدرات اللغوية للتلاميذ بل أضحى جزء من خطة هجومية لإيقاف أي مسعى لمواصلة جهود تعريب في المرحلة الجامعة، وتحول معها الخلاف المذكور من مطالبة بالإزدواجية اللغوية  في تدريس العلوم والتقنيات ولو بالإشراك الجزئي للعربية في تدريس هذه المواد إلى جانب الفرنسية، إلى دعوة مباشرة لفرنسة كلية للمواد العلمية والتقنية وإقصاء كامل للعربية .

وفي النهاية فقد انتصرت إرادة الفرنسة الكاملة للمواد العلمية والتقنية في المرحلة الثانوية ولاحقا في المرحلة الإعدادية على مجرد إشراك جزئي للعربية بعد تصويت البرلمان وامتناع بعض الفرق المناصرة للعربية على المادتين . فهل ستنتصر هاته الارادة أيضا على مستوى التنزيل العملي والمهني وهل سوف نرى فعلا اختفاء لأعطاب ومشاكل التعليم التي ألصقت زورا بالعربية والتعريب؟ أم أن هذا القرار سيضيف عوامل جديدة الى الفشل التعليمي المتراكم وواستمرار لحالة التأخر في مؤشرات التنمية البشرية التي تصنف المغرب في ذيل الترتيب الدولي منذ عقود . هذا هو السؤال الذي أحيل الجواب عنه على التاريخ وعلى الأجيال المقبلة.

لقد أسهم هذا التصويت البرلماني في العدول عن توافق مجتمعي مؤسساتي إرادي بين المكونات الأساسية للأمة، وتعويضه بتوافق تحكمي برلماني إذعاني تم تمريره ضدا على إرادة الحزب الذي يقود الحكومة وضدا على أعرق الأحزاب المغربية الموجود اضطرارا في المعارضة، وهو ما سيبقي المسؤولية السياسية والتاريخية والقيمية ثابتة على كل من ساهم في اتخاذ هذا القرار وبدرجة أقل على كل من كان يتوفر على إمكانية منع وقوعه وخيب أمال الإرادة الشعبية في هذا القضية المجتمعية .

لقد تحول التناوب اللغوي في الصيغة النهائية للقانون بموجب هذا التصويت من “مصطلح” إلى “مبدأ”، وتغيرت مضامينه اتساعا وشمولا لتتجاوز إشراك لغة أجنبية مع اللغة أو اللغتين الرسميتين بهدف إتقانها وتعلمها من خلال التدريس بها لبعض المجزوءات والمضامين في بعض المواد، إلى إحلال هذه اللغة أو اللغات الأجنبية محل اللغة العربية وإقصاء اللغتين الرسميتين في تدريس المواد العلمية والتقنية، وربما في مواد أخرى أيضا، حيث أصبح التناوب اللغوي “مقاربة بيداغوجية وخيارا تربويا متدرجا يستثمر في التعليم المتعدد اللغات، بهدف تنويع لغات التدريس إلى جانب اللغتين الرسميتين للدولة، وذلك بتدريس بعض المواد، ولاسيما العلمية والتقنية منها، أو بعض المضامين أو المجزوءات في بعض المواد بلغة أو بلغات أجنبية”.

هذا الخلاف حول لغة التدريس يتجاوز البعد التقني والبيداغوجي إلى أبعاد تصورية ومعرفية مؤطرة لأسس ومرجعيات الإصلاح عامة والإصلاح التعليمي خاصة، في تقاطعاته مع المشروع المجتمعي والنموذج التنموي وفي صلته بموقع السؤال اللغوي من طموحات التقدم والتنمية والنهضة.

إن النقاش العمومي لسؤال لغة تدريس العلوم كشف عن وجود رؤيتين متعارضتين: الرؤية الأولى تؤطر اللغة ضمن الثوابت الجامعة ومقومات السيادة الوطنية، والرؤية الثانية تختصر اللغة في بعدها التواصلي وتتعامل معها بمنظور نفعي تغلفه بمبرر بيداغوجي.
يتبع..

 

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.