حسن طارق يكتب: الطفل الذي أعاد تعريف الأمة ومَلَك قلب العالم  

حسن طارق

ربما لم يكن يجمع بين تونس وشفشاون، قبل أيام، غير تشابهٍ آسرٍ بين “الشاون” المغربية و”تستور” التونسية، تشابهٌ لعل اثراً أندلسيا باذخاً مشتركاً قد عمل على تغذيته، أو بالأحرى تقارب آخر صنعته جغرافية الرُّوح بين جبل “العلم” الذي يطل على الحاضرة المغربية وبين جبل “زغوان” الذي يخترقه “واد المحبة” ويطل على “معبد المياه” شمال شرق البلاد التونسية، حيث يشهد تاريخ التصوف رحلة شهيرةً بين الجَبلَيْن، بعد تتلمذ الشيخ “أبو الحسن الشاذلي” على يد “مولاي عبد السلام بن مشيش”.
كان ذلك قبل أيام. أما بعد سقوط “ريان” في الجب فقد تغير كل شيء. لقد تقاسم التونسيون والمغاربة الأنفاس المُحتَبسَة وصلوات الدعاء ورجاء الأمل البعيد وفرحة الإِخراج من البئر ثم أرق ليلة الحزن الطويلة. وفي كل ذلك بدت شفشاون أقرب الى تونس مما تتخيله المسافات المُخْتَصرة فوق ورق الخرائط. 
طوال الأسبوع الأخير، كان سؤال الطفل في الجب، أول ما يطرح علي: عند بائع الخضر في المنزه، ولدى عامل المقهى بشارع الحبيب بورقيبة، كما عند الزملاء في لقاءات العمل الديبلوماسي. 
الأسئلة المشفوعة بالدعاء، والجمل القصيرة التي لا تخفي تضامنها التلقائي، والرغبة في تقاسم مشاعر مختلطة ينتصر فيها رجاءٌ صادق، ثم بعدها جُمَلُ التعازي بكل العبارات المُمكنة هي ما صادفت لدى الأشقاء التونسيين.لكن داخل هذه الموجة من التعاطف كانت هناك لحظتَا تأثر بالغ : مساء الجمعة، عندما سيطرق باب السفارة، مواطنٌ تونسي يحمل اقتراحا لإخراج الطفل واستعدادا تطوعيا للإنتقال فوراً إلى شفشاون، وصباح السبت حين سأُهاتف صديقي الكاتب الصحفي- شافاه الله- للحديث عن  ترتيبات الموعد القريب لعمليته الجراحية الدقيقة، لكنه من قلب انشغاله الصحي سيستدرك مخبراً إياي، أن مقاله القادم يهم الطفل ريان.
كان يكفي الاستماع للإذاعات التونسية، لكي نتابع بدقة مجريات الصراع ضد الزمن في الجبل الصغير لقرية “إغران”، بحثا عن ضوء بعيد ينسل من ظلام البئر المخيف، ولكي نُنْصت لإعلاميين مغاربة من عين المكان، يحاولون العثور على كلمات تصْلُحُ في نفس الآن لوصف المأساة ولتربية الأمل.
أما في تقرير الصحفي “فتحي فالحي” لقناة ميدي1 تيفي، حول تعاطي الشارع التونسي مع الحدث، فقد اكتشفنا أن قلوب الأمهات أكبر ملهمٍ لبلاغة الدعاء وأن كلماتهن – هنا وهناك- تتشابه في القبض على الخيط الرفيع من أمل الحياة.
الواقع أن الأسر التونسية قد تقاسمت تماماً مع المغاربة لوعة الحزن وحرقة الانتظار ثم صدمة الخبر الأخير.
بهذا المعنى كان ريان تونسياً كذلك.نعم لقد كان “ريان” عنواناً لتضامن إنسانيٍ عابر للإنتماءات، موضوعا لصلواتٍ من كل الديانات. تليت دعوات إنقاذه بكل اللغات، وتضرعت لنجاته أيادٍ بكل الألوان، وخفقت لندائه أفئدة من كل الأعمار.
كان “ريان” حاضراً في ملعب الكرة بالإمارات ،وفي ملصقٍ بنفق الميترو بلندن، في صفحات مشاهير العالم وملايينه من “غير المرئيين”، في رسومات الأطفال التي تخلط ألوان العجز بمقادير من الأمل البريء، في نشرات الأخبار ومقالات الصحف، في قصائد شعراء من موريتانيا والسعودية، في وسم صفحات التواصل ومبيانات “الطوندوس”، في حميمية الغرف الصغيرة  للبيوت، في موعظة بابا الفاتيكان، في تفاصيل الحديث اليومي بين الأم وأبنائها، في المكالمات الهاتفية العجلى بين الأصدقاء، في الدعوات الفردية المُرْتجلة لمَا بعد صَلاةٍ خاشعةٍ.
كأن هذا الطفل قد احتل قلب العالم! أو كأن العالم هو الذي أصبح عالقاً في بطن الجبل!
كأن أنفاسنا إختلطت وتداخلت مع الأنفاس المرتبكة والخائفة للطفل القابع تحت الأرض، طيلة الخمسة أيام الطويلة.
أو كأن هذا العالم القاسي والمنقسم واللاَّمبالي، قد تحول إلى هشاشة قلب أم منكسرة أمام طفل مفجوع، بل كأن العالم توقف فجأة عن لهاثه المسترسل ليَنْتَبِه- ولو للَحْظةٍ سريعة- لإنسكاب دمعة حارة على خد طفلٍ مفزوعٍ، أو ليلتَفِتَ – بُرهةً- لجِهَةِ الضمير: حيث يكمن الفرح والفجيعة والألم والطفولة والأمومة والفقدان والحُب، حيث يُوجد الإنساني عميقاً تحت ركام الزّيف والمصلحة والعنف والتفاهة والأنانيات.
لكنه داخل المغرب، كان- بلا مبالغات في اللغة- تعريفا آخر للأمة المغربية. 
الأمة كشراكَةِ أحلامٍ وأحزانٍ، الأمة كقدرٍ يَصْهِر مصائر موّحِّدَةٍ، الأمة كـ”نَحْنٌ” من المشاعر والذكريات والرموز والآلام والإنتصارات، الأمة كالمعنى الوحيد لإرادة جماعيةٍ في عيشٍ مشتركٍ: هي نفسها التي تجلت في فاجعة الطفل “ريان”.
هي نفسها التي تَجَلّت في الجُهد الموصول للسلطات، في التتبع الدقيق لجَلالة مَلِك البلاد، في الطلب الواسع على التطوع للمُساعدة، في تَدُبُّر نساء القرية لوجبات غذاء كريمةٍ لعمال الإنقاذ والمتطوعين ورجال الأمن والصحافة، في وَحدة المَشاعر، في تَقاسُم الدموع ورجَاء الفرج وحزن الفقدان، في معنى أن يُعَزِّي المغربيُّ أخاه المغربيُ بعيد وفاة الطفل، في ملامح الأبطال الذين غامروا في الحفر بحثاً عن الخبر المُفرح، في إصرار سائق آلية الحفر التمسك بالمقود ليل نهار حتى العثور على الطفل ، في الشُّعور المُلتبس الذي خالج  المُتضرعين الى الله في صلاة الاستسقاء وهم ينتظرون غيثاً نافعاً على أمل مُفَارِقٍ بأن تبقى شمس الله الدافئة تحْضُنُ الجبل البعيد حيث  الطفل العالق بين الموت والأمل .
في قلب الفجيعة، كانت هناك أُمٌ مكلومة، وطفل عالقٌ، وبينهما رجاءٌ غامض وإنتظار طويل .
الطفل والبئر والأم، لم تكن مُجرد عناصر مشهدٍ عابر في موجة عاتية لعودة المشاعر الجمعية، لكنها شكلت كذلك مَوْرداً للإستعارات من قلب الذاكرة الثقافية والدينية، وإيحاءات قصص الأنبياء، لذلك كان لابد للرموز أن تُكملَ معالم المأساة.
الألم كان هنا يرتبط بالزمن المُمْتد، والفجيعة ترتبط بالانتظار القاسي المحفوف بالمخاوف والقلق والهواجس.
لذلك تمرن المغاربة على إعادة تعريف المقاييس، وتحول “المِتْر” من مجرد خطوة بلا حساب إلى مسافة جبارة من السنتمترات العتيدة من الألم والخوف، ثم صار التقدم بأربعة سنتيمترات سبباً كافيا لفرح شعبٍ كاملٍ، حتى أن الحفر الأفقي – كما تَعَلّمنا في المعجم الجديد للمأساة- كان محتاجاً لأصابع بشرية بخِبرة عمرٍ كامل في الرّمال، عندما توقفت الخبرة الطوبغرافية وتمّت المناداة على “عمي علي الصحراوي” بآلته البسيطة للحفر اليدوي وملامحه الأليفة، ليتحول الى ايقونةٍ أخرى للحدث.
مات طفل الخمس سنوات، مات بعد خمسة أيام قضاها مُتكوماً في البئر العميقة ومُتوهجاً في جانبٍ مشرق للبشرية، يُراقب من قلب العالم تضامن الإنسانية وصبر الأمهات وملحمة المغاربة الذين حرَّكوا جبلاً لمُعانقة طفل كما كثّفَ عنوان صحفي كلّ الحكاية.
مات الطفل، وترك على قارعة الحياة، أشياءه الصغيرة، وحُلْمَ أن يصبح معلما بالقرية الجبلية الأقدار قررت أن يموت الطفل وأن يتحقق الحلم كبيراً : أن يصبح ريان معلما للإنسانية .
مات ريان الصغير، بعد عبورٍ سريعٍ ومُفجعٍ للحياة، لكن الإسم سيُعمر طويلاً في ضمير العالم، كطفلٍ للبشرية وكوصيةٍ للإنسانية.

مقال لسفير المملكة المغربية بتونس منشور بصفحة السفارة على منصة التواصل الاجتماعي فايسبوك

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.