محمد الشرقاوي يكتب: فرسان التبوريدة الحكومية على أحصنة خشبية

محمد الشرقاوي

لو قُدّر للأرحام الولاّدة في أرض المغرب أن تُنجب مُتنبّيًا جديدًا يتأمّل الأحوال، وينفذ إلى ما وراء الأقوال، ومَنْ مِنَ المفترض أن يُسعف من تلاحق الأهوال، ويقولها في وجه من يمسك مفاتيح الأقفال، لوَقَفَ على ربوة شالّة وأنشد في وجه الريح، الذي ينقل الصدى على طول ضفاف نهر أبي رقراق، بيتًا واحدًا يختزل لعنة السنوات العجاف:
على قدر أهل الشهامة تأتي العزائمُ
وعلى طول المتاهة ينكشف الأقزامُ!
صورةٌ شعريةٌ واحدةٌ تكفي عن مائة تبرير سياسي عندما يقف فرسان التبوريدة الحكومية على أحصنة خشبية، أو بالأحرى “هيئة رئاسة الحكومة” بأقطابها الثلاثة من التجمع الوطني للأحرار والأصالة والمعاصرة والاستقلال أمام الكاميرات في ساعة الحقيقة: إمّا أن يؤكدوا أنهم حكومةٌ مسؤولةٌ وواعدةٌ بحكامة التخطيط الاستراتيجي والاستشراف المتنور وكيفية احتواء الصدمات ومفاجآت الجفاف وارتفاع أسعار النفط والغاز حسب تقلبات السياسة والاقتصاد الدولي، أو أنهم حكومة الوهن والارتباك، فيختبؤون خلف ظلالهم، ويسردون سلسلة تبريرات واستعطافات وتصدير المسؤولية. ويختم رئيس الحكومة المُلْهَمُ بالوعود المنفوخة في انتخابات سبتمبر الماضي بعبارة تلخص “ألمعيته” السياسية وتحدّد مكانته بين رؤساء الحكومات في العالم: “الغالب الله.. نتمنى سقوط الأمطار.”!!
هي قدريةٌ منتقاةٌ يحتمي بها التلميذ في السياسة في تبرير الفشل في اختبار المرحلة، وأن المغاربة يترقبون منه برامج فعالة طارئة للحد من ارتفاع الأسعار وانتهازية التلاعب بالسلع المخزنة والمكاسب غير المشروعة، وحماية القدرة الشرائية لدى أكثر من ثلاثين مليون من ذوي الدخل المحدود والمتوسط. وفوق كل هذه التحديات، أن يجسد ما قد يلهم ثقة المغاربة بأمل الغد في حقبة اللايقين والخشية من تلاقي جفاف الطبيعة، وجفاء الجيران الأوروبيين، وتجويف السياسة، وتجريف أحلام المستقبل.
إذا لم تنفع هذه القدرية في تخفيف انتقادات المغاربة في نظر الرجال الثلاثة، فثمة سردية أخرى جاهزة على الرفّ تلوّح بما يسميه صاحبنا “معطيات تؤكد أن الدولة تقوم مجهودات كبيرة”. فبئس هذه الجماهير الجحود التي لا تعترف بالجميل، ولا تقدّر التضحيات الجسام وسهر الليالي والأيام من قبل حكومة جاءت من الشعب إلى الشعب، ولم تعبّد لها الطريقَ جهاتٌ تعمل من خلف ستار، ولم يتلاعب المال الانتخابي في شراء الذمم والأصوات لترجيح كفتها في الصناديق.
هي حكومةُ عذريةٍ سياسيةٍ خالصةٍ، وعصاميةٌ أيضا في شق الطريق لخطاها نحو تولي المناصب الحكومية أشد من عصامية طارق بن زياد في الوصول إلى أرض الأندلس. وهي حكومةٌ لا تنتظر الشكر والجزاء على تحليها بالشهامة والإيثار في معارك خفية مع شياطين الأسواق العالمية من أجل أن تحمي حمى المغاربة وحرمة جيوبهم وشيكاتهم من وقع تقلبات الأسعار.
لا يستحي المغاربة في عدم التقدير والإجلال لحكومة متمرسة وناجعة في الذود عن مصلحتهم ورفاهيتهم. فكيف لا يحملون رئيس الحكومة على الأكتاف والسير به في الساحات العامة لتخليد انجازاته التاريخية، وهو القائل: “هدشي مكنقولوهش ولكن رغم ضغط كبير على ميزانية الدولة لقادرين به وكنتمشاو به والغالب لله نواجه ظروف عالمية صعبة المتأزمة.”!
قد ينسى أو يتناسى الرجال الثلاثة في هيئة رئاسة الحكومة أن فترات التحديات السياسية والأزمات الاقتصادية تفترض من أي حكومة أن تتحلى بالبرغماتية السياسية، وأن العبرة بالاستراتيجيات والنتائج وليس الحكايات والتبريرات. وتعني البراغماتية السياسية في أبسط تعريفاتها أنها المنحى العملي الفعال في إيجاد الحلول، وأسبقية الطرح الواقعي والخطاب الشفاف على ترهات الأيديولوجيا والنفاق السياسي.
هي برغماتية سياسية تؤكد العلاقة بين الفكر والعمل. وتضم المجالات التطبيقية مثل الإدارة العامة والعلوم السياسية ودراسات القيادة والعلاقات الدولية وحل النزاعات ومنهجية البحث عن مبادئ البراغماتية في مجالات تشخيص المشكل وتحديد وصفة العلاج. فهل يسهل على صاحب نظرية “الغالب الله.. نتمنى سقوط الأمطار” استيعاب فحوى هذه البراغماتية السياسية التي ينطلق منها المسؤولون في الحكومات التي لا تصدّر المسؤولية، ولا تستغل سرديات الغيبيات، ولا تتكل على الصدفة.
الاتكال على الصدفة ينقلنا إلى مغزى الاتكاء على الحائط ودلالته ضمن سيميائية الصورة للرجلين اللذين أسندا ظهريهما إلى جدار صلب اعتقدا أنه يوفر لهما ملاذا آمنا وعضُدا متينا في يوم بئيس في أدائهما السياسي:* واحدٌ ذهبت عيناه إلى الأعلى ما فوق وجوه الحاضرين من الصحفيين، وكأنه يستحضر أرواح الملائكة ليبتهلوا معه من أجل الرحمة ولتخفيف الحزن والمواساة في مصاب أليم جلل.
* آخر شبك يديه في بعضهما بعضا، وسند ظهره إلى الحائط أيضا، وعيناه في حالة تركيز ذهني على نقطة مجردة من أي تلاق مع أعين الحاضرين. هو مشهد الحاضر الذي يفضل الغياب، ولا يشعر بالانسجام مع الجو العام.
ثمة أماراتٌ متشابهةٌ بين نظرتي الرجلين بملامح حزينة وكأنهما في مراسيم جنائزية: أهي وفاة الأمل في حكومة استسهلت متطلبات المرحلة بعد استقبال ملكي، أم عزاء في اقتصاد قاحل وسياسة غير مثمرة؟

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.