يتيم يكتب: ملاحظات منهجية في قراءة تجارب الأحزاب السياسية الإسلامية

محمد يتيم

من خلال متابعتي لتقييم بعض الإسلاميين في المشرق على الخصوص لتجارب بعض الأحزاب السياسية التي تنطلق من المرجعية الإسلامية، ويعضهم خاض تجارب صدامية انتهت بهم إلى التشرد في المنافي، نجد عدة مواقف تحتاج إلى أعادة نظر، مواقف فيها نوع من التشفي في الحركات الإسلامية التي اختارت خيار المشاركة في دول ديمقراطية أو في طريقها للديمقراطية أو ناقصة الديمقراطية، وذلك إما من منطلق رافض لمنطق المشاركة على اعتبار عدم توفر شروطها كما يقولون، علما أن هؤلاء لا يقدمون شيئا ولا يؤخرون في تحسين تلك الشروط، بل بعضهم ينتظر أن تتحسن تلك الشروط كي يشارك،  أو من منطلق اعتبار ما تفرضه المشاركة من منطق الترجيح بين المصالح والمصالح والمفاسد والمفاسد والمصالح والمفاسد بأنه تخلٍ أو خيانة للقيم المرجعية!

وفي مناقشة هؤلاء أقول إنه إذا انتظرنا حتى تتحقق تلك الشروط، أي قيام أنظمة ديمقراطية كاملة الديمقراطية فإنه لن يكون لنا فضل في ذلك، وسنكون حينها ناقصي الخبرة في التعامل مع مؤسسات الدولة الديمقراطية، لأن التدبير فن يُتعلم من الممارسة ومن المحاولة والخطأ، فضلا عن أن إخلاء الساحة سيسهل مأمورية الفساد والاستبداد، في حين أن المشاركة إن لم تحقق كل الآمال تكلف غاليا من أجل فرض سلطويته بما في ذلك عمليات إفساد الانتخابات المكلفة داخليا وخارحيا.

ولذلك رفعنا في وقت من الأوقات في بداية تلمسنا لخسار المشاركة شعار: لأن نشارك ويزور علينا خير من أن نخلي الساحة ونسهل المأموية على الفساد والإفساد..

هناك أيضا صنف ينظر إلى المشاركة بمنطق طهراني يغفل أن المشاركة هي مشاركة مع مخالفين، لهم مصالحهم ومواقعهم ولهم ايديولوجياتهم وأفكارهم واختياراتهم السياسية. وفي هذه الحالة، منطق المشاركة يفرض أن تتعامل مع هذا المعطى بما قد يتطلبه ذلك من تحالفات و”تنازلات” عن مصالح من أجل حفظ مصالح أكبر منها وتجنب جلب مفاسد أكبر.

وإغفال هذا المعطى، يجعل المشككين منا في خيار المشاركة متربصين بالمشاركين في كل منعطف أو صعوبة أو ترجيح تقتضيه قواعد العمل السياسي التشاركي كي يرفعوا عقيرتهم قائلين: ألم نقل لكم؟

والبعض الآخر يتبنى منطق المشاركة السياسية من خلال المؤسسات الموجودة رغم كونها ناقصة الديمقراطية أو طريقها للديمقراطية.. لكن ثقافته الديمقراطية ناقصة أو منعدمة، حيث إنه لو افترضنا أن بعض الانتكاسات الانتخابية للأحزاب المشاركة راجعة إلى تصويت عقابي من الناخبين، فالوضع الطبيعي التعامل معها على أساس أنها جولة من جولات التداول على السلطة وفق المنطق الديمقراطي.

إن الديمقراطية ليست فقط العمل من خلال أحزاب سياسية وليست فقط انتخابات بل هي ثقافة تفترض ضمنيا أن من طبيعة العمل من خلال مؤسسات ديمقراطية أن الانتقال من موقع المعارضة إلى موقع التدبير الحكومي هو أمر عادي ينبغي أن توطن الاحزاب المشاركة نفسها عليه.

فالديمقراطية هي أيضا ثقافة واستعداد فكري ونفسي للانتقال من مواقع التدبير إلى موقع المعارضة.. فما بالك إذا كان الأمر يتعلق بتجارب لم تحقق انتقالا ديمقراطيا كاملا أو مترددة في هذا الانتقال أو هي في طور تحقيقه!!

ومن الطبيعي وفق المنطق الديمقراطي أنه سيأتي على حزب سياسي سواء كان ينطلق من المرجعية الإسلامية أو من مرجعية أخرى زمن ستتآكل فيها شعبيته وتتقلص فيه قاعدته كي تبقى مقتصرة على الحاملين لفكرته وإيديولوجيته، بينما قد تتحول قناعات غيرهم من غير أعضائه وقاعدته، خاصة أن التدبير الحكومي ليس هو اتخاذ قرارات هي دوما على هوى الجمهور. وكما يقول بالفرنسية: أن تحكم معناه أنك ستتخذ قرارات لا ترضي الجمهور gouverner c’ est déplaire.

والواقع أن طيفا واسعا من الحركات الإسلامية حديثة عهد بالتحول نحو مفاهيم المشاركة بمنطق الدولة الحديثة لا تتصور أن يتراجع حزب سياسي ذو مرجعية إسلامية بالنسبة لمنتسبي التيارات والحركات الاسلامية، انطلاقا من اقتناع أن هذه الأحزاب هي أقرب إلى هوية وثقافة الشعوب الإسلامية وتعتبر ذلك كارثة وقد ينظر بعض المشككين في منطق المشاركة لذلك بمنطق التشفي ويرفعون صوتهم قائلين: ألم نقل لكم!

وعلى الرغم من أن كثيرا من القيادات الفكرية والسياسية للحركات الإسلامية قد أنجزت جهدا كبيرا على المستوى النظري فانتقلت من فكرة إقامة الدولة الاسلامية أو دولة الخلافة حسب البعض، إلا أن بعضا منها بقي بعيدا عن منطق العمل السياسي في ظل أنظمة ديمقراطية القائمة على التعددية والتناوب على السلطة ووجود توجهات سياسية وخيارات وبرامج اقتصادية واجتماعية متنوعة ومتعارضة أحيانا، وأقرب إلى النظر إلى الحزب السياسي “الإسلامي” وكأنه هو الذي يمتلك الحقيقة و بيده الحل..

وبناء على ذلك يتم اعتبار أي تراجع انتخابي بمنطق التداول الديقراطي والثقافة الديمقراطية وكأنه نكسة أو ناتج عن تخاذل وإخلال، بل قد يصل الأمر إلى وصف الأحزاب المتراجعة بمنطق انتخابات مشكوك في مشروعيتها أو حتى لو كانت نزيهة بخيانة القيم المرجعية المؤسسة لها..

علما أن السياسة في التعريف المعاصر هي فن الممكن كما أنها في المرجعيات الفكرية الإسلامية هي “ما كان الناس أقرب معه إلى الصلاح وأبعد من الفساد”، وأن المصالح والمفاسد في الممارسة السياسية هي بالطبيعة متلبسة بعضها ببعض، وأن الخيارات في السياسة أحيانا ليست بين جلب المصالح ودرء المفاسد بل بين المفاسد وبين المصالح، وأن الممارسة السياسية هي أحيانا فن تفويت لمصالح من أجل جلب مصالح أكبر، وفن جلب بعض المفاسد من أجل تفويت مفاسد أعظم. وهذا مضلة أفهام ومزلة أقدام ومحترك ضنك ومرتقى صعب ليس ميسورا دوما للجميع وفي جميع الحالات.

ومن غريب الأمور أن الناس في حياتهم الشخصية ومصالحهم الأسرية والعائلية يتجوزون ويقبلون بهذا المنطق ويرفضونه حين يتعلق الأمر بهيئات سياسية مشاركة تعمل في واقع معقد ومركب تحاول بين فرث ودم أن تستخرج لبنا خالصا للشاربين..

وأخيرا ينبغي لمن يحكم على تجارب المشاركة أن يكون قد كابدها وعاينها كي يعلم كم من باب من أبواب الشر قد سد بالمشاركة وكم من باب من أبواب الخير فتح… وليس من رأى كمن سمع ومن كابد كمن نظر للمشهد من بعيد.. وكما قال الدكتور المقرئ أبو زيد: “فرق بين السباحة على الرمال والسباحة في أعالي البحر”.

والواقع أن شعار المناضل العامل من أحل الإصلاح هو قول شعيب: “إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله”، و”من أراد أن يستنزل شيئا في غير زمانه لم يترك من الحمق شيئا” كما يروى عن أبي عطاء الله السكندري “.

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.