حدوثة إسرائيل، وأساطير الآخِرين

نور الدين العوفي

عن أساطير الأولين لدينا في القرآن الكريم فصْلُ الخِطاب. وأما أساطير الآخِرين فهي نسْجٌ  مُحْدَث ل “حدوثة إسرائيل“. نسجٌ، كنَسْج العنكبوت، لسردية متهافتة، مرتبكة، واهية،كاذبة وخاطئة، يسعى المكْر السَّيِّء، الصهيوني، إلى بيعها، بيع غرر، في حُلَّة قشيبة على امتداد أسواقنا العربية النافقة. ولعله قد أفلح في ذلك إلى حد بعيد، إذ لم تعد ثمة من حاجة إلى بيع ولا إلى خُلَّة. تمنح الحدوثة الجديدة ل « الحداثيين الجدد » صك الحداثة، والمعاصرة، والجِدَّة، وتُزْجي لهم ما به تطمئن القلوب. “وكلُّ ذي جِدَّة يَبْلَى إذا لعِبتْ/به الليالي وسارت دونه الحُججُ” (لسان الدين بن الخطيب). وإذا كانت  أساطير الأولين تتوسَّل ب“ما وجدوا عليه آباءهم“، فإن أساطير الآخِرين  تتوسَّل بما يُردِّدُه، بلا كلل، الخطاب المُسْتلّ، كالسيف، من غمد “الوعي الشقي“.

في البدء كانت فلسطين، فلسطينية أباً عن جدّ، عربية وطناً وشعباً،  إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. هذا البدء لا يمكن أن تُغفله الخرافة المجنحة، ولا أن تجُبَّه الفرْية التي فراها الميتوس الصهيوني، كذباً، على الدين كله، وعلى الناس أجمعين. أُسْطورة “الآخِرين” انْطلت على الحداثيين الآخِرين فغدوا، وهم يتسللون من التاريخ لواذاً، لا يرون في الاحتلال احتلالاً، واغتصاباً، وأخْذَ عَنوة. بل إنهم لم يعد يرون، مُهْطعين، سوى دولة متقدمة، حديثة، حداثية، تحكمها أنساق ديمقراطية، تُحْدق بها من كل حدب وصوب بلدان عربية، تقليدية، ماضوية، متخلفة، يُلْجمها الاستبداد، ويشلُّها الجهل؛ بلدان تود شعوبها لو ترمي بها في البحر، إن استطاعت إليه سبيلاً. حداثة من وجه؛ احتلال، فصلٌ عنصري، استيطان، نهبٌ واضطهاد من وجه ثانٍ. الديمقراطية والاحتلال، هل يستويان؟ وهل يجتمعان أيها الحداثيون الديمقراطيون الآخِرون؟  

من أساطير الآخِرين التي يسْتطيبها « الحداثيون الجدد »، ويُعيدون إنتاجها بأحسن منها أسطورة الأولين التّلْمودية، أي “الصاع بالصاعين“، التي تحولت، منذ ١٩٤٨،  إلى أسطورة “الحق في الوجود“، و“الدفاع عن النفس” عند الآخِرين. “الوعي الحداثي المهزوم” لا يهنأ له بال حتى يُقْنِع الذات القلقة، المضطربة، المهتزة، بأن الميتوس هو اللوغوس، وأن حقَّ فلسطين بات محكوماً ب“حقِّ  إسرائيل“، في آخر التحليل. بل إن الثاني شرط، “شرط عقلي“، للأول.  ذلك أن “إسرائيل“، كما يزعمون، “ماهية ملحوظة بوجودها“، و“غير مُقيَّدة بشيء” . 

الأسطورة الفجة والمنتفخة هذه هوَتْ، من عُلو إلى سُفْل، خلال “أحد عشر يوماً هزَّت العالم” (محمد الحبيب طالب) تحت وابل المقاومة الفلسطينية. تلك“القوة“، التي قيل إنها “لا تُقهر“، تأوَّهت، وترنَّحت، وبان “كعب آخيل” للعيان. هل غاب عن « الحداثيين الآخِرين » أن الاحتلال فعلٌ بغيض، والمقاومة فريضةٌ وجودية، وأن في الاحتلال قتلٌ للناس جميعاً، وفي المقاومة حياة، وأن الاحتلال أعلى درجات الإرهاب. أما المقاومة، بفصائلها وأشكالها كافة، فهي أحق الحقوق، وأسْلك الطرق نحو التحرر، والانعتاق، والسلام. إسرائيل، الدولة اليهودية، تختزل المقاومة الفلسطينية في حركة حماس الإسلامية. أسطورة أخرى، مُضمَّخة بخضاب العلمانية، والحداثة، إسْترطها « الحداثيون الآخِرون »، ولم يفطنوا إلى أن في معركة « سيف القدس »  اجتمع شعب فلسطين، بكافة مكوناته، على مقاومة سواء، لا فرق بين من بيده بندقية، وبين من “(ي)ستل من تينة الصدر غُصْناً/ويقذفه كالحجر/وينسف دبابة الفاتحين” (محمود درويش).

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.