قربال يكتب : الرأي العام والسياسة العامة

نور الدين قربال* يكتب : الرأي العام والسياسة العامة 

 أحدثت الديمقراطية التشاركية والمواطنة وسياسة القرب طفرة نوعية على مستوى انخراط المواطنين في رسم السياسات العمومية، وتقويمها ومتابعتها.

لذلك اعتبر دستور 2011 الاختيار الديمقراطي ثابتا من ثوابت الأمة، سيما عندما نستحضر اللامركزية واللاتركيز في إسهامهما في تفعيل أكبر عدد ممكن من جمعيات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية والرأي العام المحلي والوطني، وفي ذلك إحياء للمساهمة الفاعلة في البناء التنموي عن طريق برسم السياسات العمومية، ومنح دينامكية للفعل المدني.

إن هذا الاختيار يدعم الرأي العام من أجل الانخراط في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، ذلك لأن تدبير الشأن العام والانخراط في الحياة الوطنية ليست ملكا لأحد.لأن المبدأ المعتمد في هذا المجال هو الحرية واحترام القانون والمبادئ الديمقراطية.

ومن أجل تفكيك هذه العلاقة وتثبيتها بين الرأي العام والسياسات العمومية يمكن اعتماد المقاربة التالية:

1/ التأطير القانوني : 

بالعودة إلى الدستور المغربي لسنة 2011 نجده يركز على معطيات مهمة يمكن إيجازها في النقط التالية:

– في إطار الديمقراطية التشاركية تساهم الجمعيات المهتمة بالشأن العام والمنظمات غير الحكومية إعداد قرارات ومشاريع لدى المؤسسات المنتخبة والسلطات العمومية.

– واجب أن تخضع صناعة القرارات والمشاريع وتفعيلها وتقويمها بناء على القانون والاختيار الديمقراطي.

– تنظيم الرأي العام في هيآت تشاورية من ترشيد عملية وضع وإعداد السياسات العمومية وتفعيلها وتنفيذها وتقييمها.

– إذا اقتضى الأمر تغيير مشاريع قوانين من أجل تبسيط طرق عمل الرأي العام في تقديم عرائض السياسات العمومية فمن حق الرأي العام تهيئ ذلك.

– تحمل مسؤولية التضامن الوطني من قبل الجميع بما فيهم الرأي العام من حيث الوسائل والتكاليف التي تتطلبها تنمية البلاد.

– يمكن للمواطن الدفع أمام المحاكم الدستورية تشريعا مخالفا للحقوق والحريات المثبتة في الدستور، ومن أهمها الحق في بناء وتفعيل وتقويم السياسات العمومية.

– إشراك الرأي العام في تدبير شؤونه بناء على منطق التعاون والتضامن والمساهمة في التنمية البشرية المندمجة والمستدامة.

-يفرض على الجماعات الترابية إحداث هيآت للتشاور بغية إعداد برامج للتنمية و تتبعها.

وركز الدستور على مؤسسات وهيآت حماية الحقوق والحريات والحكامة الجيدة، والتنمية البشرية والمستدامة والديمقراطية التشاركية وهيآت حماية حقوق الإنسان والنهوض بها.

ويمكن اعتمادا على ذلك للرأي العام أن يُسْهم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في تشكيل الهيآت التالية : مجلس المنافسة- الهيأة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة- المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي- المجلس الاستشاري للأسرة والطفولة- المجلس الاستشاري للشباب والعمل الجمعوي- المجلس الوطني لحقوق الإنسان- الوسيط- مجلس الجالية المغربية بالخارج-الهيأة المكلفة بالمناصفة ومحاربة جميع أشكال التمييز- الهيأة العليا للاتصال السمعي البصري.

إن الدراسات القانونية والتنظيمية تعطي الفرصة للرأي العام للتدخل في رسم معالم السياسة العامة للبلد انطلاقا من الهيآت السياسية والنقابية والمدنية وكل ما له علاقة بالجماهير. لكن بناء على تشكيل مؤسسات.

وأبدع القانون الدولي في هذا المجال، من خلال القوانين المنظمة للديمقراطية التشاركية وديمقراطية القرب.

وهذا ما يُعطي للمجتمع المدني الإسهام في مخططات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ورسم سياسات عمومية.

ومن الدول من نظم هذا الأمر عن طريق اللجان المحلية والوطنية والاستفتاءات الخاصة والعامة، حول قضايا متعددة ومتنوعة، وتوظيف كل العرائض من أجل الوصول إلى هذه النتائج المؤسسة لرأي عام متعاون فيه بين السلطة السياسية الرسمية و سلطة الجماهير.

أما على الصعيد الأممي فهناك مواثيق دولية تؤكد على الأخذ بعين الاعتبار إشراك الرأي العام في رسم السياسة العامة، ويبقى المجلس الاقتصادي والاجتماعي الأممي نموذجا لمناقشة قضايا الرأي العام في علاقته بالسياسة العامة، من أجل ترشيد القرار الأممي قبل أن يصبح معمما على سائر بلاد الأرض، وسيجد مكانه في الدول التي تعلو فيها القوانين الأممية على القوانين الوطنية. والنماذج متعددة في هذا المجال خاصة سويسرا التي تعطي للمجتمع المدني الدور الأساسي في صنع السياسة العامة.

2/ العلاقة بين الرأي العام والسياسة العامة: 

إن منطق التأثير والتأثر بين الطرفين راجع إلى الدينامية الحاصلة داخل هذه الدائرة، ولن يتحقق هذا إلا بوجود نظام سياسي ديمقراطي وقنوات قانونية وتنظيمية تؤهل الرأي العام لخوض غمار صناعة السياسة العامة…وهذا ما يجعلنا أولا اعتماد آليات الترشيد داخل صفوف مكونات الرأي العام ، وبناء بنية تحتية ديمقراطيا سياسيا ودستوريا.

لقد عرف اليونان الديمقراطية بحكم الشعب ومن هو الشعب إلا الرأي العام، ولهذا فاسهامه في السياسة العامة مرتبط بدوره الديمقراطي وليسا صدقة من الفئات الحاكمة، والسؤال المطروح: هل الرأي العام مساهم في السياسة العامة أم بيده القرار السياسي؟

قديما كان دور الرأي العام غالبا استشاريا، أما اليوم فهو مساهم في صناعة السياسة العامة وتتبعها وتقييمها..شريطة أن يكون القانون منظما للكيفيات والشروط، خاصة مع التطور الذي عرفته الديمقراطية التشاركية المكملة للديمقراطية التمثيلية وديمقراطية القرب.

ومن أهم هذه الشروط نذكر ما يلي:

– ضرورة احترام السياق وطبيعة القضايا المطروحة ومجالات تدخل الري العام..

-نهج طريقة التشبيك بين المكونات الجماهيرية والتنسيق فيما بينها حتى يتم التأثير المباشر في السياسة العامة.

– التركيز على البعد التكويني والمعرفي لفاعلي الرأي العام حتى يتم التناغم بين السلطات العمومية والهيآت المنتخبة ومؤسسات المدنية.

– الحذر من تحويل مساهمة الرأي العام إلى جماعات مصالح تستغل النوافذ القانونية من أجل قضاء المآرب الذاتية.

– اعتماد الرأي العام طرق متعددة من أجل المساهمة في السياسة العامة عن طريق الفعل الحواري وتقديم عرائض وتسجيل ملاحظات…وفي حالة رفض ذوي القرار السياسي هذا العمل المدني يمكن أنذاك القيام بطرق ضاغطة خاصة عندما يتعلق الأمر بمصلحة عامة للبلاد.

– الشعور الدائم بالجدلية الحاصلة بين الرأي العام والسياسة العامة عن طريق الفعل والتجاوب والدينامية.

– المساواة والمناصفة والتوزيع العادل لآليات الإعلام والدعاية والاتصال بين الجهاز الرسمي والمدني الجماهيري بحجة أنها سلطة والتي تعني التوزيع الموضوعي لقيم الديمقراطية والتي يشكل الإعلام والاتصال عمقا لها.

إن مشاركة الرأي العام في صنع السياسة العامة ثقافة يجب أن نتعود عليها وننشئ الأجيال على تمثلها، وهذا مرتبط بانتخابات نزيهة تفرز مؤسسات منبثقة من صناديق الاقتراع. لأن هذه البنية المشروعة ستكون عادلة في التعامل مع الرأي العام، وتوسع مجالات عمله.

وأهم هذه المحطات وجود مؤسسات منتظمة تنظم التفاعل بين القطبين:الرأي العام والسياسة العامة، وبذلك يساهم هذا التنسيق في تطوير التغيير الاجتماعي.

ومن الواجب إحداث التوازن بين مجالات الرأي العام والسياسة العامة ومأسساتها..إذن ما هي الميكانزمات المؤهلة لتوسيع مشاركة الرأي العام في السياسة العامة ؟

أولا لابد من تحديد المسؤوليات لكل الفاعلين حتى نتجنب التداخل بين السلط، والاختصاصات الذي يعيق هذه العلاقة، وهذا مرتبط بتوسيع المشاركة في الحياة السياسية بناء على احترام الديمقراطية والحريات والحقوق، ورغم أن تطور الظروف أصبح يفرض اتخاذ القرارات السياسية المستعجلة فلابد من حضور مشاركة الرأي العام خاصة في القضايا المصيرية…ومن تم هناك ضرورة لامتلاك الرأي العام الرؤية الاستباقية للقضايا المطروحة خاصة وأن الهيآت الرسمية تمتلك بنيات العمل.

وهذا يتطلب من منظمات الرأي العام ومؤسساته النظر في واقعها الداخلي من حيث الدمقرطة والتكوين والتأهيل والفاعلية والتأثير والتأثر الايجابي والتقويم المستمر.

إن الفلسفة المؤطرة لأدوار الرأي العام تحتم عليه المعرفة لأن علاقته بالسياسة العامة تساهم في السلم داخل التجمع الإنساني، ويقلص من تسلط الحاكمين، ولا غرو أن تطور وسائل الإعلام والاتصال ساهمت في اهتمام الرأي العام بالشأن المحلي والوطني.

ولا ننكر دور المجتمع المدني في هذا الباب، الذي أصبح يشكل سلطة خامسة، ألم يعتبر “نيكر” الرأي العام حائلا دون استخدام القوة..ونظرا لهذه العلاقة التي تجمع بين الرأي العام والسياسة العامة فقد أقحم هذا الموضوع ضمن دراسة النظريات السياسية، لأن هذا الموضوع له علاقة بالسيادة والقانون بلغة “جيرز دورف”.

وكلما كانت الجماعات منظمة إلا وأثرت في الرأي العام، ولا شك أن هناك علوما متعددة تتدخل في هذا المجال.

نخلص من خلال التعريف المرتبط بالسياسة العامة والرأي العام أن هناك علاقة دائرية وجدلية بين الدلالتين ويشكلان دورة اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية.

وهي مرتبطة بالأجيال الحقوقية الأممية والتي تتجلى في المدني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والبيئي والتنموي..وليس من الضروري أن يفرض طرف على الطرف الآخر أطروحاته..بل لابد من التوافق والتقارب…حتى يجد كل واحد نفسه في القرار المتخذ.

إن هذه الثقافة المشتركة تؤهلنا إلى عالم السلم والتعايش وخوض غمار الدبلوماسية الخارجية برؤية موحدة.

لأن الرأي العام مرتبط بالقانون والسيادة وكلما كانت الجماعات منظمة كان لها تأثير على الرأي العام..كما تؤثر جماعات الضغط في هذا المجال…ولكن ماذا يريد الناس؟ يجيب أبراهام لينكولن قائلا :”إن ما أريده أن يتم هو ما يريده الناس أن يتم..والسؤال في نظري هو كيف أعرف ما يريدونه على وجه الدقة.

ونؤكد أن معرفة ما يريده الآخر بكل التفاصيل مستحيل ولكن بهذه العلاقة تتم الدورة الديمقراطية.

ويذهب “شكسبير” إلى أن الرأي العام هو الجواد الذي يمتطي الحاكم صهوته” وأضيف أن الحاكم الديمقراطي عامل استراتيجي لانخراط فاعلي الرأي العام في صناعة السياسة العمومية وركوب صهوة جواد واحد.

إذا الرأي العام سند للمؤسسات الرسمية، وإذا أنكرت هذه الأخيرة هذا الدور فإن المستفيد الأول الشرخ الاجتماعي، وضياع مصالح الأمة، مُستحضرين دور الجماعات الضاغطة ووسائل الاتصال.

لأنه أحيانا يتحفظ ذوي القرار السياسي من الرأي العام كونه قوة ضاغطة، لذلك هنالك ضرورة وجود الثقة بين الأطراف، ولن يكتفي في هذا البعد القيمي فحسب ولكن هناك ضرورة تقنين ودسترة مؤسسات العمل.

*باحث في العلوم السياسية 

 

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.