معروف يكتب: مسيرة الأعلام ومعركة السيادة في القدس

عبد الله معروف

لم يكن المشهد الذي خرجت به الأحداث كافياً للحكم بنجاح مساعي رئيس حكومة الاحتلال نفتالي بينيت وأهدافه التي رسمها. وفي هذا الصدد ينبغي الإشارة إلى أن ما حدث في ذلك اليوم كان حدثين منفصليْن عمليّاً وإن كانا مرتبطَيْن نظرياً: الأول كان اقتحام المسجد الأقصى المبارك صباحاً، والثاني كان مسيرة الأعلام الإسرائيلية في منطقة باب العامود وطريق الواد في البلدة القديمة.

الفصل بين الحدثين ضروري في الحقيقة لتحليل تداعيات اليوم وتفاصيله ونتائجه، فاقتحام المسجد الأقصى المبارك يُعتبر مسألةً دينيةً مختلَفاً فيها بين الطوائف اليهودية المختلفة، بخاصة بين الحاخامية الكبرى لدولة الاحتلال التي تحرّم على اليهود اقتحام الأقصى من ناحية، وما يسمى “مجلس السنهدرين الجديد” الذي يمثّل حاخامات مستوطنات الضفة الغربية الذين يمثّلون تيار الصهيونية الدينية من ناحية أخرى.

ولذلك فلا إجماع على مسألة الاقتحام دينياً. وفي المقابل، فإن مسألة اعتبار القدس العاصمة القومية لدولة الاحتلال تُعتبر محل إجماع بين مختلف شرائح المجتمع الإسرائيلي بكل توجُّهاته وأفكاره الدينية والعلمانية القومية، ولا نكاد نرى خلافاً بين الطبقة السياسية الإسرائيلية على موضوع ما يُسمَّى “وحدة القدس”.

ويُستثنى من ذلك بعض التيارات التي باتت ترى أن عدم القدرة على السيطرة على القسم الشرقي من المدينة المقدسة بعد 55 عاماً من الاحتلال جعلها تتحول إلى طعنةٍ في خاصرة دولة الاحتلال الإسرائيلي، دون أن تطرح حلولاً لهذا الأمر، ربما خوفاً من أن تصل إلى الحلّ المنطقي الطبيعي وهو الانسحاب من شرقي القدس.

وعلى ذلك فينبغي النظر في نتائج الحدثين كل على حدة، وفي هذا الصدد يمكن القول بتجرّدٍ إن الاحتلال نجح صباحاً بالفعل في إعطاء صورة نصرٍ له في المسجد الأقصى المبارك، وذلك لأن المقصد الأساسي الذي أعلنته الجماعات اليمينية المتطرفة من اقتحام “يوم القدس” في المسجد الأقصى هو جمع أكبر عدد ممكن من المتطرفين في الأقصى بحيث يتجاوز مجموعهم 2000 مستوطن في يوم واحد، وأداء الطقوس الدينية علناً ورفع العلم الإسرائيلي في المسجد الأقصى المبارك.

وحددت هذه الجماعات هذه الأهداف بناءً على تقييمها لحالة الفشل التي مُنيَت بها في شهر رمضان المبارك خلال اقتحامات عيد الفصح التي شهدت تراجعات وتوترات كثيرة على يد الشباب المقدسي الذي اعتكف في المسجد الأقصى المبارك، بما جعل هذه الجماعات تقيّم وضعها على أنه فشل بالمجمل في رمضان، ومن هذا المنطلق يمكن القول إن ما جرى صباح الأحد في المسجد الأقصى يُعتبر وفق تقدير هذه الجماعات المتطرفة “انتصاراً” لأنها تمكنت من تحقيق الأهداف التي أعلنتها.

فمشهد رقص المتطرفين داخل المسجد الأقصى المبارك غير مسبوق منذ 55 عاماً، كما أن أداء متطرفي اتحاد منظمات المعبد بعض الطقوس جماعياً مثل ما يسمى “السجود الملحمي” لم يحدث بهذا الحجم في الأقصى. وقابلتها لا مبالاةُ شرطة الاحتلال، بل في فترةٍ معينة سمحت لمجموعةٍ من المتطرفين باقتحام الأقصى قبل إغلاق فترة الاقتحام الصباحية بأربعين دقيقةً بصحبة أعلام الاحتلال، وسمحت لهم برفع أعلام الاحتلال داخل المسجد الأقصى المبارك. وعلى الرغم من التفاوت الكبير بين تقديرات شرطة الاحتلال حول عدد المستوطنين الذين اقتحموا المسجد الأقصى (2626) وتقديرات دائرة الأوقاف الإسلامية (1687)، فإن الصورة التي ظهرت كانت تبيّن أن الأعداد كبيرة بالفعل، وهو ما جعل هذه الجماعات تنتشي فرحةً بالفعل.

إن ما جرى في المسجد الأقصى صباح “يوم القدس” أكّد أن ما يُسمَّى “اتحاد منظمات المعبد” ومنظمة “بيدينو” المتطرفة باتوا يتمتعون بقدرةٍ عاليةٍ على تهديد نفتالي بينيت لدرجة إجباره على فتح المجال لهم للعربدة داخل المسجد حقيقةً لا مجازاً.

وهذا الأمر سيكون له ما بعده في رأيي، بخاصة ونحن نتحضر الآن لموسم الاقتحامات الثالث القادم بعد عدة أيام، وتحديداً يوم 5 يونيو/حزيران في ما يُسمَّى “عيد نزول التوراة/شفوعوت”، وهو من مواسم الحج الكبرى إلى المسجد الأقصى لدى هذه الجماعات المتطرفة، وعندها يمكننا إعادة تقييم مدى نجاح هذه الجماعات في إرساء معادلتها الجديدة التي تحاول تثبيتها في الأقصى، وهي معادلة “حق العبادة” بعد ضمان “حق الزيارة”.

هذا على صعيد اقتحام المسجد الأقصى، أما على صعيد ما يُعرَف بمسيرة الأعلام التي أعلنها اليمين الإسرائيلي بزعامة نتنياهو وبعض أركان حكومة بينيت في منطقة باب العامود، فإن التقييم لهذه المسيرة ينبغي أن يكون مختلفاً تماماً عن تقييم عملية اقتحام الأقصى صباح ذلك اليوم.

فهذه المسيرة تُعَدّ في الحقيقة فشلاً ذريعاً لحكومة الاحتلال قبل حتى أن تبدأ، وسواء تمّت أم لم تتمّ، فإن مجرد الإعلان عنها والجدل الكبير الذي دار حولها في أروقة حكومة الاحتلال وفي المجتمع الدولي يُعَدّ في الحقيقة فشلاً كاملاً، بل فضيحةً كبرى لدولة الاحتلال الإسرائيلي في محاولتها “تأكيد” سيادتها على القدس.

أيّ دولةٍ في العالم تعلن حالة الطوارئ وتغلق الطرقات وتنشر آلاف عناصر الشرطة وتستنفر جميع أجهزة الدولة لأجل أن ترفع علمها الوطني في عاصمتها التي تدعيها؟!

أي شخص منا يحاول تخيُّل ذلك في عاصمته لا بد أن يستغرب ثم يستغرق في الضحك! فلا يمكن اعتبار كل هذه العملية العسكرية الإسرائيلية الواسعة “سيادةً” على مدينة القدس، بل بالعكس، إن اتخاذ كل هذه التحضيرات والحراسات ومنع المقدسيين من الاقتراب من هذه المسيرة مئات الأمتار ونشر الحواجز وغيرها فقط لأجل رفع العلم الإسرائيلي في القدس يُعتبر إعلاناً إسرائيلياً غير مسبوق بأن إسرائيل لا تشعر أن القدس عاصمتها كما تدّعي.

فأنت لن تجد مثل هذه التحضيرات في مدينة مثل تل أبيب على سبيل المثال، والتي تُعتبر فعلياً أقرب من القدس لأن تكون “عاصمةً” لدولة الاحتلال بما فيها من عمقٍ يهوديّ فعليّ. وجاء نشر المقدسيين لأكثر من ثلاثة آلاف علم فلسطيني في أرجاء القدس وطيران أحدها بطائرة مسيَّرة فوق جموع المتظاهرين الإسرائيليين ليضيف مشهداً آخر لفشل إسرائيل في إظهار الصورة التي أرادتها في القدس نهائياً، وهو ما عبّر عنه الصحفي عاميحاي أتالي في يديعوت أحرونوت: “يجب أن نتوقف عن الكذب، لأن مسيرة الأعلام أثبتت أن القدس ليست موحَّدة، ولا يوجد سيادة إسرائيلية عليها، وتمّت بفضل حماية الشرطة، ولا يوجد يهودي واحد يجرؤ أن يسير بها وحده”.

عاميحاي أتالي اختصر المشهد بالكامل في تعليقه على الأحداث عصر ذلك اليوم، فإسرائيل وإن كانت نجحت في اقتحام المسجد الأقصى المبارك واستباحته صباح ذلك اليوم، فإنها فشلت في الاختبار الأخطر والأصعب في شوارع القدس وفي باب العامود، فلم تظهر بصورة الدولة التي تحتفل وترفع علمها في “عاصمتها” المزعومة، بل ظهرت صورتها الحقيقية: احتلال بشع يحاول إلصاق نفسه بالمدينة المقدسة بالقوة والغطرسة، فيما يلفظه كل شيء في المدينة المقدسة، من سمائها إلى حجارتها، وهذه الصورة لن تنجح إسرائيل في تنظيف نفسها منها مهما فعلت، ببساطة لأنها كانت وستبقى قوة احتلال غير شرعي لا أكثر.

عن TRT عربي 

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.