الاستدعاء “الإسرائيلي” لخطاب الانهيار والزوال: أسبابه ودلالاته

عدنان أبو عمر

في الوقت الذي تبدو فيه “إسرائيل” وكأنها في تمدد جيوسياسي في المنطقة والعالم بانخراطها في الأحلاف والاتفاقيات السياسية والعسكرية والأمنية، فإن واقعها الداخلي لا يتوافق مع ذلك؛ حيث شهدت إسرائيل في الأشهر الأخيرة تزايدًا مطردًا في صدور تحذيرات من تفاقم المخاطر المحدقة بها، وبدا لافتًا استدعاء أحداث تاريخية قبل قرون، شهدت فيها سقوط “الممالك” اليهودية في حينها، والتحذير من تكررها. وقبل هذه التصريحات كان قد صدر، في مايو/أيار 2021، كتاب، للكاتب الإسرائيلي، آرييه شافيت، بعنوان “بيت ثالث: من شعب إلى قبائل إلى شعب”، يحلِّل فيه أوجه إخفاقات “إسرائيل” خلال أكثر من سبعين عامًا من إنشائها، ويبحث أهم تهديد وجودي لها ألا وهو مواجهة الصراعات والنزاعات الداخلية، وكيف يمكن إعادة جمع “إسرائيل” على رؤية واحدة، على اعتبار أنها الفرصة الأخيرة للشعب اليهودي(1).

تبحث الورقة في سبب استدعاء هذا الخطاب -حول الانهيار والزوال- في إسرائيل في الآونة الأخيرة للتحذير من نهاية “الدولة”، والذي جاء على ألسنة العديد من قادتها، وماذا يعني ذلك، لاسيما في هذا الوقت الذي اجتمعت تهديدات عدة على إسرائيل في آن واحد، وفي وقت بلغ فيه انقسام الدولة الداخلي مرحلة متقدمة، دون أن تستطيع الانتخابات المتكررة حسمه أو إنهاءه، بل ربما تسببت في مفاقمته.

تحذيرات ومخاوف

غصَّت وسائل الإعلام “الإسرائيلية” في فترة زمنية متقاربة بجملة تحذيرات صادرة عن أبرز قادة الدولة، من مختلف المستويات: السياسية والعسكرية والصحفية، وأجمعت على أنها تعيش لحظات حاسمة، وتوشك أن تصل لذات المصير الذي وصلته دول يهودية سابقة.

أكد رئيس الوزراء المستقيل، نفتالي بينيت، “للإسرائيليين” “أن الدولة تقف أمام اختبار حقيقي ومفترق طرق تاريخي: إما استمرار العمل، أو العودة للفوضى، لأنها تشهد اليوم حالة غير مسبوقة تقترب من الانهيار، ومرة أخرى نواجه جميعًا لحظة مصيرية، فقد تفككت إسرائيل مرتين في السابق بسبب الصراعات الداخلية، الأولى عندما كان عمرها 77 عامًا، والثانية 80 عامًا، ونعيش الآن حقبتنا الثالثة، ومع اقترابها من العقد الثامن، تصل “إسرائيل” لواحدة من أصعب لحظات الانحطاط التي عرفتها على الإطلاق”(2). جاء حديث بينيت في 3 يونيو/حزيران 2022، عبر مناشدة من 27 صفحة، وجَّهها للمجتمع الإسرائيلي بمناسبة مرور عام على تشكيل حكومته، محذرًا أن الدولة تواجه خطر السقوط والانهيار بسبب عدم الانسجام بين مكوناتها من جهة، ومن جهة أخرى بسبب جهود المعارضة اليمينية لإسقاط الحكومة.

وحذَّر وزير الدفاع، بيني غانتس، من أن “قلقًا يكتنف مستقبل إسرائيل بسبب فقدانها السيادة في النقب والجليل، وإمكانية خسارتهما في النهاية، بسبب تعاظم الثقل الديمغرافي للفلسطينيين، ومظاهر تشبثهم بالهوية الوطنية، وقد تتقلص جغرافيًّا لتصبح ممتدة فقط بين مدينتي الخضيرة جنوب حيفا، وغديرا جنوب تل أبيب”(3). وَرَدَ تحذير غانتس في جلسة مغلقة، أوائل مايو/أيار 2022، للكتلة البرلمانية لحزبه “أزرق-أبيض”، معزِّزًا المخاوف السائدة لدى صنَّاع القرار الإسرائيلي مما يعتبرونه التهديد الديمغرافي، بسبب تزايد أعداد فلسطينيي 48 التدريجي، وفقًا لدائرة الإحصاء الإسرائيلية التي كشفت أن عددهم بلغ مليونين حتى مايو/أيار 2022، بما يزيد عن خمس سكان “إسرائيل” البالغين 9 ملايين نسمة(4).

كما أن هؤلاء الفلسطينيين داخل “إسرائيل” لا يزالون يحتفظون بهويتهم الوطنية، وهو ما أثبتته هبَّة مايو/أيار 2021 المتزامنة مع أحداث المسجد الأقصى وحي الشيخ جراح وحرب غزة، حين اندلعت اشتباكات واسعة النطاق بين الفلسطينيين واليهود في عدد من المدن العربية الفلسطينية، أهمها مدينتا اللد وعكا، مما دفع بالشرطة والجيش “الإسرائيليين” لإجراء تدريب في مايو/أيار 2022 يحاكي وقوع مواجهات مماثلة مستقبلًا(5).

كما أبدى رئيس الوزراء الأسبق، إيهود باراك، في مقال صحفي مخاوفه من قرب زوال “إسرائيل” قبل حلول الذكرى الـ80 لتأسيسها، مستشهدًا في ذلك بـ”التاريخ اليهودي الذي يفيد بأنه لم تُعمَّر لليهود دولة أكثر من 80 سنة إلا في فترتين استثنائيتين، فترة الملك داوود وفترة الحشمونائيم، وكلتا الفترتين كانتا بداية تفككهما في العقد الثامن، وإن تجربة الدولة العبرية الصهيونية الحالية هي الثالثة، على وشك دخول عقدها الثامن، وأخشى أن تنزل بها لعنته كما نزلت بسابقتها، لأن العصف يتملكنا، والتجاهل الفظ لتحذيرات التلمود”(6). وفق المعتقدات اليهودية، فقد قامت مملكتهم الأولى بين عامي 586-516 قبل الميلاد، أما حقبة الحشمونائيم فاستغرقت بين عامي 140-37 قبل الميلاد، وبالتالي فإن تجاوز “إسرائيل” للعقد الثامن يبدو مخالفًا لما درجت عليه سنن التاريخ اليهودي.

استحضر باراك في ذات المقال نماذج من شعوب العالم الذين أصابتهم “لعنة العقد الثامن”؛ فالولايات المتحدة نشبت فيها الحرب الأهلية في العقد الثامن، وإيطاليا تحولت إلى دولة فاشية خلاله، وألمانيا أصبحت دولة نازية فيه ما تسبب بهزيمتها وتقسيمها، وفي العقد الثامن من عمر الثورة الشيوعية تفكك الاتحاد السوفيتي وانهار.

أما تامير باردو، الرئيس السابق لجهاز الموساد، فأكد في محاضرة بكلية “نتانيا” أنه “بينما كثر الحديث عن التهديدات الكبيرة التي تحوم فوق “إسرائيل”، فإن التهديد الأكبر يتمثل بنا نحن الإسرائيليين، بظهور آلية تدمير الذات التي جرى إتقانها في السنوات الأخيرة، تمامًا مثل أيام تدمير الهيكل الثاني، مما يستدعي منَّا وقف هذا المسار الكارثي قبل نقطة عدم العودة، لأن “إسرائيل” تنهار ذاتيًّا. صحيح أنها غنية وميسورة، لكنها ممزقة ونازفة، والمخاطر لا تنقضي، وبعد قليل ستعمل آلية الإبادة الذاتية المتمثلة في الكراهية المتبادلة”(7).

أما رئيس الحكومة السابق، بنيامين نتنياهو، فقد سبق كل هؤلاء، بقوله في 2017: إنني “سأجتهد كي تبلغ إسرائيل عيد ميلادها المئة، لأن مسألة وجودنا ليست مفهومة ضمنًا، وليست بديهية، فالتاريخ يعلمنا أنه لم تُعمَّر دولة للشعب اليهودي أكثر من 80 سنة”(8).

يجمع هذه التصريحات والتحذيرات قاسم مشترك واحد: الخوف من سقوط إسرائيل، وانهيارها، وعدم وصولها لعامها الثمانين، سواء لأسباب داخلية ذاتية تتعلق بغياب الانسجام بين مكوناتها، وأدائها الحكومي السيء، وإمكانية تراجع الأغلبية اليهودية في الدولة، أو لعوامل خارجية متعلقة بتنامي المخاطر الأمنية والتهديدات العسكرية التي تحيط بالدولة من كل الجهات.

لم تعهد الساحة السياسية “الإسرائيلية” مثل هذه التحذيرات منذ عقود طويلة، بل اتسم نمطها السائد بالإشادة بقوة الدولة، ومناعتها، وحصانتها، وقدرتها على التغلب على مشاكلها الداخلية والخارجية، ما يطرح علامات استفهام حول صدورها تباعًا عن مختلف الأوساط السياسية والعسكرية، وبصورة متزامنة، وطبيعة دوافعها.

لقد لقيت هذه التصريحات الصادرة عن أقطاب الدولة صدى واسعًا لدى “الإسرائيليين”، لاسيما في الأوساط الصحفية والإعلامية، ومنهم من أبدى تأييده لهذه المخاوف، بل والمضي بعيدًا في تفسيرها، ومحاولة شرحها، حتى ذهب الكاتب، يغئال بن نون، إلى القول: إن “المزيد من الإسرائيليين تظهر عليهم علامات القلق الدالَّة على اليأس، ويتقدم الكثير منهم للحصول على الجنسية الأجنبية، حرصًا على مستقبل أطفالهم، لأن بعضهم يقول بصوت عالٍ: إن “إسرائيل” لن تكون موجودة لفترة طويلة، وإن إقامتها من الأساس كانت مغامرة فاشلة، ولذلك يعيشون حالة متشائمة، ويحثون أنفسهم وغيرهم على الهروب قبل وقوع الكارثة”(9).

المخاوف الداخلية

تزامنت تحذيرات “الإسرائيليين” من مستقبل قاتم ينتظر دولتهم مع ما يتداولونه من معضلة ترافقهم منذ قرابة عقدين من الزمن، وتسمى “غياب جيل التأسيس”، ويمكن اعتبارها التخوف الأول، خاصة مع دخول آرييل شارون، “ملك ملوك إسرائيل” في غيبوبته الأخيرة، أواخر 2005، وسرعان ما تبعه شمعون بيريز، المتوفى في 2016، ومن حينها بدأ الحديث “الإسرائيلي” عن نهاية عهد المؤسسين الأوائل.

تبدأ القائمة ولا تنتهي بسرد أهم مؤسسي الدولة، أمثال: ديفيد بن غوريون وموشيه ديان وغولدا مائير وإسحاق رابين وشمعون بيريز وإسحاق شامير، ممن وضعوا مصالح الدولة أولوية متقدمة. وأتى مَنْ بعدهم من الجيل الثاني ممن “لم يدفع في رأس المال”، ولم يعاصر حروبها التأسيسية، ليجعل من بقائه في السلطة أولوية حصرية، ولو كانت على حساب الدولة، وفي عهدهم انتشر الفساد والرشاوى والمحسوبية، أمثال إيهود باراك وإيهود أولمرت وبنيامين نتنياهو وأفيغدور ليبرمان ونفتالي بينيت.

مع أن المرحلة التي أعقبت غياب شارون شهدت فيها منظومة الحكم في “إسرائيل” حالة من التردي والتدهور، فقد خلفه أولمرت في رئاسة الحكومة، وما لبث أن واجه تهمًا بالفساد، ليقضي بسببها عامًا ونصفًا في السجن في 2016، عقب إدانته بتلقي رشاوى عندما ترأَّس بلدية القدس بين 1993-2003(10). أتى بعده نتنياهو، الذي قضى في الحكم اثني عشر عامًا متواصلة، بين 2009-2021، تميزت بالعديد من الإخفاقات السياسية والعسكرية؛ حيث خاض أربع حروب على غزة في أعوام 2008، 2012، 2014، 2021، دون أن ينجح بالقضاء على المقاومة الفلسطينية، وفي عهده قصفت الأخيرة مدينة القدس في آخر حربين، واقتربت إيران من حدود إسرائيل، وباتت على وشك حيازة السلاح النووي.

بجانب هذه الإخفاقات السياسية والعسكرية، فقد كشف استطلاع معهد “فانلس بوليتيكس” “الإسرائيلي” في 2017، أن غالبية الإسرائيليين بنسبة 60% يعتقدون بفساد نتنياهو(11)، ورغم ذلك، فقد انفرد بقيادة الدولة طوال هذه الفترة، وتفوق على بن غوريون في عدد سنوات الحكم، وكسر الرقم القياسي كأطول فترة حكم لرئيس وزراء “إسرائيلي”، وصلت 13 عامًا أي ما نسبته 19٪ من تاريخ إسرائيل(12).

والجدير بالذكر أن سقوط نتنياهو، في يونيو/حزيران 2021، كان على يد ائتلاف مكون من ثماني أحزاب، شكَّل حكومة ترأَّسها نفتالي بينيت بأغلبية ضئيلة مكونة من 61 مقعد كنيست من أصل 120، وتوزع الائتلاف على 19 عضوًا من اليمين و13 من اليسار و25 من الوسط و4 نواب عرب(13).

أما التخوف الثاني فهو الانقسام الداخلي وما يمكن أن يفضي إليه، لاسيما أن أهم مفردة لم تعد تخلو منها وسيلة إعلام إسرائيلية، هي “الحرب الأهلية”(14). وتعود بدايات استخدامها بهذا الشكل إلى مرحلة اغتيال رئيس الوزراء الراحل، إسحق رابين، في نوفمبر/تشرين الثاني 1995، على يد ناشط يميني، ومنذ ذلك الوقت لم تعش أية حكومة “إسرائيلية” فترتها القانونية المحددة بأربع سنوات؛ إذ تولى شمعون بيريز الحكومة الانتقالية منذ اغتيال رابين وحتى خسارته في انتخابات مارس/آذار 1996، وبعد فوز نتنياهو في الانتخابات بقي رئيسًا للحكومة حتى 1999، ثم جرت انتخابات فاز فيها إيهود باراك وتولى رئاسة الحكومة حتى 2001، إلى أن تولى آرييل شارون حكومته الأولى حتى 2003، ثم ترأس حكومته الثانية حتى 2005، وحين دخل غيبوبته الأخيرة قاد الحكومة إيهود أولمرت حتى العام 2009، ومنذ ذلك الوقت تصدر نتنياهو المشهد السياسي حتى العام 2021، إلى أن جاء نفتالي بينيت وترأس حكومته لعام واحد حيث استقال في نهاية يونيو/حزيران 2022، وهي الفترة الأقصر في تاريخ الحكومات “الإسرائيلية”(15).

وبذا، ظهرت الحلبة السياسية والحزبية في حالة من الترهل والإرباك والتدهور غير المسبوق، وشهدت تصاعدًا في الحديث عن مخاطر الانقسام والحرب الأهلية، وشهدت وصول رسائل تهديد لعائلة رئيس الوزراء المستقيل، بينيت، مع مظروف وبداخله رصاصات، في تذكير بما آلت إليه مرحلة رابين(16).

وبالعودة للانقسام الداخلي وأسبابه التي أوصلت الحياة السياسية الإسرائيلية إلى التأزم والانسداد، لعل من أهم الأسباب عدم قدرة أيٍّ من الحكومات المتعاقبة منذ ربع قرن من الزمن على إيجاد حالة من الانسجام بين مختلف مكوناتها، فضلًا عن رؤية توحدها، فقد زاد عدد الأحزاب المؤتلفة في كل حكومة، بعد أن اقتصرت حكومات العقود الأربعة الأولى على عدد محدود من أحزاب الائتلاف، لكن السنوات الأخيرة شهدت تكاثرًا لأحزاب الائتلافات الحكومية ممن اختلفت توجهاتها وأيديولوجياتها، ولم تصمد أي منها أربع سنوات كاملة.

وصلت الأزمة السياسية الحكومية “الإسرائيلية” ذروتها في عام 2019؛ حيث شهدت الدولة أربع جولات انتخابية مبكرة، لأن أيًّا من الأحزاب الفائزة عقب كل جولة لم تحصل على 61 عضو كنيست، يجعلونها قادرة على تشكيل الحكومة ولو بأغلبية ضئيلة. جرت الانتخابات في أبريل/نيسان 2019، ومن ثم في سبتمبر/أيلول 2019، ومن بعده في مارس/آذار 2020، وكذلك في مارس/آذار 2021، وستشهد “إسرائيل” انتخابات خامسة جديدة في نوفمبر/تشرين الأول 2022(17). هذا المسار يُظهر تشظي المجتمع السياسي الإسرائيلي؛ إذ لم تعد الخلافات تقتصر على الخلاف بين العمل والليكود فقط، أو بين اليمين واليسار، بل زاد الأمر سوءًا واتساعًا ليشمل الخلافات بين اليمين واليمين المتطرف، وبين المتدينين والعلمانيين، وبين الشرقيين والغربيين، وبين العرب واليهود، فضلًا عن الانقسام حول علاقة الدين بالدولة.

المخاوف الخارجية

لم تقتصر التحذيرات على صنَّاع القرار “الإسرائيليين”، بل سبقهم الخبير الإستراتيجي الأكثر شهرة في “إسرائيل”، البروفيسور يحزقيئيل درور، عضو لجنة “فينوغراد” للتحقيق في حرب لبنان الثانية، والمستشار السابق بوزارة الدفاع، الذي نشر في 2009 كتابًا بعنوان “التوجهات الأمنية والسياسية لإسرائيل”، وتحدث عن السيناريوهات السيئة المتوقَّعة لإسرائيل والمخاطر المحيطة بها، وطرح علامات استفهام حول مستقبل الدولة. من المخاطر الخارجية التي افترض “درور” وقوعها نشوب حرب مدمرة مع حزب الله، وتنفيذ هجمات صاروخية متعددة المصادر في آن واحد باتجاه “إسرائيل”، وتعرضها لهجمات كيماوية وبيولوجية، ونشوء ميليشيات مسلحة قوية تهددها، وتعرضها لهجمة معلوماتية ضارية تشوِّش أنظمتها المعلوماتية، وتنامي دعوات إقامة “دولة واحدة لشعبين” بسبب فشل المفاوضات مع الفلسطينيين، وتغيير الولايات المتحدة لسياستها الخارجية، وتخفيف تدخلها في الشرق الأوسط، وتقليل دعمها “لإسرائيل”، ورحيل جيشها عن المنطقة(18).

تشير تحذيرات درور إلى أن الخوف على إسرائيل من المخاطر الخارجية آخذ في التصاعد بدلًا من التراجع وتحديدًا في السنوات الأخيرة، وسببه الخوف من أداء المستويين السياسي والعسكري معًا، وهو التخوف الأول، وتؤكده الإخفاقات العملياتية والقتالية المتلاحقة، مع الأخذ بالاعتبار الفرق بين مرحلتين؛ مرحلة تشمل العقود الأربعة الأولى والتي شهدت “إسرائيل” فيها “إنجازات” عسكرية، لاسيما حروب 1948، 1956، 1967، 1982، ضد الفلسطينيين والعرب، وتضمنت احتلال الأراضي الفلسطينية والعربية في أيام معدودات. وبمقابلها، ما حصل في العقود الثلاثة الأخيرة من انتكاسات عسكرية وإخفاقات عملياتية، واحدة تتلوها الأخرى. تمثلت هذه الإخفاقات في اندلاع الانتفاضتين الفلسطينيتين، 1987 و2000، والانسحاب من جنوب لبنان في 2000، ثم تكراره من قطاع غزة في 2005، وصولًا لانتكاسات حرب لبنان الثانية 2006، وانتهاء بحروب غزة الأربعة الأخيرة: 2008، 2012، 2014، 2021، التي مُني فيها الجيش الإسرائيلي بإخفاقات لم يتمكن من إخفائها.

دفعت هذه الإخفاقات بالجنرال يتسحاق بريك، المفوض السابق لشكاوى الجنود، وقائد الكليات العسكرية، للتأكيد في مقال “تشريحي” عن أبرز مشاكل الجيش، أنه “رغم تجهيزاته العسكرية المتراكمة، واستعداداته التي لا تتوقف تحضيرًا لخوض مواجهات قتالية على أكثر من جبهة، لكن كارثة تنتظره، في ضوء تراجع ثقة الجمهور بقدراته العملياتية، وتدني مستوى رأس ماله البشري، وعدم قدرة التكنولوجيا العسكرية على تعويض التقهقر في الإمكانيات القتالية لجنوده، مما ساعد على نشر حالة الإحباط الآخذة في الانتشار والتوسع داخل أروقة الجيش، بالتزامن مع التهديدات التي تواجه إسرائيل”(19). فيما كشف معهد الديمقراطية الإسرائيلي، في استطلاعه المنشورة نتائجه في أكتوبر/تشرين الأول 2021، أن تراجع ثقة الإسرائيليين بجيشهم بلغ النسبة الأدنى له منذ 2008 ووصلت 78٪(20).

والتخوف الثاني في هذا السياق، عودة “المقاومة الفلسطينية” واستمرارها؛ حيث اعتقد “الإسرائيليون” أنهم تخلصوا من المقاومة الفلسطينية مرة واحدة وإلى الأبد، بعد ما قام به الجيش الإسرائيلي، عام 1982، بغزو بيروت في حرب لبنان الأولى، وتخلص من تهديد منظمة التحرير الفلسطينية بعد قتال دامٍ استمرَّ عدة أشهر، لاسيما أن هذه الأخيرة كانت تستهدف المستوطنات الشمالية بالكاتيوشا. أما اليوم، فإن ذات الجيش وبعد أربعة عقود، يرى المقاومة الفلسطينية في غزة، تتحول رويدًا رويدًا من خلايا و”عصابات” إلى جيش شبه نظامي، يقصف الجبهة الداخلية الإسرائيلية بالصواريخ والقذائف، ويفرض “حظر تجول” على ملايين الإسرائيليين، ويعطِّل العمل بمطار بن غوريون (في حرب 2014)، وسط عجز إسرائيلي عن التخلص من هذا التهديد، باستثناء تكثيف القصف العسكري للقطاع، ولم ينجح إلا في مفاقمة الخطر القادم من الجبهة الجنوبية، واستمرار التوقعات والاستعدادات لحرب خامسة في الأفق(21).

أما التخوف الثالث فيتركز في الجبهة الشمالية؛ حيث يشعر “الإسرائيليون” بمزيد من الضغط والقلق، رغم أن جيشهم دمَّر لبنان من أقصاه إلى أقصاه خلال الحرب الثانية 2006، وكبح جماح حزب الله عن إطلاق صواريخ باتجاه المستوطنات الشمالية طوال ستة عشر عامًا، إلا أن الأخير ذاته راكم قوته، وبات لديه -كما تعتقد إسرائيل- مشروع للصواريخ الدقيقة يهدد جبهتها الداخلية بأكملها، من إيلات إلى رأس الناقورة، وتتوقع أنه سيستخدم كل ترسانته الصاروخية ضدها في حال نشوب أية حرب أخرى بين الطرفين، لاسيما أن أسبابها تتزايد، وقد تشمل لبنان وسوريا معًا هذه المرة(22). وقد أضيف إلى هذه الجبهة نفسها أيضًا مخاطر أخرى؛ إذ بعد أن عاشت الحدود الإسرائيلية-السورية هدوءًا زاد عن العقود الأربعة منذ وقف إطلاق النار بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، تسببت الأزمة السورية منذ 2011 في تجدد التهديد الأمني القادم من الجولان، من خلال المجموعات المسلحة التابعة لإيران، وباتت تشكِّل مصدر تهديد لإسرائيل؛ مما يعني نشوء جبهة حربية لم تكن في الحسبان لدى المؤسسة العسكرية من قبل(23).

والتخوف الرابع هو من الجبهة الشرقية وتحديدًا من إيران؛ حيث تخشى إسرائيل من دخول طهران النادي النووي وحيازتها للقنبلة، مما زاد من جرعة التحذيرات الإسرائيلية المتشائمة من التسبب باستهداف الدولة في وجودها، خاصة أن التصنيف الإسرائيلي للتهديد الإيراني يصل حدَّ “الوجودي”؛ لأن الأمر لا يتعلق بصواريخ جوية أو اجتياحات برية، بل بتهديدات نووية كفيلة بالقضاء على الدولة، وفي هذا السياق كانت الاستعادة لمفردات “الإبادة”، ولما حصل في “المحرقة” إبَّان الحرب العالمية الثانية(24).

ويستذكر الإسرائيليون عند الحديث عن التهديد الإيراني ما فعله قادتهم الأوائل ضد مشاريع نووية مشابهة رغم أن تهديدها كان أقلَّ بكثير مما هي عليه الحال اليوم مع إيران، فمناحم بيغن، رئيس الوزراء الراحل، قضى على مفاعل تموز العراقي في 1981، وأولمرت لم يتردد بمهاجمة مفاعل دير الزور السوري في 2007(25). واليوم تُطرح أسئلة في “إسرائيل” عن سبب عدم قيام الحكومات والجيش بإجهاض المشروع النووي الإيراني منذ بداياته الأولى. حتى في المرة الأكيدة التي عزمت فيها إسرائيل على مهاجمة إيران في 2010 لم تنجح، لأن ساستها، نتنياهو وباراك، لم يستطيعا إقناع عسكرها بالهجوم (خاصة قائد الجيش، غابي أشكنازي، ورئيس الموساد، مائير داغان، والشاباك، يوفال ديسكين، والاستخبارات العسكرية، عاموس يادلين)(26)، والنتيجة الماثلة أمام الإسرائيليين اليوم، وبحسب تصريحات قادتهم، أن إيران على بعد أسابيع أو أشهر قليلة من حيازة القنبلة، بسبب “التردد والعجز والخوف” والحسابات الكثيرة التي حالت دون تنفيذهم للهجوم.

والتخوف الخامس سياسي، وهو الأبرز، ويتمثل بعدم التوصل إلى حل نهائي للصراع مع الفلسطينيين، الذي يتطلب من الإسرائيليين دفع أثمان بالانسحاب من أراض فلسطينية، وهو محل انقسام “إسرائيلي”، ما دفع إسرائيل إلى نظرية “إدارة الصراع، وليس حلَّه”، وأسفر ذلك عن استمرار “الجرح النازف في الخاصرة الإسرائيلية” بلا نهاية.

وتجدر الإشارة إلى أن رابين وبيريز إبَّان توقيع اتفاق أوسلو 1993 حاولا طي صفحة الصراع مع الفلسطينيين، عبر حلِّ الدولتين، لكن اليمين “الإسرائيلي” قرَّر “تصفية” هذا الحل بـ”تصفية” رابين جسديًّا في 1995، ومنذ ذلك الوقت دخلت القضية الفلسطينية بوابة التجميد، ولم يجرؤ أي رئيس حكومة، أو لم يُرد بالأساس، أن يدفع ثمن إنهاء الصراع مع الفلسطينيين، خاصة مع إمكانية خسارة مقاعد حزبية في معسكر اليمين(27).

والمفارقة أن الإسرائيليين مع رفضهم دفع استحقاقات حل الدولتين مع الفلسطينيين، فإنهم يخشون من تحقق حلٍّ أكثر صعوبة عليهم، وهو حل الدولة الواحدة ثنائية القومية الذي يعني عمليًّا، كما يرون، نهاية المشروع “الصهيوني” والقضاء على حلم الدولة اليهودية، لأن قيام دولة واحدة “لكل مواطنيها” وليس لليهود فقط في كل فلسطين التاريخية، سيكون الفلسطينيون فيها هم الأغلبية العددية(28).

أما التخوف السادس، فهو من فقدان دعم ورعاية الحليف الأميركي “لإسرائيل” في المنطقة خاصة بعد تراجعه النسبي مؤخرًا، لاسيما عقب ولايتي الرئيس الأسبق، باراك أوباما، بين 2008-2016، وما تبعهما من تراجع التأييد لإسرائيل في أوساط الحزب الديمقراطي وبشكل مطرد(29)، وقد أظهر استطلاع رأي أجرته جامعة مريلاند الأميركية أن نسبة تقل عن 1% من أنصار الحزب الديمقراطي الأميركي يرون إسرائيل واحدة من أكبر حلفاء الولايات المتحدة، وأن 0.5% فقط منهم يعتبرونها أوثق حليف(30).

وفي موضوع ذي صلة، فقد تراجعت قيمة إسرائيل لدى يهود الشتات، تحديدًا المقيمين في الولايات المتحدة، مما أشعل أضواء حمراء في تل أبيب ودفعها لمحاولة استدراك الأضرار الناجمة عن علاقاتها معهم بسبب تراجع أولوية “إسرائيل” لديهم، واعتبارهم الولايات المتحدة وطنهم الأول والأخير بعد أن تلقوا من إسرائيل في السنوات السابقة معاملة من الدرجة الثانية، والانزعاج الذي أبدوه بسبب نظرتها إليهم باعتبارهم فقط مصدرًا للدعم المالي والهجرات اليهودية(31).

انعكاسات ودلالات

إن ترديد مثل هذه المفردات والخطابات على ألسنة صنَّاع القرار “الإسرائيلي” وبصورة متواترة، يزيد القلق الإسرائيلي من تحقق هذا المصير الذي يجري التحذير منه، وسيدفع الحكومات لتخصيص الحيز الأكبر من سياساتها للقضايا الداخلية، بغية ترميم الأعطاب التي لحقت بالدولة على حساب الاهتمام بالمخاطر الخارجية.

وسيزداد هذا التركيز بصورة مطردة بالتزامن مع استمرار الأزمة السياسية والدستورية في “إسرائيل”، التي وصلت مآلاتها لاستقالة رئيس الحكومة، نفتالي بينيت، وتولي نائبه، يائير لبيد، مقاليد الحكم، والإعلان عن تنظيم انتخابات خامسة في نوفمبر/تشرين الثاني 2022. وهذا لن يعني بالضرورة طي صفحة هذه الأزمة، لأن غالبية استطلاعات الرأي “الإسرائيلية” التي أُجريت في الأيام الأخيرة، لا تمنح أيًّا من الأحزاب الفائزة في الانتخابات المقبلة القدرة على توفير 61 عضو كنيست ليكوِّنوا شبكة أمان برلمانية تحتاجها أية حكومة(32). هذا يعني استمرار حالة الانسداد السياسي الداخلي وعدم تشكيل حكومة مستقرة تحوز أغلبية برلمانية قوية، لتضع على أجندتها مواجهة التهديدات الخارجية وليس إرضاء حزب هنا أو عضو كنيست هناك؛ ما يعني استمرار عدم الاستقرار كما هو الأمر في السنوات الأخيرة.

وعند الحديث عن انعكاسات هذا الخطاب تجاه المخاوف الخارجية، فإن حالة عدم اليقين تجاه إمكانية اندلاع واحدة من المواجهات المحتملة في أيٍّ من الجبهات المحيطة بإسرائيل، تجعلهم أكثر توترًا وقلقًا، وأقل شعورًا بالاطمئنان تجاه قدرة الدولة على مواجهة هذه المخاطر، سواء بسبب عدم تفرغها للخارج وتركيزها على الداخل، أو بسبب حالة التباين بين مكونات صنع القرار، السياسي والأمني والعسكري، تجاه التعامل مع كل تهديد خارجي على حدة.

وفي الوقت ذاته، من الصعوبة بمكان اعتبار هذه التصريحات والتحذيرات المتواترة شأنًا داخليًّا، لأن الأطراف الخارجية، الأعداء والأصدقاء منهم، يتابعون هذا الخطاب المستجد على إسرائيل. فالأعداء يعتبرونه تعزيزًا لتقديراتهم أو ربما “تنبؤاتهم” ذات الأبعاد الدينية الغيبية التي يعتنقونها، وسيدفعهم لزيادة مواجهتهم لإسرائيل والضغط عليها أكثر للتعجيل بهذا المصير، وفي سبيل ذلك ستعمد هذه القوى لزيادة قدراتها العسكرية وإمكانياتها التسلحية، والمبادرة لخوض مواجهات قتالية تعمل على استنزاف “إسرائيل”.

أما أصدقاء إسرائيل فسيرون في الخطاب مصدر قلق رغم أنهم يعتبرونها قوة إقليمية أساسية في المنطقة، وبالتالي فإن صدور هذه المخاوف ومن داخل إسرائيل على مصيرها ومستقبلها، يضع علامات استفهام حول مدى وجاهة الاعتماد عليها. مع ملاحظة أن خطاب الخوف الإسرائيلي على المصير يتزامن مع زيادة معدلات التطبيع العربي-الإسرائيلي، من حيث تواصل الزيارات المتبادلة وتوقيع الاتفاقيات في مختلف المجالات، إضافة إلى الحديث المتواتر عن قرب إنشاء ما يقرب من حلف أمني إقليمي يضم إسرائيل وعددًا من الدول العربية في المنطقة(33).

ومن هذا المنظور، ليس من المستبعد أن الحراك الذي تبذله إسرائيل إقليميًّا لمحاولة دمج نفسها في منظومات المنطقة، قد يأتي في محاولة الحد من الخسائر الناجمة عن مخاوفها هذه التي عبَّر عنها قادتها، ولترميم الصورة المتصدعة التي نتجت عن تنامي وتوالي الإنذارات والتحذيرات مما قد ينتظرها في المستقبل.

خاتمة

لا يُتوقع أن تتوقف هذه التحذيرات “الإسرائيلية” طالما أن الظروف التي دفعت لخروجها إلى السطح ما زالت قائمة، داخليًّا وخارجيًّا، بل قد تزيد مع مرور الوقت، لاسيما إن بقي الانقسام “الإسرائيلي “رأسيًّا وعموديًّا، من جهة، وتزايدت تهديدات القوى المعادية “لإسرائيل”، من جهة أخرى.

من الصعوبة بمكان الاستنتاج أن “إسرائيل” تذهب لهذا الخطاب بصورة طوعية، أي إنها تتحدث عن مخاوفها انطلاقًا من ترف فكري أو نقاش ثقافي بحت، بل إن الدافع لإثارة مثل هذه التساؤلات الوجودية نابع من مخاوف ذاتية حقيقية، تستشعر أن هناك خطرًا داهمًا على الدولة، قد يتسبب بانهيارها. هذا يعني أن إسرائيل ربما دخلت طورًا من التطلع لحماية بقائها على أفضل تقدير، والعمل على ترحيل ما ترى أنها أسباب فنائها، ما قد يعمل على تأخير تطلعها إلى مزيد من التوسع والتمدد الإقليمي والدولي.

لا شك أنَّ تعزز هذه المخاوف يدفع “إسرائيل” لأن تبقى في حالة استنفار عسكري دائم، سواء استعدادًا للمعركة المقبلة، أو خوض هذه المعركة، ومنح كل مواجهة منها صفة “المعركة الوجودية”، رغبة من الدولة في تحشيد جميع المكونات الإسرائيلية خلف الجيش، من جهة، وتأجيل الخلافات الداخلية التي قد تربك الساحة الإسرائيلية، وتشتت انتباهها عن المعركة الخارجية، من جهة أخرى.

والملاحظة الأخيرة هنا، أن التحذيرات والمخاوف من انهيار الدولة، صادرة عن نخب قيادية من صفها الأول -وتتجاوز لعبة الاستقطاب السياسي والمزايدة الحزبية- ما يؤكد جديتها وجدية أصحابها، وتضفي مصداقية على المخاوف من احتمال وقوع الدولة في فخ الاحتراب الداخلي.

عن مركز الجزيرة للدراسات

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.