الغماز يكتب: منابر إعلامية بعيدة عن المصداقية والمهنية

سعيد الغماز

“الخبر مقدس والتعليق حر”، هذه هي القاعدة الذهبية التي نشأ على أرضها الإعلام وعمَّر فيها طويلا إلى أن برز ما يصطلح عليه مجتمع الإعلام والتواصل. قبل ثورة الشبكات الإجتماعية، كان الإعلام يتمتع بنوع من المصداقية جعلت منه مصدرا موثوقا لوصول المعلومة وتبليغ الخبر. وكان الصحفي أو الإعلامي حريصا كل الحرص على مصداقيته وعلى تحري الحقيقة في مقالاته وإنتاجه الإعلامي بشكل عام. وحتى تعليقاته على الخبر كان يخضع لمعايير أخلاقية ومهنية حتى لا يكون هناك تناقض بين مضمون الخبر وطبيعة التعليق أو مجرد زيغ أو تحيز أو انتصار لوجهة نظر على حساب حقيقة الخبر.
بطبيعة الحال لا يمكن أن نتحدث عن اليقين أو الكمال في مجال ينتمي لصنف العلوم الإنسانية. فالنزعة البشرية والقناعات الفكرية تكون حاضرة في مخيلة الصحفي أو الإعلامي، وبالتأكيد تؤثر على كيفية تناوله الخبر وعلى شكل تعليقه على الحدث. لكن هذه التأثيرات الذاتية لم تكن بالحجم الذي يشوه الخبر ويُخرِجه عن سياقه كما هو حال الكثير من المنابر الإعلامية في وقتنا الراهن.    يعتبر الباحث تورديو أن التواصل البشري عبر التاريخ مر من ثلاثة مراحل: مرحلة اختراع الكتابة من قبل السوماريين وهي مرحلة تميزت بقليل من الكتاب لقليل من القراء لأن من يتقن الكتابة والقراءة كانوا قلة. المرحلة الثانية هي مرحلة اختراع “غوتنبرغ” للطباعة وتميزت هذه الحقبة التاريخية بكثير من القراء لقليل من الكتاب، وهو أمر طبيعي لأن الطباعة ساعدت على إيصال المنتوج الإعلامي لأكبر عدد من القراء. المرحلة الثالثة هي مرحلة ثورة الإعلام والتواصل التي احتلت فيها مواقع التواصل الإجتماعي صفة المهيمن. وهي مرحلة عنوانها البارز “الكل قارئ والكل كاتب”، بمعنى أن الكل ينتج المعلومة والكل يستهلك الإنتاج الإعلامي. بهذا الشكل غابت الحقيقة وضاعت المصداقية وأصبح الإعلام كالبضاعة حين تكثر في السوق ينخفض ثمنها. في هذه المرحلة يتجه الإعلام ليصبح جسدا بلا روح وبضاعة بلا جودة.    وما الانتخابات الأخيرة التي عرفها المغرب إلا تجسيد لهذه المرحلة التي غابت فيه مصداقية الإعلام وأصبح المنبر الإعلامي يباع ويشترى كالبضاعة. لقد شكلت الإنتخابات الأخيرة منعرجا خطيرا ومفضوحا في جدية المنابر الإعلامية ومصداقية الصحفي والإعلامي الذي يشتغل فيها. لم يعد للخبر في هذه المنابر أي قيمة، بل تم اختزال الخبر في كيفية التعليق عليه لجعله يتماشى مع رغبة زعيم الحزب السياسي الذي يمول تلك المنابر الإعلامية. لقد أصبحنا نقرأ موادا إعلامية تحمل عنوانا لا علاقة له بمضمون الخبر، وفي بعض الأحيان نجد عنوان المقال يحمل رسالة لتوجيه الرأي العام إلى وجهة هي نقيض الخبر الذي يتطرق له المقال. وهو ما جعل البعض يتحدث عن منابر العناوين التي تهتم بالعنوان فقط ولا تعطي أي اهتمام لتحليل الخبر أوكيفية تناول الحدث. هذا دون الحديث عن التلاعب بالصورة بحيث يطرح المنبر الإعلامي عنوانا قدحيا ويرفقه بصورة الشخص المراد تشويه سمعته. والمقصود هو جعل صورة تلك الشخصية مقرونة بمضمون العنوان  في مخيلة القارئ.
أكثر من ذلك أصبحنا نجد منابر إعلامية تنتصر لوجهة نظر زعيم سياسي، سيصبح رئيسا للحكومة، على حساب الحقيقة والمصداقية. عند هذه المنابر، لم تعد للخبر ولا للحقيقة ولا للتاريخ أية قيمة ولا أي اعتبار. فمهمة المنبر الإعلامي هو تزيين كل شيء لدى الرأي العام حتى لو تطلب الأمر تزيين القبيح ومدح الانحراف والاعوجاج. بهذا الشكل أصبح الغلاء أمرا محمودا ويجب التعايش معه، وأصبح سحب قانون الثراء الفاحش يخدم مصلحة الوطن، وتفشي الفساد مجرد مزايدات سياسية، وريع المناصب لصالح  الزوج والأبناء والأقارب بحث عن الكفاءات، وشراء السيارات الفارهة من المال العام بمجرد تولي المناصب يدخل في توفير الشروط الجيدة للاشتغال والعمل، والمجتمع المدني الذي يراقب المال العام أصبح عمله يوصف بالعمل المُعيق للتطور ويتسبب في ضياع وقت المنتخب وإعاقة عمله واشتغاله…. إنه فعلا البضاعة وليس الإعلام التي يَنقُص ثمنها حين تكثر في الأسواق.       لم نعد نقرأ منابر إعلامية وإنما نقرأ مستعمرات لأحزاب سياسية ولنفوذ سلطة المال. لكن التاريخ علَّمنا أن مع كل استعمار تكون هناك مقاومة لهزمه. فإلى جانب هذه المستعمرات الإعلامية هناك مقاومة لمواجهتها وتحرير أرض الإعلام ليبقى الزعيم الحزبي يتحرك في دائرته الطبيعية كباقي المنافسين. هذه المقاومة هي تلك الأقلام الحرة التي لا زالت متمسكة بمصداقيتها وبأخلاقيات مهنة المتاعب حتى تبقى للإعلام حرمته ومكانته كما كان الأمر في الماضي. وحتى يبقى الإعلام رسالة نبيلة وليس بضاعة رخيصة.

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.