محمد عصام يكتب: ماذا بعد فاتح ماي ؟!!
محمد عصام
انفضت مسيرات فاتح ماي، وطوي الكلام الكثير الذي قيل على منصات الخطابة التي تناوب عليها النقابيون كما السياسيون، فما هو حصاد هذا اليوم في حصيلة الطبقة العاملة؟ وأي أفق رسمته تلك الاحتفالات بالسياقات التي جاءت فيها؟
لقد حافظت النقابات على عادتها في تقمص دور المدافع عن العمال، والتلويح بغضبها، فحتى النقابات التي وقعت مع الحكومة اتفاق أبريل والتي صرح زعماؤها عقب التوقيع في تصريحاتهم للصحافة بأنه اتفاق تاريخي وغير مسبوق وثمنوا ما جاء فيه من زيادات في الأجور وفي الحد الأدنى في الأجر وفي مراجعة الضريبة على الدخل.. ما إن اعتلوا منبر الخطابة في فاتح ماي حتى بدأوا يستدركون على الاتفاق ويحذرون من المس بالمكتسبات واعتبار التقاعد خطا أحمرا بل بالغ أحدهم فحذر من زواج المال بالسلطة وهو الموقع على اتفاقات مع التجلي الأكبر لهذا الزواج في تاريخ المغرب.
هذه الازدواجية في العمل النقابي هي ما يفسر تناسل التنسيقيات في كل القطاعات تقريبا وقيادتها لنضالات المنتسبين لها، وهو ما يعمق عزوف الفئات عن العمل النقابي وزهدهم فيه لانعدام الثقة ونضوب المصداقية في النخب النقابية وفي مركزياتهم.
وهذا أيضا ما يفسر أيضا استمرار الاحتقان في مجموعة من القطاعات رغم “الهدايا” التي تزعم الحكومة أنها قدمتها للشغيلة من خلال الزيادات المعلن عنها في الاتفاق، فقطاعات العدل والصحة والجماعات الترابية كلها تعيش على صفيح ساخن لم تستطع اتفاقات الحكومة مع نقاباتها أن تطفئ ناره المشتعلة منذ أشهر.
إنها مفارقة غير مسبوقة تطرح أكثر من سؤال، إذ لم يسبق في تاريخ المغرب أن تتزامن الزيادات في الأجور مع الزيادة في الاحتقان والإضرابات، وهذا الوضع لا يجد تفسيره إلا في غياب الثقة في الحكومة والنقابات الموقعة معها، وأيضا في ارتفاع الوعي لدى كثير من الفئات في أن هذه الاتفاقات لا تعدو أن تكون غطاء لمقايضات تحت الطاولة، تشتري بها الحكومة صمت الموقعين معها.
وهذا الأمر كان مكشوفا في اتفاق 30 أبريل 2022، حيث قايضت الحكومة برفع الدعم للنقابات ب 30 % من أجل توقيع الاتفاق.
واليوم في اتفاق 29 أبريل 2024، قايضت الحكومة أيضا نفس النقابات بتمرير خطتها لإصلاح التقاعد والقانون التنظيمي للإضراب، كما أن النقابات قايضت بعدم إخراج قانون النقابات حفاظا على الوضع الحالي الذي يكرس وضع الغموض والريع وتأجيل الديمقراطية الاجتماعية وغياب الشفافية المالية.
من جهة أخرى، المواطن العادي اليوم الذي يكتوي بنار الأسعار الملتهبة في كل المواد الضرورية، لن يستطيع الثقة في كل هذه الاتفاقات التي لن تنعكس على قفته اليومية، ولن تجدي نفعا في خفض الأعباء على الأسر، وأرقام مندوبية التخطيط صادمة في هذا الباب، فأزيد من 82 % من الأسر المغربية صرحت بتدهور مستوى معيشتها سنة 2023، و42،1% من الأسر استنزفت مدخراتها ولجأت إلى الاقتراض، هذه الوضعية كان من نتائجها انخفاض مؤشر ثقة الأسر إلى أدنى مستوى له منذ اعتماد هذا المؤشر سنة 2008.
في وضع كهذا يبقى مدخل السياسة أساسيا بل ملحا ولا مفر منه، والرهان على “الرأسمال” أو “الخبرة التكنوقراطية” رغم “هدايا” الاتفاقات الاجتماعية وصنبور الدعم المفتوح بسخاء، لن يكون مجديا بالمرة، فاستعادة الثقة ورفع منسوب المصداقية في الفاعل السياسي والمؤسسات عموما، هي الكفيلة لوحدها لتأسيس تعاقد سياسي/ اجتماعي جديد يمكن أن يجنبنا المجاهيل والاحتقانات الاجتماعية والتي كلف واحد منها، وأقصد الاحتقان في مجال التعليم هدرا للزمن المدرسي لم يسبق له مثيل في تاريخ المغرب وكاد يعصف بالسنة الدراسية برمتها، واليوم هناك احتقان شبيه له في كليات الطب والصيدلة، ولحدود الساعة الحكومة عاجزة عن احتواء الأزمة واجتراح حلول لها.
ومما يزيد مؤشرات الشك في الحكومة وفي الاتفاقات التي تبرمها وكذلك في السخاء التي تبديه في الدعم الموجه لفئات محدودة ومحظوظة، هو غياب الشفافية والوضوح في تأمين الموارد لتغطية تكاليف هذه الإجراءات واستدامتها، فالمغاربة كلهم يعرفون الصعوبات التي تمر منها البلاد لتوالي سنوات الجفاف، كما أن الحكومة لا تبذل أي مجهود لتطوير وتنمية الموارد العادية.
والذي يظهر أن شهية الحكومة انفتحت بشراهة لبيع ممتلكات المغاربة ضمن ما يسمى بالتمويلات المبتكرة وهي لا تعدو أن تكون مديونية مبتكرة، وهذه العملية ضخت وستضخ ما يزيد على 80 مليار درهم في خزينة الدولة. كما أن المديونية المباشرة بلغت مستويات لم تبلغها من قبل حيث استدانت الحكومة مبلغ 140 مليار درهم في ظرف سنتين فقط.
فهل بمثل هذه التدابير التي تفرط في المكاسب، وترهن خزينة البلاد بهدايا “مشبوهة” سيتم شراء السلم الاجتماعي واستدامته؟ لا أعتقد وإن غدا لناظره لقريب.