هشام امساعدي: تجميدُ النظام الأساسي قرارٌ يُطيل حياة الاحتجاج ويُسَوِّفُ الحل

مازالت نتائج الحوار بين الحكومة والنقابات الأكثر تمثيلية حول ملف النظام الأساسي لموظفي التعليم المشؤوم تقدح بِشَرَرِها على الساحة التعليمية، وتُلقي بظلالها الداكنة على الشارع المغربي المتوجس من تواصل الإضرابات في المدرسة العمومية، وتأثيرها على مستقبل السنة الدراسية الحالية. آخر فصول هذا الحوار الدرامي غير الجاد هو اللقاء الذي جرى الاثنين 27/11/2023 بين رئيس الحكومة واللجنة الوزارية (والمكونة من بنموسى وثلاثة وزراء بالحكومة)، وبين النقابات لما يقارب ست ساعات. فمقابل عودة الأساتذة إلى فصولهم، وعدت الحكومة النقابات التعليمية بثلاثة وعود كفيلة في نظرها بحلحلة هذا الملف الشائك، وهي:
1 ـ تجميد العمل بالنظام الأساسي في أفق التعديل؛
2 ـ تحسين الأوضاع المادية لموظفي التعليم؛
3 ـ توقيف مسطرة الاقتطاعات من أجور المضربين (خاصة في الإضرابات الأخيرة).
وتعليقا على هذه المخرجات الخاذلة المخيبة لآمال الشغيلة التعليمية، أقول إن الحكومة مازالت مصرة على الالتفاف على مطالب الشغيلة التعليمية، والترويج للمغالطات وتضليل الرأي العام تارة بتبني سياسة اليد الممدودة للحوار تعبيرا منها عن حسن النية، وانتقاد إضرابات الأساتذة وتحميلهم مسؤولية حرمان التلاميذ من الدراسة، وأخرى باتهام النقابات الأكثر تمثيلية بعرقلتها لزيادة مهمة في الأجور كانت ستجنب الحكومة هذه الأزمة، وتارة ثالثة بتهريب أزمة التعليم إلى الحكومتين السابقتين، ومع اتفاق التجميد أضيف مظهر رابع من مظاهر التضليل وهو تغيير الأسماء واللعب بالمصطلحات، عوض أن تنصب جهودها على معالجة جوهر المشكلة الذي أدى إلى هذا الاحتقان غير المسبوق في تاريخ التعليم بالمغرب. فالجميع يعلم أن الموسم الدراسي 2023 ـ 2024 انطلق في ظروف عادية رغم الإكراهات الكثيرة، وشرع الأساتذة في تقديم الدروس؛ والجميع يعلم أن الشرارة التي أشعلت فتيل الاحتجاجات في المدرسة العمومية هي صدور النظام الأساسي العبودي، فلماذا تبحث الحكومة في ثنايا الهامش وتترك الكتابة حول النص المطبوع؟
إن هذه المخرجات الملغومة ستُذْكِي ـ لا محالة ـ جِذْوَةَ التصعيد من جديد في لعبة شد الحبل بين الحكومة والأساتذة، مع تعمد عدم ذكر النقابات الأكثر تمثيلية لأن دورها انتهى عند التوقيع على نظام المآسي. فالأساتذة ليسوا مدمني إضراب كما تصورهم الحكومة، وليسوا عبيدا للدرهم حتى يصرفوا همتهم كلها نحو الزيادة في الأجور، ومطالبهم واضحة وغير ملتبسة. وإن تعددت مشاربها فهي تصب في مبتغى واحد: سحب النظام الأساسي في صيغته الحالية، وإعادته إلى طاولة الحوار لبناء نظام أساسي جديد ينصف جميع الفئات، ولا يقصي الفاعلين الحقيقيين في الحقل التربوي وفق مقاربة تشاركية تجيب عن الأسئلة المستعصية وتستجيب للانتظارات الاجتماعية والتربوية الملحة.
وسأقف هنا عند جملة من الاختلالات سواء في منهجية الحوار في لقاء الاثنين أم في مخرجاته، تفسر كلها أسباب رفض رجال ونساء التعليم لمقترحات الحكومة والنقابات في اتفاق التجميد، وتدفع في اتجاه تفهم مخاوفهم المشروعة. وسأتناولها من ناحتين:
أولا ـ من ناحية الشكل
1 ــ عدم صدور أي بلاغ حكومي لحد الآن بشأن اللقاء مع النقابات الأكثر تمثيلية حول الأوضاع التعليمية، يحترم الرأي العام ويوضح له ما ترتب عن المفاوضات مع النقابات في الحوار القطاعي. وهو ما يبرهن من جهة أن الحكومة غير جادة في حوارها مع النقابات أو على الأقل لا تُولِي الاعتبار اللازم لممثلي رجال ونساء التعليم أثناء الحوار لأن قاعدة التفاوض تقتضي الحوار والنقاش بين طرفين مختلفين في الطرح/التصور لكنهما متكافئين في إيجاد الحلول؛ كما يبرهن من جهة أخرى استمرار الحكومة في اعتماد الشروط نفسها في منهجية الحوار القطاعي التي أدت إلى الاحتقان في الساحة التعليمية، والمتمثلة في: السرية والتكتم، وفرض الرؤية الأحادية والفوقية في معالجة الأزمة، ومعاكسة إرادة رجال ونساء التعليم؛
2 ــ عدم إصدار النقابات الأربع بلاغا إخباريا مشتركا، وتلكؤ نقابتين عن إصداره بشكل منفرد إلى وقت متأخر من الليل، يؤكد الشِّقاق الكبير الحاصل بين مكوناتها في المواقف النضالية والتفاوضية، والذي تَفَجَّر بعد الانقلاب في الموقف على الوزير بنموسى، واتهام قيادات نقابية قطاعية لمركزية نقابية بارزة بتوريطها لهم في التوقيع على نظام المهزلة. يضاف إلى ذلك اختلاف آخر طفا على السطح يتعلق بإعطاء التصريحات (وإصدار البيانات) من عدمها، والتي تهم الاجتماعات مع رئاسة الحكومة واللجنة المكلفة بالحوار القطاعي، فلكأن من صرَّح بشيء يخالف إرادة الحكومة ورئيسها سيعاقب. وهو ما عمق الفجوة بينها وبين القواعد الجماهيرية؛
3 ــ الجدية في الحوار بين الحكومة والنقابات تقتضي الجلوس حول جدول أعمال واضح في كل جلسة، وتوقيع محضر بين الطرفين في آخر كل جلسة يتضمن النقط المتفق عليها والنقط العالقة وأهم التوصيات، وليس مجرد وعود من رئاسة الحكومة بالتجميد أو بتشكيل لجنة من اللجان للنظر في أزمة عمَّرت ستة أسابيع متتالية، كما لو أن هذا المشكل هو وليد اللحظة ولا علم للحكومة به؛
4 ــ استدعاء رئاسة الحكومة لوزير الإدماج الاقتصادي والمقاولة الصغرى والشغل والكفاءات “يونس السكوري” في اللجنة الرباعية التي ستتولى الحوار مع النقابات، دون الوزيرة المكلفة بالوظيفة العمومية، يؤكد أن الدولة/الحكومة ماضية في إخراج ما تبقى من موظفي وزارة التربية الوطنية من قانون الوظيفة العمومية إلى قانون قطاع التربية الوطنية على غرار الأساتذة الذين فُرض عليهم التعاقد، وذلك استجابة لإملاءات الصناديق الدولية. فنحن بهذا المنطق التعسفي في الإصلاح أصبحنا موظفين في القطاع ولسنا موظفين تابعين للدولة. وبعبارة أخرى: نحن مستخدمون بالمؤسسات العمومية التابعة للدولة ولم نعد موظفين تابعين للوظيفة العمومية. ما يعني غياب الهُوية الوظيفية أو الهُوية المهنية لدى رجال ونساء التعليم. وهذا من المؤاخذات الكبرى على النظام الأساسي الجديد…
ثانيا ـ من ناحية المضمون
1 ــ التجميد يعني التوقيف المؤقت للنظام الأساسي مع إمكانية استئناف العمل به لاحقا، أو هو تعطيل للعمل بمقتضيات هذا النظام لمدة تحددها الحكومة قبل العودة للعمل به من جديد. وقد تعلمنا في علم الفيزياء، أن تجميد المادة يحافظ على جميع خصائصها دون أن تموت. إذاً فالتجميد لا يعني الإلغاء والنسخ، ويُبقي النظام الأساسي ساري المفعول إلى أجل تختاره الحكومة. وبناء عليه، فقرار التجميد لن يُبَدِّدَ مخاوف الأساتذة الرافضين لهذا النظام، بل بالعكس يخالف إرادتهم ويزيدهم إصرارا على الخروج إلى ساحات النضال؛
2 ــ معلوم في لغة القانون أن القوانين (والنظام الأساسي هو مجموعة قوانين) تُنسخ بالقوانين وليس بوعد من رئيس الحكومة أو وزير في قطاع من القطاعات. ولذلك فقرار التجميد إجراء غير قانوني. وإذا كان رئيس الحكومة يريد الظهور أمام الرأي العام في صورة رجل الدولة الذي يحترم المؤسسات الدستورية وما يصدر عنها من قوانين وأنظمة، خاصة بعد صدورها في الجريدة الرسمية، فإننا نسائله بروح العقل والمنطق: لو أن مديرا تابعا لوزارة التربية الوطنية (مدير أكاديمية، مدير إقليمي، مدير مؤسسة تعليمية) أراد اتخاذ إجراء من الإجراءات الإدارية، هل سيتصرف بناء على القوانين المنظِّمة في نظام 2003 بعد تجميد نظام 2023، أم سيعمل بمقتضيات نظام 2023 في وضعية تجميد؟
3 ــ تحسين الأوضاع المادية لرجال ونساء التعليم مطلب أساسي لتحييد سبب من أسباب الاحتقان، لكن تحقيقه يستلزم إجراءات قانونية محددة وليس مجرد وعد على غرار الوعود الانتخابية الكاذبة (تحسين دخل الأساتذة ب 2500 درهم)، وأول هذه الإجراءات القانونية إدراج هذه الزيادة في قانون المالية لسنة 2024 تعبيرا من الحكومة عن حسن نواياها في التوصل إلى حل. وبالنظر إلى أمد الحوار الذي اقترحه رئيس الحكومة (يمتد إلى غاية 15 يناير 2024) على النقابات، يتضح بالملموس أن هذا التاريخ يمثل دخول قانون المالية 2024 حيز التنفيذ، وإذا كانت هناك زيادة في أجور موظفي التعليم، فلن يُحَصِّلُوها إلا في قانون المالية لسنة 2025 في أحسن الأحوال. وهو تخوف مشروع له ما يفسره عند الأساتذة في ظل تصريحات بعض مكونات الأغلبية الحكومية بالانتقام والثأر في حالة حاول رجال ونساء التعليم ليَّ ذراع الحكومة؛
4 ــ توقيف مسطرة الاقتطاعات من أجور المضربين (خاصة في الإضرابات الأخيرة) كان سيكون نقطة مضيئة في اتفاق التجميد، لو صَاحَبَهُ ما يوضحه من قبيل: تحديد المقصود بكلمة “الأخيرة”: عدد الأيام أو الأسابيع أو الشهر الأخير؛ تحديد زمن الاقتطاع، نسبته… أما تركها عامة دون تخصيص فيدعو إلى مزيد من الشك والريبة. وإذا ما ربطنا السابق باللاحق، فإن دائرة القلق ستتسع عند السادة الأساتذة لأن 15 يناير 2024 هو تاريخ إدخال نقط المراقبة المستمرة للدورة الأولى، وليس مستبعدا أن تثأر الحكومة من الأساتذة بالاقتطاع مباشرة بعد إدخالهم لنقط المراقبة المستمرة بعد ضمانها إنجاح الموسم الدراسي بدورة واحدة…
من هذه المخرجات المحدودة والملغومة في آن واحد، يمكن الخلوص إلى نتيجتين تتعلقان بمنهجية الاشتغال على الأزمة أو الحكم عن الإرادة السياسية في حل الأزمة، اثنتان من جهة الحكومة ومثلهما من جهة النقابات، نوردهما كما يلي:
ـ من جهة الحكومة: إما أنها لا نية لها في التراجع عن هذا النظام المشؤوم حتى ولو كلف الدولة هدرا مدرسيا يقاس بملايين الساعات والدراهم، ولم يعد ينفع معه علاج سوى احتساب سنة دراسية بيضاء، وفي هذه الحالة فهي باستدعائها للنقابات إنما تراهن على التسويف والمماطلة، وتعمل على كسب مزيد من الوقت لإنهاك المناضلين والمناضلات وكسر وحدتهم بحلول ترقيعية تلتف على مطالبهم المشروعة؛ وإما أنها لا تملك رؤية للخروج من هذه الورطة بأفضل الحلول أو بأقل الخسائر الممكنة، وهو ما يشكك من جديد في قيمة وزراء حكومة الكفاءات التي مازالت تبحث عن كفاءات لإيجاد الحلول للأزمات والمشاكل العالقة؛
ـ من جهة النقابات: إما أنها تشعر بأن الجماهير الأستاذية تجاوزتها ولم تعد قادرة على تنظيم الساحة التعليمية والتحكم في اختياراتها، وعليه فإن دعوتها الشغيلة التعليمية إلى الرجوع إلى الفصول كعدمها لن تجد الآذان الصاغية، مما سيشكل انتكاسة أخرى للنقابات بكشف حجمها الحقيقي أمام الدولة، التي ستستمر في إخضاعها عن طريق التلويح بتغيير مائدة الحوار مع لاعبين آخرين أثبتوا مصداقيتهم وقوتهم في الميدان (التنسيقيات) في حالة اصطفافها إلى جانب الشغيلة ورفع سقف الاحتجاج في المستقبل؛ وإما أنها لم تعد تملك الجرأة على مطالبة الحكومة بسحب النظام بعد تورطها في التوقيع ـ على بياض ـ على بنوده في 14 يناير 2023، وتهديد بعض الأطراف الحكومية والموظفين المركزيين لزعماء النقابات بإخراج مداخلاتهم الممجِّدة للنظام الأساسي في جلسات الحوار السرية إلى العلن، ومعها أمور أخرى.
وختاما، إذا كانت مدة شهرين من الإضرابات التي خاضها رجال ونساء التعليم التي شلت الحياة بالمدرسة العمومية، لم تكلف الحكومة سوى تغيير حرف الواو في “تجويد النظام الأساسي” بحرف الميم “تجميد النظام الأساسي”، فما هي الكلفة النضالية التي سيحتاجها رجال ونساء التعليم حتى تستجيب الحكومة لمطلبهم في تغيير كلمة “تجميد” بكلمة “سحب” النظام الأساسي؟ فتحية للثلج، وسُحْقًا للثلاجة.
إن بناء الثقة بين الأطراف الثلاثة (الحكومة والنقابات والأساتذة) يتطلب قرارات واضحة يفهمها الجميع، وتُسندها إجراءات قانونية دستورية، وتتطلب آجالا محددة لا تحتمل التمطيط والتسويف، فضلا عن التدقيق اللغوي وعدم اللعب بالمصطلحات. أما منهجية الإقصاء والتعالي التي تنهجها الحكومة في الحوار مع النقابات والفاعلين الأساسيين، فإنها ستعيد إنتاج المخرجات ذاتها التي تسببت في الاحتقان، وستطيل عمر الاحتجاجات وسط تشبث الشغيلة التعليمية بإسقاط نظام المآسي. “فلا يرفع سعر الخيول إلا السباقات التي تخوضها، ولا يرفع قدر الرجال إلا المواقف التي تتبناها” كما يقال.

تيط مليل في: 28/11/2023

شاهد أيضا
شارك برأيك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.